كيف يتحول فضاء صغير مزدحم إلى روض تربية على يد أي كان وبأي طريقة كانت. ليس قصدي السؤال. بل هي مقدمة لتوضيح كيف يمكن أن نربي أطفالنا في أي مكان ومن قبل من كان. الأمر أشبه بتلك الكتب التي طالما آنست مخيالنا ونحن صغارا أو يافعين، والتي تدعي أنها قادرة على تعليمنا اللغة الانجليزية في 5 أيام وقادرة أيضا على أن تعلمنا التمييز بين الأصدقاء الحقيقيين والمزيفين وعلى تعليمنا كل الأمور مهما بدت صعبة. في الطاكسي الأحمر ازدحمنا ثلاثة ورابعُنا طفل صغير لا يتجاوز عمره العامين ونصف العام تقريبا، وخامسنا السائق. كانت الأمور تسير عادية إلى أن صرخ الطفل ككل الأطفال يطالب بحقه في اليوغورت الذي تخفيه عنه أمه. كان ملحا في طلبه. شيء طبيعي. الأطفال تحكمهم العادة لا العقل. والكبار واجب عليهم أن يتفهموا الأمر ويتعاملوا مع الحالة بالكياسة المطلوبة والمرونة الواعية. "سكُت الله يعطيك اللقوة…آهيا ناري على كَنس…". يسكت الطفل برهة، ثم يعاود البكاء. اليوغورت وإلا الصراخ. لا خيار آخر. تحالفت الأم وقريبتها، فصارت الاثنتان تشاركان في إطفاء غضب الطفل. وتعددت مفردات قاموس القمع والسباب والرغبة في إخماد صوت طفل ذنبه أنه رأى يوغورت وعبر عن رغبته في أكله. ها قد أصبحت التربية مشتركة بين الأم والقريبة… ولا حرج. في أكثر من مرة كنتُ سأتدخل، إلا أنني كنت أعود وأقنع نفسي بالتحكم في النفس. لا أخفي أنني اغتظت كثيرا من طريقة التعامل تلك مع طفل لا يزال لا يعي ماهية الأشياء ولا غضب الكبار. تتواصل حصة تربية الطفل بالنهر تارة والسباب تارات أخرى. "سكت.. ديما داير لي هوكا… في الدار وفي الزنقة… سكت ولا غنجيب ليك بوعو… يالله سكت…". بوعو هذا لا يزال حيا يرزق. لا يزال يقيم بيننا. حاضرا، جاثما على نفوس أطفالنا. لفترة طويلة اعتقدت أنه اختفى وأن الآباء وجدوا لأطفالهم نماذج أخرى للتربية، قبل أن أفاجأ مرة في حانوت حلاق الدرب بشاب مشرف على العقد الثالث يحاول أن يخيف طفلا صغيرا ب "بوعو" لأنه يرفض أن يمتثل لمقص الحلاق… ياااااه. وها هو يعيد الظهور في الطاكسي. "واش غادي تسكت ولا لا؟… سكت ولا نحرش عليك الراجل يقطع عليك راسك…". طبعا، لم يكن الرجل إلا سائق الطاكسي. استنجدت به الأم عندما عجز بوعو عن إسكات الطفل. تساءلت ماذا لو كنا في مكان حافل بالرجال. هل كانت الأم ستحرضهم جميعا على إسكات الطفل؟ هل كان الجميع سيشارك في تربية الطفل على كيفية التعامل مع الرغبة في الأكل حين الجوع؟ هل كان كل الرجال سينضمون إلى حصة توعية الطفل بضرورة احترام البالغين حوله حتى لو كان به جوع وعطش؟ طبعا، لا يمكن للسائق أن يتخلف عن واجب نبيل مثل هذا. فنحن كرماء بيننا حين يتعلق الأمر بالتدخل في كذا حالات… في حادثة سير، مثلا. نتحلق حول الضحية. نسهم في النقاش حول تحديد المسؤوليات. يأتي متطفل لم ير شيئا مما وقع ويصر على تقديم النصح. يكبر الخطب. تتعطل حركة السير. بقية الحكاية تعرفونها. اصطنع السائق جدية مكشوفة وعدَّل المرآة العاكسة ليرى الطفل بين يدي أمه في المقعد الخلفي للسيارة. " شششششششششششششششت… يالله نيني"… بوعو ونيني وغيرهما من الألفاظ التي لا تعني شيئا في النهاية غير أنها تملأ فراغا اصطلاحيا مهولا في علاقتنا بلغة تربية الطفل. ميمي… نيني… تيتي… أتساءل لمَ اختلقنا هاته الألفاظ. لمَ لا نسمي الأشياء ونذكر الأفعال كما هي. ألسنا نعطل بهكذا تصرف تعلم الطفل اللغة؟ ألا نعقد الالتباس لديه بأن نجعله يتعلم أشياء في عمر معين قبل أن نعود إلى محوها من قاموسه حين الكبر؟ ألسنا نؤصل للتناقضات التي تكبر معنا حد العقدة؟ هذا الذي كان ينقص. السائق هو الآخر ينضم إلى جوقة المربين. ذكرٌ يعرف سيكولوجية ذكر (زعما). ينهره. يأمره. يختار الحل النهائي. الأنجع. المخيف. "نيني"… وقبلها كانت "شششششششششششششششت". اسكت ثم نم. أنا من يكلمك الآن. أنا السائق. إذا لم تمتثل لأوامر أمك، فأنا سأعلمك "التْرابي"… "الترابي".. هذه الأخرى. تحوير لكلمة "تربية". لاحظوا كيف تطورت إلا أن صارت لفظة بحمولة ثقافية واسعة. باتت تختصر منظومة قيم ومبادئ وسلوكات ننسفه بها من نريد ونثمن بها من نريد. صار الآن في زحمة الطاكسي الصغير ثلاثة متدخلين يتناوبون على تربية طفل صغير يتجاوز بالكاد عامه الثاني من أجل نهيه عن رغبة طبيعية في أكل يوغورت. ولو لا أنني منعت نفسي من التدخل لكنت رابع المتدخلين مهما كانت طبيعة تدخلي… مهما قلت للأم بأن تكف عن توريط بوعو في مهمة لا علاقة له بها، ومهما نصحتها بأن تعامل مع طفلها بالذكاء والمرونة اللازمتين، ومهما أقنعتها بأن تضع اليوغورت بين يديه وتلهيه ريثما تتدبر ملعقة يأكله بها، ومهما طلبت منها الكف عن التعنيف اللفظي في حق فلذة كبدها، ومهما قلت لها إن تعدد المتدخلين في تربيته ليس في صالحه ولا في صالحها… تركت الطاكسي وحصة التربية متعددة المتدخلين وفي نفسي غيظ مما وقع ومما يقع في الكثير من البيوت المغربية وفي شوارعنا حيث لا نربي بقدر ما نقمع ونعنف. حين نعجز عن احتواء وضع نحن من تسببنا فيه، نلجأ إلى شخصيات اختلقناها ذات زمن قديم لنرهب بها أطفالنا، وإلى محاكاة صوتية من قبيل "نيني" و" هَمهَم"… لا تفيد الكثير في امتلاك قاموس النطق عند الطفل. وفي ذلك تعطيل لكثير أشياء أخرى في تكوين شخصيته وفي شخصية من هم أوصياء عليه ومن يفترض فيهم أن يسهموا في تقويم ما اختل في التربية من السلوك. في النهاية "كل شي تيربي كل شي"…