نشرت الهافينتون بوست نقلا عن مجلة جون أفريك تقريرا عن أرشيف وكالة المخابرات المركزية، الذي خرج للنور مؤخراً، كشف لنا كواليس النظام السياسي في الجزائر، وتحديداً خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1962 و1988، وعملاً بقانون 1966، الذي يضمن حرية امتلاك المعلومة، أعطت الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الضوء الأخضر لتسريب بعض الوثائق المتعلقة بالجزائر. جهود مشتركة لأجهزة استخبارات أعدت وكالة المخابرات المركزية عدة وثائق وتحليلات ودراسات، وقدمتها لمكتب الرئيس الأميركي قبيل زيارة الرئيس السابق للجزائر، الشاذلي بن جديد، لواشنطن في سنة 1985. وقد شملت هذه الوثائق حقائق حول النظام الجزائري، وترسانته العسكرية ووضعيته الاقتصادية، فضلاً عن علاقة الجزائر بجيرانها. وتضمنت التقارير معلومات تخص بالأساس الحالة النفسية للرئيس الجزائري في ذلك الوقت. والجدير بالذكر أنه قد وقع التكتم على هذه الوثائق فترة طويلة؛ بغية حماية المصادر التي نقلت المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالجزائر خلال الفترة الممتدة بين 1962 و1980. على العموم، تعد هذه الوثائق ثمرة تعاون دولي بين مختلف أجهزة الاستخبارات في العالم. "بومدين المخلص" هل بالغت وكالة المخابرات المركزية الأميركية عندما تحدثت عن قدرات الرئيس الجزائري السابق، أحمد بن بلة، الذي وصل إلى سدة الحكم سنة 1962 بمساعدة جيش الحدود الجزائري؟ تطرقت الوكالة إلى الوضع السياسي لهذا الرئيس في تقرير يعود تاريخه إلى يوم 23 ديسمبر من سنة 1964، ورد فيه: "نحن نؤمن بأن حظوظ بن بلة في الحفاظ على كرسي الرئاسة ما زالت قائمة خلال السنتين القادمتين". في ذلك الوقت، توقع مركز البحوث الأميركي "لانغلي" استعانة بن بلة بالمؤسسة العسكرية؛ بهدف الحفاظ على بقائه على رأس السلطة، خاصة أمام منافسه الأول، هواري بومدين، الذي كان يشغل منصبي نائب الرئيس ووزير الدفاع. وفي الأثناء، كانت الوكالة تعتبر بومدين من الرجال المخلصين للرئيس بن بلة حسب أحد تقاريرها المنشورة، الذي بينت فيه: "نحن لا نتوقع أن يلجأ بومدين إلى الجيش من أجل أن ينقلب عسكرياً على بن بلة إلا في الحالات القصوى". وذكر التقرير أيضاً: "في حالة وفاة أو مقتل بن بلة، فإن أصابع الاتهام ستتجه أولاً نحو بومدين وبعض أعضاء الحكومة". في المقابل، يبدو أن "توقعات" وكالة المخابرات المركزية كانت في محلها، حيث عاشت الجزائر في 19يونيو سنة 1965، على وقع انقلاب عسكري قاده هواري بومدين ضد الرئيس بن بلة. وتجدر الإشارة إلى أن وكالة الاستخبارات الأميركية قدمت وثائق لإدارة الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، ليندون جونسون، نقلت من خلالها أحداث الانقلاب العسكري في الجزائر وتحاليل أخرى عن شخصية قائد الانقلاب، هواري بومدين. قضية الصحراء في الحقيقة، تضمنت الوثائق التي كشفت عنها الوكالة تقريراً يتكون من 5 صفحات يُعنى بقضية الصحراء المغربية. وفي هذا الصدد، ذُكر أن مدير وكالة الاستخبارات الأميركية، وليام كولبي، أرسل تقريراً إلى كبير الدبلوماسيين الأميركيين، هنري كيسنجر، يوم 3 أكتوبر من سنة 1975، جاء فيه البيان التالي: "لقد أعلن الحسن الثاني مرة أخرى رغبته في ضم الصحراء (الإسبانية) مع نهاية سنة 1975، حتى لو تطلب ذلك اللجوء إلى القوة