هي محاولة للتوقف لحظة والإنصات بإمعان لأنين الأغنية المغربية المصابة هذه الأيام بحمى،نتمنى أن تكون عارضة،شوهت جسمها،وجب عرضها على أطباء أخصائيين وإدخالها إلى غرفة العمليات لإستئصال الورم الذي نخر قواها. وهي كذلك إصرار على وضع بعض الأغاني المثيرة للجدل تحت المجهر ورؤيتها بشكل واضح وجلي ومعرفة تفاصيل جزئياتها ،وإخضاعها للتشريح،ومن تم التأكد من مدى احترامها لمعايير الإحساس الصادق و قدرتها على النهل من التراث المغربي الأصيل واختيار الكلمة الهادفة واللحن المفعم بالجمل الموسيقية الصحيحة. هذه الأغاني بعينها خلقت نقاشا داخل الساحة الفنية المغربية،واعتبرها البعض منتوجا فنيا دخيلا وهجينا، أصاب أغنيتنا في مقتل،وزج بها في حسابات نسب المشاهدة والإعجاب،وهي مقاييس أريد بها باطل. مجملا هي محاولة نقدية،الغرض منها النهوض بمنتوجنا الموسيقي والرقي به إلى مستواه العالي،وإعادة الإعتبار للفن الراقي المبني على أسس متينة،وتصليب عوده في إطار مقاربة تشاركية مع جميع المكونات الفنية ، بعيدا عن لغة الخشب. سوف لن نضع قبعة المراقب الذي يبحث عن الأخطاء.ولن نجعل من عملية النقد هاته عملية ذات صفة شخصية.مهمتنا ستنحصر أساسا في تحليل الظاهرة الفنية واستشعار الصفات الإبداعية في الأعمال الفنية،وكشف النقاب عنها، مع الإشادة بالأغاني المتفوقة. أغنية "الماضي" للفنانة نضال إيبورك ترجع بنا الى الزمن الموسيقي الحقيقي، البعيد عن الصخب و"الألم الذوقي"،وتسبح بنا في فضاء،مساحته رحبة ،تتصنت لنبضات قلوبنا وتتجاوب مع أهاتنا وأحاسيسنا.هي منتوج فني راقي، يفتح لنا باب الأمل لسماع رنات موسيقية وصوتية أخاذة ،تحاور ذواتنا وتحترم أذواقنا وتجعلنا نعانق ونتحسس كلمة ذات رسالة ولحن وتوزيع احترافيين،وصوت ملائكي نقي وصافي. منتوج فني جميل،قريب إلى القلب، بعيد كل البعد عما يلوث أذاننا،ويدغدغ مشاعرنا هذه الأيام من فن منحط إلى درجة تحت الصفر،جمد شوقنا وحبنا للموسيقى. هي عودة الروح لأغنيتنا وبوابة أمل للساحة الفنية المغربية.يتداخل فيها الإحساس ويتدافع كالمخاض ،ليفيض داخل أوعيتنا الدموية،فينشرح القلب له ومعه. الطاقم الفني الذي أخرج هذا الابداع الفني،لم يخلق المعجزات ولم يفعل شيئا مستحيلا،بل فقط استمع إلى ذواته وتحسس روحه وفطن بكل موضوعية لما نحن محتاجين إليه. نحن الذين لم نكن نطمح لسماع "سنفونيات" (ولو أننا نحبها)، بل ونحن الجمهور المغلوب عن أمره، اصبحنا فئران تجارب داخل مختبر ملوث، يتحكم فيه كل من هب ودب، نطمح فقط الى كلمة بسيطة شاعرية،ذات معنى ولحن محترم وأداء يستنبط مشاعرنا وصور متناغمة مع موضوع الأغنية.فهل هذا مستحيل؟. إن سر نجاح أغنية "الماضي" للفنانة الرقيقة نضال إيبورك،يكمن في قوة مقوماتها التقنية والإرادة الجامحة للملحن والشاعر والموزع والمغنية لتقويم الإعوجاج الذي أصاب أغنيتنا من خلال أعمال (البريكولاج) التي لطخت سماء ساحتنا الفنية بالسحب البركانية، بمباركة فنانات وفنانين نحترمهم ونقدر أعمالهم السابقة ،انساقوا مع التيار. هذا الطاقم لم يقم بجمع كلمات مشتتة هجينة دونية صادمة من أجل إبهارنا أو من أجل عيون شركات شرقية خليجية،أصبحت تقبل النفايات من الأغاني وتبثها على نطاق واسع بالقنوات الفضائية التي كنا نكن لها كل التقدير والإحترام،بل أصر هذا الطاقم على احترامنا لإمتاعنا وتغذية أرواحنا والإعتراف بنا كجمهور لاحول له ولا قوة،أصيب بخيبة أمل بعدما عول على بعض الشباب الذين تخرجوا من برامج المسابقات الغنائية. لكن إرادة القائمين على الشأن الموسيقي في بلدنا وخارجه، وبتواطؤ مع جهات لها الإمكانات المادية الكافية،كانت أقوى من طموحنا،تلقفت بشراهة شاباتنا وشبابنا من أصحاب الأصوات الرائعة وأعادت تركيبتهم الروحية والذوقية وفتحت لهم نوافذ متنوعة، استطاعوا النط منها للسباحة في مستنقعات الشهرة الضحلة التي كونت