حدثنا عيسى ابن هشام قال : في غابر الأزمان ، نزلت إلى جامع الفنا بمدينة سبعة رجال لتحصيل الدرس من مدرسة الواقع والسؤال …. كان بمعيتي أبو الفتح الإسكندري : رجل الفصاحة ، يدعوها فتجيبه…والبلاغة ، يأمرها فتطيعه….أخبرني عن رجل طيب وصديق وصاحب مقام. رجل نصيح إن شاورته …فصيح إن حاورته…له فؤاد يخدمه اللسان ، وبيان يرقمه البيان. رجل ، له في الصنعة المسرحية نفاذ ، بل هو فيها أستاذ…ويضيف أبو الفتح الإسكندري : " يا قوم ! لكل عمل رجال …ولكل مقام مقال…ولكل دار سكان…ولكل زمن جاحظ… وفي مملكتنا ، الطيب الصديق هو جاحظ الزمان." تعابيره مسموعة ، واللعب بألفاظه مصنوعة…يتأمل الطرائف ، ويتعصى الزخارف ، ويطل على المشارف … حكى عنه أبو زيد السروجي : " انه يتقن اللطائف الأدبية والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية ، والرسائل المبتكرة ، والخطب المحبرة والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية…" الطيب الصديق : يلجأ القول في معرض البيان ، ويدعو القول ، وبالسحر يكون الافتتان…المسرح أغنية في البال…والإبداع أنشودة في الأذهان. في يوم ، في شهر ، في سنة أديمها ذو لونين ، وقمرها كتعويذ من لجين ، دخل عوالم البخلاء والليالي والحيوان ، اقتحم عوالم الحريري والمقامات ، صاحب شكسبير وموليير وشقائق النعمان ، تفاهم مع أبو حيان ، ورجل همدان والمجدوب عبد الرحمان… عاش بالتضحية والنكران ، داخل المقامات الحسان ، على مرور الوقت والأزمان … وسأل عيسى بن هشام أبا الفتح الإسكندري : والطيب الصديق هذا ، يتحدث بأي لسان ؟ يا سيدي ، طيبنا يحمل المسرح في العقل والقلب والوجدان ، ولسانه بالعربية والفرنسية سيان…وهو لو لم يكن فنان…لكان فنان … شموخ ببساطته، وبسيط في شموخه …قادر على ذكاء التأويلات…وعمق القراءات …وتحليل المشاهدات … زدنا زدنا علما يا أبا الفتح الإسكندري ! الطيب يواجه الصديق ، والصديق يجيب الطيب ، والاثنان واحد في جسد مسرحي إنساني…من الشعر إلى التشكيل…من اللباس إلى الإنارة…من الصرامة إلى الصرامة. فهو إنسان ينسجم مع الفنان، وفنان يندمج فيه الإنسان… أخبرني يا أبا الفتح ! هل راودته يوما فكرة الرحلة إلى بلاد العجم ؟ بلى ، فهو كان دوما يردد ما قاله الشاعر : لست جديرا ببلاد يكون المرور إليها جواز سفر أنا جدير ببلاد جوازاتها أن تحب المسرح والقمر… قل لي يا أبا الفتح : ماذا أعطاه المسرح في بلد يهدمون فيها البنيان ؟ قال : الحكاية عذاب وبهتان ، اغتالوا وقتلوا جوارح الإنسان ، وبقي صامدا يضحك باكيا عن الغفلان …ويبكي ضاحكا على تفاهة بني الإنسان… وماذا كانت نهاية الطيب الصديق ؟ أختم يا أبا الفتح الإسكندري ! تنفس الصعداء وقال : آن الأوان حين طوحت به طوائح الزمان ، وتناساه بنو الإنسان ، وغادره أصحاب الميدان ، وتناسوا الخير والإحسان ، وهاجره الفستان داخل البنيان…وذات يوم جمعة ، لم يدرك الرجل الصباح ، فسكت عن الكلام المباح…