«الدستور عطانا الحق في السكن الكريم» ما إن وضعت الانتخابات أوزارها، وأنهى كل ناجح احتفالاته وبدأ الفاشلون يحصون خسائرهم، وفي ظل انشغال المغاربة بتشكيل الحكومة الجديدة، كان مشهد آخر يحاك على خشبة المسرح، مفاجأة لم تكن في الحسبان، بسبب انشغالات «أولي الأمر» محليا بالانتخابات التشريعية وقبلها بالاستفتاء على الدستور. استفاقت السلطات المحلية بعد طول «انشغال»، على وقع حشود من المواطنين النازحين والمقيمين يسيطرون على أراضي خاصة، منهم من بنى ومنهم من جَزّأ فقط وعلى وشك البناء. مدن جديدة تبنى على مشارف المدينة الأم، أحياء القرن الجديد تبنى على شاكلة أحياء الألفية السابقة، منازل تبنى بين عشية وضحاها، مشكلة أحياء تمتد لمسافة طويلة بكل اختلالاتها وسلبياتها. «حتى ملي كايبغيوا يبنيوا ما كيخليوشي لا طريق ولا درب، نفس تجارب الأحياء العشوائية السابقة كيعاودوها» يعلق مهندس متطوع بإحدى الجمعيات الإجتماعية، وهو الذي ينتمي لشبكة أنشئت مؤخرا لحماية المدينة وصيانتها، يكاد يجن وهو يرى ما يجري ببعض المناطق التي يطالب أن «تكون محمية» من كل شيء، وعلى رأسها تلك المنطقة الممتدة بجبل درسة التي كانت غابات، «شوف الجبل أقرعولو كامل» يقول المتحدث باستهزاء كبير. عشرات بل مئات من المواطنين كبارا وصغارا نساء ورجالا، يتجمعون بأراضي خالية على مشارف المدينة، بحي بوسافو لجبل درسة لحي الصومال، لم يفهم أحد ما يحدث ولا سبب تجمع هؤلاء هناك بتلك الطريقة، البعض اعتقد أنه «موسم» وآخرون رأوا فيه ربما وقفة احتجاجية لسكان الحي في «زمن موضة الاحتجاجات»، لكن الواقع كان شيئا آخر.. إنهم ينفذون ما وعدوا به على ما يبدو، حيث كانت الوعود قد أعطيت لهم قبيل الانتخابات بتمكينهم من أراضي ورخص بناء، وعود قدمت لهم من مستشارين بالجماعة الحضرية... على مشارف حي «الصومال» قرب السجن المحلي، بدأت الحركة مبكرا خلال اليومين الأولين بعد الانتخابات التشريعية. هناك من بنى خيمة وآخرون شيدوا أسوارا، مشهد جذب الكثير من الفضوليين وحتى متحيني الفرص إلى المنطقة المذكورة للاطلاع على مجريات الأمور. هكذا يروي محمد يوم قاده فضوله لحي الصومال، وبالضبط للبقعة الأرضية المتواجدة في بداية الحي، حيث تجمع الرجال والنساء والأطفال، كل في يده أداة من أدوات البناء، هناك من يجزئ الأرض وآخرون يبنون أساسات، فيما هناك من هو متقدم في البناء، كلما وضع آجرة إلا وقام آخر بطلائها مباشرة حتى يبدو البناء قديما. مشهد يقول عنه محمد إنه غريب جدا، وشبيه بما يرى في بعض الأفلام الوثائقية عن تلك «العشوائيات المصرية، وتلك المتواجدة بالهند وبعض الدول الإفريقية الفقيرة».. فما كادوا يصلون حتى بدأت العروض تتوافد عليهم من طرف البعض، «ها الأرض بوراقها، 100 متر غير ب 3000 درهم» من جانب آخر عرض أقل ثمن «غير أجي ها الأرض محوازة 2000 درهم إلا بغيت». هكذا بيعت أرض واحدة عدة مرات بمبالغ مالية مختلفة، وكلها أراضي لا وثيقة لها ولا ملكية في يد بائعها. جلها أراضي للخواص أو للدولة. بعض الأشخاص يقولون إنهم من الحي المذكور، وآخرون يبدون غرباء لكنهم مصرين أنهم بدورهم من المنطقة. إصرار غريب لدى غالبيتهم بكونهم «يمارسون حقهم» في امتلاك منزل «وفق ما ينص عليه الدستور» إنه تنزيل للدستور الجديد بالطريقة المغربية على ما يبدو، لكن في شقه هذا فقط. «هذا حقنا احنا مواطنين مغاربة معندناش فين نسكنوا، الدستور كيضمن لنا حق السكن الكريم، هاد الأراضي خاوية واحنا من حقنا نخدوها». هكذا وبكل ثقة في النفس تقول الشابة «المتزعمة» مجموعة من الأشخاص الذين استولوا على أراضي بحي بوسافو، الآخرون يساندون قولها ويعيدون ما تقوله مرات عدة «هذا حقنا»، «كيفاش حقكم، لا الارض ديالكم