المفرطة". وأضاف وليام كولبي في تقريره، أن الحسن الثاني "سيورط جيشه في حرب مباشرة ضد 5 آلاف جندي إسباني موجودين بالصحراء"، ومدعومين من قِبل سلاح الجو الإسباني المتمركز في القواعد الجوية بجزر الكناري، مع إمكانية تعزيز هذه القوات بمسلحين من الجيش الجزائري. في السياق نفسه، قدم الرئيس بومدين جملة من التطمينات للعاهل المغربي، الحسن الثاني. ولعل أبرز شاهد على هذه الوقائع، تصريحات عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان يشغل منصب وزير الشؤون الخارجية في ذلك الوقت، حيث أفاد بأنه "في حال انسحبت إسبانيا من الصحراء، فلن يدخلها أي جندي جزائري"، وأضاف بوتفليقة: "لا يريد الجزائريون إعادة إيقاظ شبح حرب الرمال (1963) من جديد مع الجار المغربي". الاستخفاف بقدرات القوات المغربية قام المغرب بتجنيد فيلق من المرتزقة، قدموا من مصر وسوريا والسعودية بالإضافة إلى مقاتلين فلسطينيين، وضمهم إلى قواته الرسمية. وفي الوقت نفسه، سلحت المملكة هذا الفيلق حتى يكون على أهبة الاستعداد لمواجهة أية تدخل عسكري جزائري وشيك. وعلى الرغم من ذلك، استخفت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بقوة الجيش المغربي، الذي كان يضم في ذلك الوقت ما بين 12 و15 ألف جندي، واستبعدت إمكانية قيامه بهجوم مزدوج ضد كل من القوات الإسبانية والجزائرية. من جهة أخرى، أشار وليام كولبي إلى أن إسبانيا كانت تفكر وقتها جدياً في مغادرة الصحراء؛ حتى تتجنب خوض غمار أية معركة استعمارية جديدة، لكنها لم تفقد ثقتها بالجزائريين. في الواقع، كانت الجزائر تدعم فكرة استقلال الصحراء، وفي الوقت نفسه كانت تفضل عدم التدخل عسكرياً، وبصفة مباشرة، في هذه القضية. وفي هذا السياق، أفادت وكالة المخابرات المركزية، بأن الجزائر تدخلت في قضية الصحراء بصفة ضمنية، حيث إنها شجعت مسلحي جبهة البوليساريو حتى يُشددوا الخناق أكثر على العاهل المغربي، الحسن الثاني، كإشارة منها إلى دعمها للمغاربة المنشقين عن القوات الملكية. إضافة إلى ذلك، لجأت الجزائر إلى الحل الدبلوماسي العالمي كسلاح لتفضح فيه تجاوزات المغرب بالصحراء. في المقابل، لم يجدِ ذلك نفعاً، حيث اجتاحت القوات المغربية مدينة "العيون"، كبرى مدن الصحراء، خلال يوم 11 ديسمبر من سنة 1975. دعم القضية الفلسطينية ارتأت حكومة بن جديد إعادة النظر في دعم الفلسطينيين الذين اتخذوا من السلاح سبيلاً لنيل الاستقلال، خاصة أن دعمها مثل هذه الأطياف من شأنه أن يشوه صورة الجزائر على الصعيد الدولي. وذكرت التقارير العمليات المسلحة الفلسطينية التي تورطت من خلالها الجزائر، من بينها، "استعمال مسلحين من حركة فتح جوازات سفر جزائرية خلال تنفيذهم هجوماً بقنابل يدوية طال مقر السفير العراقي في لندن سنة 1978، بالإضافة إلى خطف طائرات وتوجيهها نحو الجزائر، وهو أكبر دليل على تورط حكومة الرئيس الراحل بومدين في هذه العمليات إلى جانب المنفذين". فوز الإسلاميين بالانتخابات التشريعية حذر العملاء الأميركيون الموجودون في الجزائر من أن نظام الرئيس الشاذلي بن جديد، أصبح مهدَّداً من قِبل فصائل جزائرية مسلحة غاضبة من التدهور الاقتصادي والمعيشي نتيجة انهيار أسعار النفط في سنة 1986. وقالت الوكالة في تقريرها، إن "على (بن جديد) السيطرة على الاستياء الشعبي". علاوة عن ذلك، بيَّنت الوكالة في هذا التقرير الذي أرسلته إلى مقر وكالة المخابرات المركزية في واشنطن أنه "على بن جديد التحالف مع معارضيه لمواجهة الصعوبات السياسية والاقتصادية". وإثر مرور 18 شهراً على هذا التقرير، أعلن بن جديد حالة الطوارئ خلال شهر أكتوبر سنة 1988، بعد أن اتخذت أعمال الشغب منعرجاً أكثر عنفاً. وأعطى بن جديد الضوء الأخضر لتدخل القوات المسلحة لإعادة الأمن والنظام، التي انتهجت أسلوباً قمعياً خلف نحو 500 قتيل. وفي الإطار نفسه، أرسل الضابط في قسم التحذير الاستخباراتي، تشارلز إي ألن، برقية إلى وكالة الاستخبارات المركزية يوم 17 أكتوبر سنة 1988، عبّر من خلالها عن مخاوفه من أن "جهود حكومة بن جديد لحل الأزمات في الجزائر ليست كافية، فهو يحاول الخروج بحلول سطحية دون أن يتعمق في سبب الغضب الشعبي. إضافة إلى ذلك، فهو يواجه معارضة قوية مدعومة من زعماء سابقين لجبهة التحرير الوطني، ونشطاء إسلاميين بدأوا في التغلغل داخل صفوف الشعب الجزائري". وأضاف تشارلز إي ألن في مذكرة أخرى، أن "الإصلاحات الاقتصادية لم تؤتِ أكلها إلى حد الآن، فضلاً عن أن نسق التوتر الشعبي في تنامٍ يوماً بعد يوم". وفي أعقاب فوز الإسلاميين بالانتخابات التشريعية التي وقعت خلال شهر أكتوبر من سنة 1991، أُجبر بن جديد على التنحي من منصبه؛ نتيجة ضغوط العسكر. بعد ذلك، أُلغيت نتيجة الانتخابات، ودخلت الكتائب الإسلامية المسلحة على الخط وأعلنت حالة الطوارئ، ودخلت الجزائر خلال شهر فبراير من سنة 1992، في حرب أهلية. قضية "وارن" أما قضية "وارن"، وهي خلية تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية في الجزائر، فلم يكتشف الجزائريون ذلك إلا في سنة 2009، عندما نشرت قناة هيئة الإذاعة والتليفزيون الأميركي مستجدات قضية أندرو وارن، الذي اتهمته جزائريتان باغتصابهن في مكتب الاستقبال في السفارة الأميركية لدى الجزائر سنة 2008. وفي مطلع سنة 2011، أدانت محكمة في واشنطن العميل السري، أندرو وارن، بما نُسب إليه من تهم بالاعتداء الجنسي على إحدى المتضررتين وحكمت عليه بالسجن لمدة 65 شهراً. وفي سنة 2015، رفع وارن قضية ضد الرئيس السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، متهماً إياه بالمساس بحياته الشخصية. حرية التصرف بغض النظر عن فضيحة وارن، فقد أحرجت هذه القضية الولاياتالمتحدة، التي أصبحت مطالَبة بتقديم توضيحات حول سبب وجود أجهزة مخابراتها في الجزائر. وفي ضوء هذه الحادثة، ظهر للعيان حقيقة وجود عميل داخل أسوار السفارة الأميركية لدى الجزائر، تحت غطاء دبلوماسي، مع مساعد ومساعدة وعميل آخر بدرجة "محلل للمعلومات" بأوامر مباشرة من وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي الأميركي مع تمتعهم بحرية التصرف. شبكة استخباراتية من المثير للاهتمام أن من بين العملاء الاستخباراتيين الموجودين في السفارة الأميركية لدى الجزائر كان هناك العميل السابق، إدوارد سنودن. وكانت مهمة هذا العميل، الذي طلب اللجوء فيما بعد إلى موسكو، تتمثل بالأساس في التنصت على المكالمات الهاتفية وتحليل الرسائل الإلكترونية التي تدور بين مختلف المؤسسات والوكالات الخاصة والعمومية في الجزائر. والجدير بالذكر أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت تجمع كل هذه المعلومات بفضل وكلاء رسميين وعملاء متخفين، فضلاً عن رؤساء مؤسسات وخبراء وصحفيين.