لا يختلف اثنان على كون المسار الذي شهده المجال السياسي في المغرب منذ فجر الاستقلال حتى الزمن الحالي كان ومازال له انعكاس، قد يميزه البعض بالإيجابي وقد يميزه البعض عكس ذلك، على التيارات الفكرية سواء تلك التي تلج مجال تدبير الشأن العام بشقيها (حكومة ومعارضة)، أو تلك التي تظل (كرها أو طوعا) في المحيط. انعكاسات ليست فقط على الفكر، بل حتى على صيغ تنزيل مبادئه وتفعيل مميزاته وبالتالي تقييمه من خلال وقعه على المواطن المغربي وعلى الوزن السياسي والاقتصادي للبلاد إقليميا ودوليا. فإذا كان من الموضوعي أن يشدد جل السياسيين والاقتصاديين على ضرورة تناغم الفكر مع الفعل كإحدى ضمانات إنجاح تصورات أيتها فكر، فهذا يهدينا إلى التساؤل حول مدى انسجام المكونات السياسية المشكلة لحكومة السيد ابن كيران من خلال مراجعة أسس الخطاب السياسي والاقتصادي المعلن عنه مقارنة مع الفعل أي الممارسة والتدبير. بخصوص الخطاب السياسي والاقتصادي وجب التمييز بين مرحلتين: مرحلة ما قبل الاستحقاقات حيث ركز حزب العدالة والتنمية على انتقاد كل الفعاليات السياسية التي سبق وأن أهلتها شريحة من الشعب المغربي لتدبير الشأن العام محملها إياها كل السلبيات، في نظره، التي طبعت سواء تطورات المشهد السياسي المغربي أو المجال الاقتصادي والاجتماعي مستفيدا، مرحليا، من مطالب التغيير التي نادى بها الشارع المغربي. وهذه ظرفية لا يمكن تجاهلها كعنصر حاسم مهما كانت نسبته في تمكين الحزب من تولي تدبير الشأن العام كإشارة «للتغيير». فالظرفية التاريخية التي يمر منها أي بلد لها وقعها وهذا أمر لا يمكن تجاهله. كما أن خطاب السيد ابن كيران كان آنذاك يبشر بكون حزبه هو «الحزب الوحيد المنتظر» الذي بإمكانه تقويم الاقتصاد الوطني من زاوية إزاحة معيقات نموه والتي اختزلها في مصطلحات اقتبست مما كان يهتف به شباب المغرب. بل أعمق من هذا، كانت تنبعث من خطابه نبرة أن كل الأحزاب قد حظيت بدورها في تدبير الشأن العام وآن الأوان لحزبه لخوض التجربة، كما لو أن الأمر لا يتعلق بالاحتكام لإرادة المواطن المغربي من خلال ما ستفرزه صناديق الاقتراع ولكنها مسألة «أحزاب تنتظر دورها» لتدبير الشأن العام. وكانت أولى خطوات غياب الانسجام بين الخطاب (الفكر) والفعل تتجلى في تجاوزه لما وعد به بخصوص التركيبة الكمية للحكومة (من 15 وزيرا إلى الضعف)، علاوة على تحالف حزبه مع أحزاب كانت من بين فعاليات الحكومات السابقة التي نعتها بالفاسدة وبالمبذرة لثروات البلاد. كما أن البوح بكون الحزب سيعمل لصالح كل المواطنين في إطار التشاور والحوار مع كل الفعاليات بدون استثناء (إلا من لا يرغب في ذلك)، فقد أثبتت مجريات تدبير الشأن العام، أن الإقصاء والتهديد من جهة والاعتناء بالقرابة الإيديولوجية السلفية على حساب باقي المواطنين من جهة أخرى هما شعارا المرحلة. وفي هذا التوجه توضيح بارز لغياب الانسجام بين الخطاب والفعل وتوضيح لمحاولة فرض «كرها» على المغاربة تبني توجه وحيد وأوحد (إيديولوجية حزب العدالة)، متجاهلين الاختلاف الإيديولوجي مع الأحزاب المشكلة للحكومة. فما أحرزه من مكتسبات مناضلو الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية ومختلف جمعيات المجتمع المدني وغيرها وتم إقراره من طرف دستور 2011، بات مهددا بالانهيار وبمزيد من الاحتقان الاجتماعي. هذا من ناحية الخطاب، أما من الناحية العملية والتدبيرية فغياب الانسجام جلي وبين، سواء على مستوى وزراء حزب العدالة والتنمية، أو بين هؤلاء الوزراء وباقي وزراء الأحزاب التي ربما باتت تشعر بكونها «تسرعت» في قبول التحالف مع حزب جعل منهم «ديكورا» عوض متحالفين. والنتيجة أن المواطن المغربي أمام حكومة ليست منسجمة ومتجانسة ولكن أمام حكومة «مركبة» بحثا عن الأغلبية وما هي بأغلبية فعلية، بل هي تميل أكثر لحكومة على شكل فاعلين سياسيين «عزل» تم التوقيع بينها على خارطة طريق مشتركة، في بنودها العريضة، ولكن في الممارسة لكل وجهته ومنهجيته. وهذا هو عمق عدم الانسجام في الحكومة الحالية، إذ يتمثل في غياب توحيد منهجية العمل الحكومي. وهذا قد يفسر عسرة إصدار قانون المالية، عسرة إصدار قانون الشغل وإخراج قانون الوظيفة العمومية منقحا بإصلاح لمنظومة الأجور، عسرة تدبير الحوار الاجتماعي... مقابل يسرة التفكير في إصدار قانون الإضراب وإصدار قانون الصحافة وغيرها من القوانين التي من شأنها التضييق على حرية الرأي والتعبير والتعددية والمزيد من الاحتقان الاجتماعي، لكون الشعب المغرب تبنى دستور الحرية والعدالة والمساواة والكرامة وطوى حقبة ما مضى. من الأكيد أن تصريحات الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية حين أكد على كون المشاركة في حكومة السيد ابن كيران لا تعني التحالف مع حزبه، إضافة إلى «الرضا» الذي حصل عليه حميد شباط (UGMT) من الأمين العام لحزب الاستقلال إثر انسحابه من الحوار الاجتماعي وتلميح رئيس الحكومة السيد بنكيران ب»ورقة الأصالة والمعاصرة»، وكذلك اعتراض حزب العدالة والتنمية على سهر وزارة الداخلية (الحركة الشعبية الحليف الحكومي) على سير الاستحقاقات الجماعية والملاسنات الصحفية الأخيرة بين الوزير المنتدب لدى وزير المالية ووالي بنك المغرب، إثر تحذيراته من التماطل في تعميق عجز صندوق المقاصة وذلك في غياب كلي لأي تعليق لوزير المالية، تشكل أمثلة لغياب الانسجام بين مكونات الحكومة واعتقاد حزب العدالة والتنمية أنه هو العقل المدبر وما على باقي الفرقاء إلا التنفيذ، وهذا مسار غير سليم في التدبير الجماعي (الحكومي) للشأن العام وقد يؤدي إلى تصدع حكومة السيد ابن كيران، إذ من المرتقب أن تنسحب بعض مكوناتها من الائتلاف لعدم تحملها ولا تقبلها بالتدبير الأحادي الجانب. باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية