من أجمل ما قيل حول الجمال في السينما، ما صرح به الممثل و المخرج الأمريكي الكبير ‘كلينت ايستوود" من كون "الجمال في السينما، هي القدرة على تجريب شئ مختلف"، لهذا الأمر أحتفي و أسعد كثيرا عندما أشاهد تجارب مختلفة في السينما المغربية، حتى تلك الغير مكتملة. المشروع الجمالي اذن في السينما المغربية أمر، بقدر ما هو ضروري، بقدر ما هو مركب. الجمال في السينما يبدأ عادة من المخرج، بما هو انسان المفروض فيه أن يحمل شاعرية معينة، نظرة للعالم، ثقافة بصرية، فكر يختزل قصصا من الواقع و من الخيال، المكتوب منه في روائع الأدب و "الخام" الذي يحتاج الصقل و العناية ليخرج للناس. للأسف ليس كل المخرجين المغاربة أصحاب مشروع جمالي، و سنتحدث عنهم في حلقة قادمة، لكن دعونا الآن نتحدث عما يجب أن يكون، و أن نحلق حول محطات هذا المشروع بمختلف مكوناتها. بدأ وعينا بالجمال في السينما مبكرا، بالأبيض و الأسود، في الأفلام الأمريكية أو المصرية التي كان يتم تصويرها عادة في استوديوهات، اختزلنا في البدئ الجمال في البطلات (أو الأبطال)، غريتا غاربو أو انغريد بيرغمان، شادية أو سعاد حسني.. بعدها بدأنا ننتبه لجمال الحركة و براعة التمثيل، ثم جمال الكلمة أو الجملة التي تعلق بذهنك شهورا أو سنوات بعد مشاهدتك الفيلم، و عند اعادة مشاهدته، تنتظر تلك "اللقطة" التي يقول فيها البطل أو البطلة كلمته أو جملته التي طبعتها في مكان ما في ذاكرتك، لكي تعيدها (بينك و بين نفسك)، أو بشكل مسموع لتصل لقمة "نشوتك". استمر وعينا بالجمال يكبر، كقيمة في حد ذاته لا تحده قيمة أخرى، و عندما بدأت سينما الألوان تكتسح، جاءنا العالم بجمال لم يكن يخطر لنا على بال، جمال في أماكن التصوير بعد أن طلق المخرجون "الاستديوهات" بشكل كبير، جمال في الكتابة، جمال في الأداء، جمال في الحوار، جمال في الصمت. ثم جاءت ثورة التصوير و المونتاج و السيناريو و الاخراج، حيث الصورة مريحة للعين، حريصة على تناسق الألوان كما على الضوء و على الكادرات و عمق اللقطة و مدتها. لقد تحول وعينا و تعمق، سواء شاهدنا "ذهب مع الريح" أو "رقصة مع الذئاب" أو "الجمال الأمريكي"، و وصلنا لقناعة أن تمثلنا لأشياء ليست جميلة، أو لم نكن نعتبرها كذلك، أصبح من الممكن تصويرها بمنتهى الجمال، أكثر من هذا، ففي فيلم سام مينديز مثلا، "الجمال الأمريكي"، أصبح الجمال الذي ترى يخفي داخله قبحا رهيبا، لقد صور الفيلم بجمالية قبح العلاقات الانسانية، و مع مرور الفيلم يزداد اعجابك بالبطل، أقصد يزداد اعجابك بالممثل الذي يؤدي دور الشخصية الرئيسية، الموهبة الفذة العملاقة "كيفين سبيسي"، و تلمس الجمال في الأداء الرائع. الجمال في السينما أيضا ظهر من حيث لم نكن نحتسب، التطور التقني أصبح يقدم لنا جمالا من نوع آخر، جمالا لا يرتبط بالطبيعة أو بالانسان، بل يرتبط بالآلة و بالأبطال الخارقين و بعوالم الخيال العلمي و غير العلمي حيث استدعاء الأزمنة المستقبلية أو الغابرة، و هكذا فهمنا أن السينما لم تتخل عن الجمال، حيث يكاد يكون العنصر الثابت في كل التجارب، فسواء كانت السينما واقعية وصفية، ناطقة أو صامتة، تجريبية بصرية، طليعية يسارية، بروباغاندا ايديولوجية، تجارية ترفيهية، خيال علمي أو رعب، سينما مؤلف أو انتاجات ضخمة بكل أصنافها.. الجمال هو الغاية، مهما اختلفت سبل التعبير عنه. لهذا السبب، يجب ألا يغيب عن ذهننا أبدا، أن السينما بما تحمله من جمال، هي سلاح قوي ضد القبح (حتى عندما تصوره)، و يحضرني هنا فيلم "كازانيغرا" للمخرج المغربي نورالدين الخماري الذي صور قبحا في ليل الدارالبيضاء بجمال و شاعرية دخلت، ليس فقط، التاريخ السينمائي المغربي، بل وجدان جيل من المغاربة و أجيال أخرى قادمة بكل تأكيد عندما ستتاح لهم فرصة اكتشاف هذا العمل و أعمال أخرى مشابهة. ثم ان السينما ليست فقط سلاحا ضد القبح، انها مشعل أمل مستمر، و وعد بتحقيق ما لم يتحقق لحد الآن (هي الحق في الحلم بلاحدود)، و كل هذه الأشياء هي الجمال الذي لا نراه عادة فيها، و لكنه يتسرب الينا من فرط "معاشرتها". المشروع الجمالي في السينما المغربية لكي يحقق للمتلقي كل هذه الأشياء و يرقى الى النماذج العالمية المعاصرة، يجب أن يتوفر على عدة عناصر: المخرج حامل المشروع (سنخصص حلقة خاصة للمخرجين)، السيناريو، "الكاستينغ"، (وقد خصصنا لكل منهما حلقة خاصة)، التصوير (هنا وجبت الاشارة الى أن مدراء التصوير في أغلب أفلامنا ليسو مغاربة)، المونتاج، لأنه يتحكم في جمالية الإيقاع الفيلمي، الموسيقى التصويرية لأنها تكثف احساسنا بالجمال (في الموقف، في الحوار، في النظرات، في الحركة كما في السكون)، لقد ألفنا أن نقول بأن الموسيقى هي لغة عالمية يفهمها كل العالم، لكن ما لا يعيه كثير من الناس، هو أن السينما أيضا لغة عالمية يفهمها كل البشر، و ما نعلمه أن اللغات عادة (العربية، الانجليزية، الفرنسية، أو الهندية..)، هي حاملة مضمون، لذلك يجب عليك اتقانها لتفهم مضمونها، و هنا مكمن الصعوبة، بخلاف الموسيقى و السينما، و التي هي لغة/مضمون انساني، و من هنا سهولة تلقيه، يوم يقدر كثير من المخرجين المغاربة أهمية القيمة المضافة التي تساهم بها الموسيقى في "تجميل" السينما، سيفهمون لماذا تكون أفلامهم غير مكتملة جماليا. السينما مهمتها خلق الجمال بأدواتها، أو الكشف عنه ان كان موجودا بداخلها، وبما أنها أيضا فن جامع لكل الفنون الأخرى و أكثر، فهي بالطبيعة خزان لا ينتهي من كل أنواع الجمال. من اللازم اذن لضمان نجاحها و اشعاعها، أن تهتم السينما المغربية بالجمال في كل شئ، لأنها تخاطب الحواس، و على رأس هذه الحواس النظر، و العين كما نعلم.. "تعشق كل جميل"..