كان حلمه أن يصبح بحارا، ويعيش في جزيرة تطلع فيها شمسان، متمردا على مواضعات المجتمع المغربي، وعلى قوانين الشارع أيضا، حيث البقاء والقيادة للأقوى حينا، وللدهاء والحيلة والمفاجأة أحيانا كثيرة. هي ذي سيرة “علي زاوا” بطل فيلم نبيل عيوش (2000)، وأيضا كل من “كويتة” و”عمر” و”بوبكر” بعد اغتيال صديقهم و”أميرهم” عليّ من قبل عصابة من عصابات شوارع الدارالبيضاء/الغول. فهل حقق أبطال الفيلم في “الواقع” ما حلموا به في “السينما” أم أنّ رياح التمثيل في المغرب لا تكون دائما على مقاس أشرعة مثل هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين تبنّتهم شوارع وأرصفة الدارالبيضاء لعشرات السنين؟ بداية، دعونا نعترف -على سبيل التذكير- أن فيلم “علي زاوا” لنبيل عيوش يعدّ علامة مضيئة في تاريخ السينما المغربية لتحقيقه المعادلة الأصعب المتمثلة في جودة الشكل والمضمون والأداء، وهذا بالضبط ما أهّله لحصد مجموعة من الجوائز منها: الجائزة الكبرى في المهرجان الدولي بستوكهولم 2001، والجائزة الكبرى للمهرجان الدولي التاسع والأربعين لمانهايم هيدلبورغ بألمانيا، وجائزة الجمهور بمهرجاني فرنسا وبلجيكا، والجائزة الكبرى في مهرجان “أفلام العالم” بمونتريال في كندا، كما اختير للتنافس حول أوسكار أحسن فيلم أجنبي. وللتذكير دائما( لعلّ الذكرى تنفع السينمائيين) فأبرز ما بنت عليه لجان التحكيم أحكامها لصالح الفيلم في كل المهرجانات التي شارك بها، هو الحضور القوي للأطفال وأدائهم البليغ. فما الذي ميّز أطفال نبيل عيوش حتى يلفتوا الأنظار ويبهروها بهذا الشكل؟ لعلّ ما يحسب لعيوش في هذا الصدد، هو رهانه على أطفال يعلم مسبقا (حسب طبيعة الفيلم وموضوعه) أنهم سينجحون لا محالة، وسيحققون في النهاية حلمه “العالمي” ولو على حساب أحلامهم الصغيرة للأسف. نجح أبطال “علي زاوا” لأنهم كانوا صادقين في التعبير، واقعيين أكثر من أي واقعية عرفتها السينما المغربية تحديدا، لم يجدوا صعوبة مطلقا في فضح “الشارع” الذي خبروه بمجموعة من الخسارات والتجارب البئيسة، لهذا كانوا في الموعد السينمائي تماما، بل فاقوا كلّ ما تصوّره “المخرج المغربي” وأيضا المشاهد. تجربة نبيل عيوش في الاشتغال على تيمة “أطفال الشوارع” بهذا الشكل الفريد والحصري لم تكن الأولى على المستوى العالمي، فقد سبقتها قبل عشر سنوات تجربة رائدة وقوية للمخرجة الهندية (الواقعية) “ميرا نايير” في فيلمها سلام بومباي، وهي التجربة التي يبدو حضورها وملامحها واضحين في “علي زاوا” نبيل عيوش لعدة اعتبارات ونقاط تشابه من بينها: التيمة أساسا، و فئة الاشتغال وعمرها حيث كلا الفيلمين اعتمدا على أطفال شوارع حقيقيين وفي نفس السن، ف”علي زاوا” طفل في العاشرة من عمره، وكذلك “كريشنا” بطل فيلم سلام بومباي، أيضا توظيف المجال المديني بدلالاته، فلم يكن بإمكان عيّوش أن يجد مواصفات مدينة تضاهي بومباي الهندية(من حيث الفقر والجريمة والانحراف) في غير الدارالبيضاء. ليس عيبا على الإطلاق اقتباس فكرة أو موضوع، أو حتى طريقة اشتغال، فالسينما العالمية عموما، والمغربية تحديدا مثخنة بالاقتباسات والتقاطعات، بل والسرقات أيضا. بالنسبة لفيلم “علي زاوا” تمنيت لو ذهب نبيل عيوش بعيدا في تقاطعه(حتى لا نقول اقتباسا) مع سلام بومباي، وربط السينما بالواقع العملي، كما فعلت المخرجة الهندية “ميرا نايير”. كيف؟ سنرى، لكن قبل ذلك، دعوني أقدّم فكرة عن فيلم سلام بومباي. يتأطر فيلم “سلام بومباي” 1988 ضمن تيار الواقعية أو “سينما المؤلف” في السينما الهندية، وهو الفيلم الثاني في تاريخ السينما الهندية الذي حصل على جواز المرور للترشح إلى مسابقة أفضل فيلم أجنبي في جائزة الأوسكار العالمية. بطل الفيلم “كريشنا” صبي في ربيعه العاشر، ترغمه الظروف على مغادرة قريته من أجل جمع 500 روبية تعويضا لتسببه في إتلاف دراجة أخيه، فتسوقه الأقدار إلى مدينة بومباي ليستقر في واحد من أفقر أحيائها، بين الكائنات السفلية للمجتمع من لصوص، وبائعات هوى، ومدمني مخدرات، يظل في صراعه المرير يأمل في جمع المال والعودة إلى قريته، لكنه يفشل، وتقفل القصة على نهاية غير سعيدة بعيدا عما عودتنا عليه السينما الهندية الحالمة. فيلم “سلام بومباي” يبئر على ظاهرة أطفال الشوارع وما يتعالق معها من ظواهر انحرافية من قبيل: الدعارة، القوادة، الإدمان، الاتجار في المخدرات إلخ، وقد لجأت المخرجة إلى أطفال شوارع حقيقيين، كما أنّ 80% من المشاهد صورت في شوارع بومباي، لأجل تعميق عنصر الواقعية والصدق في المقاربة السينمائية التي تسلحت بها المخرجة الهندية. الفيلم حصل على العديد من الجوائز بفضل أداء أبطاله الصغار وحضورهم القوي. لنعد إلى الدارالبيضاء في الوقت الحالي، أي بعد ما يناهز 13 سنة عن فيلم “علي زاوا”. ما الذي جدّ ؟ أكيد أنّ الأطفال الصغار أصبحوا نجوما سينمائيين تسّاقط عليهم المشاريع والسيناريوهات رطبا جنيّا، ويطأون السجاد الأحمر في كل مهرجان، بدءا ب”مراكش”، وانتهاء ب “كان”، مرورا عبر “القاهرة” و”دبي” و”مونتريال” و”ألمانيا” وغيرها. آسف، فهذا لا يحدث في المغرب، أو يحدث على الأرجح سينمائيا، أي من باب التخييل الفيلمي لا غير. ما حدث مؤخرا هو أنّ وسائل الإعلام تناقلت خبر اعتقال مصالح الأمن المغربية ل “مصطفى حنصالي”( أدى دور عمر في فيلم “علي زاوا”) والبالغ من العمر 27 سنة، لأجل ضلوعه في ارتكاب عمليات إجرامية(ما يفوق 70 عملية باعترافه)، وتزعمه لعصابة أثارت الرعب في العديد من مناطق الدارالبيضاء. من جهة أخرى اعتقل أيضا عبد الحق ازهيرة (لعب دور علي زاوا) بتهمة الضرب والجرح ومحاولة اغتصاب قاصر، حيث اعترف أنه كان مخدرا وقتها، كما صرّح بأنه عاد لحياة التسكع والتشرد بعد صرف المال الذي جناه من فيلم “علي زاوا” قبل ما يزيد عن 12 سنة، ليعيش مرحلة فراغ قاتل قبل أن يشارك كعامل ديكور في فيلم لنبيل عيوش، بينما يعتاش هشام موسون( أدى دور بوبكر في الفيلم) على ما تجود به “قلوب الرحمة” في مدينة آسفي، رافضا العودة إلى حياة “التشمكير” والانحراف، يدخن بدون عمل، وبدون مستقبل واضح، لا ملاذ له غير سرير بئيس في خيرية بآسفي. أمّا منعم كباب(لعب دور كويتة في الفيلم) فلم يعرف مصيره منذ زمن الفيلم، ولعله عاد هو الآخر إلى حياة التسكع، أو لا يزال قابعا في السجن، من يدري؟ أين الخلل في هذا الوضع المأساوي الذي يحتاج بدوره ل”فيلم سينمائي” ؟ ومن المسؤول عن ضياع مستقبل هؤلاء الفتية الذين آمنوا ب”المخرج” فزادهم خذلانا ومعاناة ؟ شباب كانوا موهوبين قبل 13 سنة بشهادة لجان تحكيم عالمية، أصبحوا اليوم يوظفون مهاراتهم في ترعيب الناس وتهديدهم. لماذا ؟ ألم يساهموا يوما ما في بناء مجد المخرج نبيل عيوش ونجاحه، بل ونجاح السينما المغربية عموما ؟ ماذا جنوا بالمقابل ؟ القتل الرمزي (سيكولوجيا واجتماعيا)، ماذا يعني أن تفتح أبواب الجنة أمام أطفال لم يعرفوا غير برودة الشوارع، واحتمالات الموت في كل زاوية، ثم بعد ذلك تسحب الحلم من بين أصابعهم مثل الماء، وتعيدهم إلى الجحيم الذي أتوا منه، وظنوا أنّ موهبتهم مانعتهم عنه ؟ في الواقع لا أميل كثيرا لخطابات الاتهام والتجريم، ولا أرغب في تحميل المخرج المغربي نبيل عيوش المسؤولية كاملة عن ضياع مستقبل هؤلاء الشبان، لأن السينما المغربية بمخرجيها وممثليها ومنتجيها تتحمل قسطا من المسؤولية أيضا، لكن واقع حال هؤلاء “الضحايا” ينضح بالدلالات، والألم أيضا، ويبعث على الأسى والأسف، ويؤكّد أنّ منطق الاشتغال في السينما المغربية ليس بريئا تماما، ولا مشرفا أيضا. قبل الختام، دعوني أعود مرة أخرى إلى فيلم سلام بومباي، فبعد أن وقفت المخرجة الهندية ميرا نايير على الوضع المأساوي الذي يعيشه “أطفال الشوارع”، وما يتعالق مع ذلك من سلوكات انحرافية ببومباي من خلال محطات تصوير فيلمها الرائع، قامت بخلق مؤسسة salaam balaak التي جعلت ضمن اهتماماتها الأساسية مساعدة أطفال الشوارع واحتضانهم، والعمل على إعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع من خلال التكوين وتوفير فرص الشغل في المستقبل. وقد كان أول نزلائها أبطال فيلم سلام بومباي، وما أظنهم اليوم (إن لم يكونوا قد أصبحوا نجوما سينمائيين بالفعل) إلاّ أفرادا صالحين لأنفسهم ولمجتمعهم بكل تأكيد. اليوم هناك عشرات المراكز التابعة لمؤسسة salaam balaak في بومباي، والهند بصفة عامة لهذا الغرض. صحيح أنّ أمجاد البعض تصنع أحيانا على جبال من معاناة وأنين الآخرين، بل على ركام من الجثث والقتلى أحيانا، هذا ما حدث مع: عبد الحق ازهيرة، ومصطفى حنصالي، وهشام موسون، ومنعم كباب، إذ لم تساعدهم السينما على تحقيق أحلامهم البسيطة، بقدر ما ساهمت في تكثيف مأساتهم، وتعميق تمردهم أيضا. كسب نبيل عيوش، وكسبت السينما المغربية، وخسر أبطال “علي زاوا”، ولشدّ ما خسروا: المستقبل والحياة.. “سلام علي زاوا”. (*) كاتب مغربي