ضفادع تجيد النقيق فقط ليلا ونهارا، تكسر طبلات أذاننا بكلام ساقط ولحن بسيط جدا وأداء كله نواح وضجيج. أغنية "الماضي" تحاول الإنسجام مع الذات،لتصليب عود أغنيتنا المغربية وانتشالها من الهوة السحيقة التي سقطت فيها ،ونفضها من الغبار والصدأ الذي نخر جسمها،تآكلت إطاراتها التي كانت تحميها من التلاشي. لم يكن من السهل الجمع بين الكلمة واللحن و التوزيع والأداء مع الصورة التي أبدع مخرج الفيديو كليب عبد الهادي انبارو في وضعها بدون مساحيق مزيفة، أمام أعيننا،لم نحس لحظة أنها مفبركة ومصطنعة،بل تدفقت روحها بكل انسيابية،أصابتنا بانتعاشة سحرية، مع سماع أول جملة موسيقية للأغنية،فتنت دواخلنا وتسمر معها فكرنا في مكانه ،أجبرنا على تتبع خطوات البطلة نضال إيبورك التي كانت تمشي بهدوء،شاردة،وضعت أناملها على نوتات البيانو،تتوسطها خاتم الماس الذي يسحر العين ،مع ابتسامة سحرية،هي لحظات سكون لم تدم أكثر من14 ثانية، أراد منها المخرج أن تشدنا وتبهرنا، قبل أن تنبلج الظلمة وتطل أولى خيوط أشعة الشمس التي توهجت بين عمارات ناطحات سحاب مدينة مونريال بكندا،وتلج بهو شقة تتواجد داخلها طفلة تعزف على آلة البيانو. إنه الحنين إلى الماضي. يوم كانت نضال طفلة صغيرة،تتمايل مع درجات البيانو.بعد هذه المقدمة،سيتسع الفضاء أكثر فأكثر،ليضعنا المخرج أمام بياض الثلج الناصع. فكرة الفيديو كليب ،كما تقول نضال إيبورك:" هي حنين للماضي واستشراف للحاضر. أول لقطة تتذكر فيها الشخصية طفولتها من خلال لاعبة البالي التي هي الطفلة نضال الصغيرة بحكم أنني كنت لاعبة جمباز، و ذكرياتها مع حبيبها منذ الطفولة لذلك كانت الإنارة و الألوان نوعا ما مظلمة لتعكس الماضي، لمس البيانو يرمز إلى كل ما هو شاعري، فيه رومانسية و حنين و لأنني كذلك اعشق آلة البيانو. أما الخاتم فهو رمز للحاضر و لتجدد الرباط بين العاشقين.. عندما التقيت بالمخرج قررنا أن نصور كليب يشبه و يعكس شخصيتي من خلال الشخصيات المقدمة فيه.. ستلاحظ أن هناك لقطة نجسد فيها الماضي و الحاضر في آن واحد من خلال لقطة اللعب على الجليد ما بين الطفلين و العاشقين. أي أنهما كانا على علاقة منذ الصغر". تقنيا ، اعتمد الملحن عماد المغربي ،وهو بالمناسبة كاتب كلمات الأغنية.. على مقام "الكرد حسيني" (الكرد لا) في كل الجمل اللحنية ،فقط هناك إنتقال وحيد عندما عرجت نضال إيبورك على (Passage) "الماضي الماضي .. واللي فات نسيتو الماضي الماضي .. من حياتي لغيت هنا"، ليصبح المقام فرح فزا دوكاه (ري مينور) وكذلك الحال بالنسبة للفاصل الموسيقي .. ما تبقى من الأغنية كله (كرد لا). أما قالب الأغنية بشكل عام فيندرج في إطار ستايل "البالاد" الحديث .. بالإنجليزية (Modern Ballad Style). لنلاحظ أن براعة الملحن تكمن في الانتقال من جملة موسيقية الى أخرى مختلفة بطريقة سلسة، لم نحس ولو لحظة انه مازال في نفس المقام. بالإضافة الى إمكانات نضال إيبورك الصوتية والمساحات الشاسعة التي تتوفر عليها. مايميز الفنانة نضال إيبورك عن غيرها ،هو اعتمادها مقاربة تشاركية في تعاملها مع الملحن وكاتب الكلمات والموزع والمخرج، بحكم انها خريجة برنامج "ذوفويسّ"، واستفادت من مرورها الجيد، أخذت رصيدا فنيا وجعلت منه عنوانا عريضا لمسيرتها الموسيقية. بالإضافة الى شخصيتها القوية ودراستها الموسيقية دراسة أكاديمية، قاومت النهر الجارف الذي حمل معه بعض الفنانين الشباب المنساقين مع الموجة الجديدة، سبحت ضد التيار، وأعطت مثالا للوفاء للطرب الاصيل، وتمكنت من اختيار أغاني خفيفة، لكن بنكهة طربية.
نقطة قوة أغنية "الماضي" يكمن في ذكاء طاقمها وتركيزه على البحث عن الجودة. هي تحفة نفيسة، تضاف الى المكتبة الموسيقية للأغنية المغربية. شكرا اذن لنضال إيبورك، لعماد المغربي ملحن وكاتب كلمات الأغنية، وللموزع بدر المخلوقي والمخرج عبد الهادي انبارو.