ولا رخص للبناء لكم» تسألهم في انتظار جواب مقنع، لكن لا جواب سوى «الدستور عطانا الحق في العيش الكريم» جملة يحفظها الكبير والصغير عن ظهر قلب، أو لعلها أصبحت «جواز المرور» بالنسبة لكل هؤلاء، العلم المغربي، صورة جلالة الملك وحقنا في الدستور، ثلاثي لا يفارق كل عمليات الترامي على الأراضي والبناءات العشوائية التي أقيمت فوقها. الانتخابات شرارة البناء العشوائي الوصلات الإشهارية التي تدعو المواطنين للتصويت تملأ الجدران وشاشات التلفاز، رجال السلطة لا يتوقفون عن «الجري» طول النهار، همهم الوحيد إنجاح الانتخابات والوصول إلى تسجيل أكبر نسبة مشاركة ممكنة. «سير بني أمتصد عينش هاد الأيام راحنا مشغولين» ذاك كان جواب السلطات المعنية بالبناء، لكل من يحاول البناء بترخيص أو بدونه، جواب فتح شهية الكثيرين للقيام بما لم يقوموا به خلال المدة السابقة. لا أحد سيكترث لهم على ما يبدو، ولن تكون هناك مشاكل في بناء منزل أو احتلال أرض، أو إكمال بناء سقف لم يكتمل. «هادي شهور ونا كنرغب باش إخليوني نكمل السقف ديال الدار، كيمنعوني تماما، استغليت دوك الأيام ديال الإنتخابات وكملتو لا فرانك لا جوج»، يقول أحمد القاطن بأحد أحياء مرتيل العشوائية أصلا. عمليات البناء التي شهدتها المدينة خلال الفترة الانتخابية «كانت قياسية» حسب مصدر مسؤول في السلطة، «لقد استغل هؤلاء انشغال السلطة وأعوانها بالانتخابات وقبلها بالدستور ودارو ما بغاو» في محاولة لإبعاد أصابع الاتهام الموجهة للسلطات، بسبب تقاعسها وصمتها كل هاته الفترة. «السلطة والمجلس البلدي بجوج مسؤولين على هذه المشاكل، شي سد عينو وشي رخص بلا قانون، ودابا كل واحد كيجني اللي زرعو» يعلق محمد العمراني العضو النشيط في إحدى الجمعيات المدنية بتطوان، هذا الأخير الذي يرى أن «أيام الانتخابات كانت استثناء في تاريخ المغرب من حيث الفوضى، ولا يمكن إلا أن تنتج هذا الوضع». بكل صراحة يجيب عن سؤال من يقف وراء كل هذا؟ ويقول «السلطة والبلدية» لا نقاش فيها و«كلشي عارف هدشي، كاين منتخبون اللي وعدو الناس أيام الانتخابات، وجمعوا بخداعهم الأصوات اللي احتاجوها». ما يقوله العمراني لم يعد خفيا على أحد هاته الأيام، فمن يقف وراء هؤلاء؟ مئات الأسر خرجت دفعة واحدة وفي نفس اليوم تقريبا، لاحتلال أراضي متفرقة في أحياء متباعدة. «لغز محير وأجوبة غير شافية عنه..». حينما تطرح السؤال «كيفاش خرجتوا كاملين في نهار واحد باش تاخدوا الأرض؟» بكل بساطة وبسذاجة غير مقبولة يقولون «من ديتنا لراسنا»، أي أنهم خرجوا هكذا دون سابق اتفاق ولا معرفة ببعضهم. نفس الجواب يتكرر على لسان الجميع، كما لو أن أحدا لقنه لهم عن ظهر قلب، وأصروا على نفس الأجوبة حتى أمام السلطة التي حاولت معرفة من يقف وراء «هذا المخطط». «ملي كان عندهم الغرض بينا قالو لنا مشيو بنيو ادابا باغيين أهدمولنا !» يقول رب أسرة هدم منزله بحي «الصومال»، وهو يشير إلى كون مسؤولين بالجماعة الحضرية، أعطوه رخصة بناء غير مسجلة وغير قانونية للبناء، مثله مثل عدد كبير من أمثاله، وقالوا له «سير تبني حتى واحد ما غادي يهدر معاك»، والثمن حسب قوله «الحملة الانتخابية والأصوات». نفس الأسطوانة يكررها جل من هدمت منازلهم والذين حاولوا في مختلف المراحل «ستر» مصدرهم في كل هذا، لكنهم عادوا وأفصحوا عن تورط سماسرة في القضية، من بينهم مستشارون وموظفون قد تكون النيابة العامة باشرت تحقيقات معهم. خاصة بعد تخليهم عن «ناخبيهم» بعد «العين الحمرة» التي تعاملت بها السلطات مؤخرا مع الموضوع. منتخبون وموظفون وسماسرة يتاجرون بمآسي الناس تقول شهادة الملكية الصادرة عن المحافظة العقارية، إن الأرض رقم (....) هي في ملكية مجموعة من الشركاء، محفظة بتاريخ (....). الأرض التي تتحدث عنها شهادة المحافظة العقارية، تتواجد بحي مورسيا على هضبة رائعة مطلة مباشرة على شواطئ تطوان من شمالها حتى شرقها، قطعة تمتد على مساحة طويلة جدا، أو كما قال أحدهم «على حد البصر». أرض لم تنج من «احتلال» في آخر أسبوع من السنة المنصرمة، حينما نزل وفي رمشة عين مئات من الأشخاص، يحملون أعلاما وصورا لجلالة الملك، وآخرون يحملون هراوات ومعاول قالوا إنها لم تكن للمواجهة، بل لتجزيء القطعة الأرضية المعنية، ووضع حدود كل قطعة على حدة. «الموضوع ماشي بريء، لأن نزول هاد الناس في هاد الوقت بالذات موراه أشخاص مسؤولين في البلاد»، يقول أحد مالكي الأرض المذكورة، كان يتحدث بصيغة الواثق من كلامه جدا. «كيفاش بقات خاوية هادي عقود، واليوم من بعد الموافقة على بناء مساكن اقتصادية بها، يبعث هذا الكم من عباد الله لاحتلالها؟» يتساءل المتحدث مستغربا، استغرابه لا يقف عند حدود ذلك، بل إن الكثير من الأشخاص الذين التقتهم الجريدة بعين المكان، يبررون تراميهم على تلك الأرض، بكونها لفلان أو علان، إنها أيضا شكلا من أشكال الانتقام من بعض الأشخاص من مالكي الأرض، منهم مسؤولون جماعيون سابقون ومنعشون عقاريون، بل أن ذلك كان هو سبب ما تم القيام به، مدفوعين من جهة عرفت مسبقا أن المشروع سيقام على تلك الأرض، وأن هناك مستفيدين منها بطريقة من الطرق. جند «المحتلون الجدد» حراسا على الأرض يتناوبون على حراستها، وجند أصحاب الأرض بدورهم شبانا يشتغلون لصالحهم، كل طرف يستفز الآخر في محاولة لفرض سيطرتهم. مما جعل صراعات وشجارات تنشب بين تلك الأطراف، في مناسبات مختلفة استعملت فيها الهراوات والسلاسل لفرض السيطرة. السلطة بقيت بعيدة عن هذا الصراع مطلقا، لكنها كانت أقوى في مواجهة البناءات العشوائية بكل تلك الأحياء، لم تطارد أحدا ولم تتخذ أي إجراء في حق «المحتلين» للأرض، لكنها لم تسمح بأي بناء غير مرخص، فجرافاتها كانت تشتغل كل يوم، في هدم منازل حديثة وحتى قديمة بنيت منذ مدة قبيل الموجة الأخيرة. النيابة العامة تعتبر عصب الموضوع، لم يكن أي من مسؤولي السلطات الترابية قادر على الحركة، أو اتخاذ أي موقف في ظل الحراك المجتمعي، لكن «سيادة القانون» جاء على يد رجال القانون على ما يبدو، فكل العمليات التي تمت في أولى ساعات الصباح، كانت تتم تحت إشراف ومباشرة النيابة العامة وحضورها بعين المكان. البداية كانت من حي «الصومال» تبعها حي «مورسيا» ف«بوسافو» ولعل القائمة مازال بها الكثير، حسب ما علمت به الجريدة من مصادر موثوقة، في وقت تتكتم السلطات الترابية كليا عن إعطاء أي معلومات بخصوص عمليات الهدم السابقة أو اللاحقة. «تنفيذ القانون لا يمر دون ترك الجراح والخراب». هكذا يشرح مصدر حقوقي ما يحدث هاته الأيام بتطوان، والذي يضيف «الناس يعتقدون أنهم يمارسون حقوقهم، وبعضهم هم ضحايا السماسرة، سواء كانوا سماسرة المال أو الانتخابات، ومن ثم كان على السلطة التعامل مع الموضوع من جانبه الاجتماعي من جهة والقانوني من جهة أخرى». المتحدث لا يقصد سيادة «الفوضى» لكنه يرى أنه لا يمكن إغفال دور المسؤولين محليا سواء المنتخبين أو السلطات، في التواطؤ وتحمل المسؤولية كاملة فيما طال هؤلاء الناس الذي جلهم فقراء ومعدومي الدخل. يمتد ليل تطوان على تلك الجبال والأحياء المحيطة بالمدينة، وفيما تغمض جفون «الرقباء» يحين موعد استيقاظ البعض، إنها المناسبة للبناء الليلي الذي لا يراه أصحاب النهار، حتى أن تخصصات البنائين غدت مختلفة، فالمعلم بالليل وصلت أجرته ل 700 درهم حسب بعض المصادر، وأصبح هناك متخصصين في هذا النوع من البناء لهم أجرة مضاعفة، ولهم مساعدوهم ممن يعينونهم في البناء، حتى وإن لم تكن هناك شمعة مضيئة. مصطفى العباسي