احتضنت جامعة أوكسفورد العريقة يومي 24 و 25 أكتوبر المنصرم أشغال الدورة 15 ل«ؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية» في موضوع حوار الثقافات، وذلك تحت شعار «عالمنا واحد.. والتحديات أمامنكا مشتركة». وقد تميزت هذه النسخة بتكريم عالم اللسانيات والمثقف الأمريكي الكبير نعوم شومسكي، الذي اعتذر عن الحضور في آخر لحظة بسبب وعكة صحية ألمّت بزوجته، وكذا الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت. كما شهد المؤتمر تنظيم خمس ندوات علمية ناقش فيها باحثون وخبراء من جهات العالم الأربع قضايا هي «اللاجئون والمؤسسات الدولية»، و«البيئة والتنمية البشرية»، و«وسائل الإعلام الجديد»، و«الشباب والتحديات العالمية الجديدة»، ثم أخيرا «المدن وأهم الملفات التي تواجهها». الوفد المغربي، المكون من محمد القباج ومحمد بنعيسى وعبد الرحمان طنكول وعبد اللطيف وهبي وعبد الحق عزوزي، كانت له مشاركة مهمة في هذا المؤتمر الذي رغم صبغته الدولية جعل من قضايا الوطن العربي أفق تفكيره بحكم ما يشهده من أحداث تراجيدية تفرض نفسها على العالم أجمع. * عبد العزيز البابطين: العولمة جعلت ما يصيب الوطن العربي تنتقل عدواه إلى العالم ركز الشاعر الكويتي وراعي المؤتمر ورئيس المؤسسة التي تحمل اسمه، عبد العزيز سعود البابطين، كلمته الافتتاحية على مظاهر الفرقة التي تشطر العالم اليوم بحدة إلى غرب وشرق، شمال وجنوب، أغنياء وفقراء، بلدان متقدمة وأخرى متخلفة، مؤمن وكافر، بشكل لا يعمل إلا على تكريس الأحقاد وبث كل فواعل سوء الفهم. لذلك، اعتبر أن هذا المؤتمر، الذي تحرص المؤسسة على تنظيمه، يأتي ليجسر الحوار بين ثقافات وحضارات العالم، راميا من خلال جمعه لباحثين مختصين وخبراء وسياسيين وإعلاميين من بقاع العالم إلى تجاوز معيقات التواصل والإقصاء بين البشر على أساس العرق والجنس والدين والجغرافيا، وردم الحواجز وترسيخ مبادىء الاختلاف والاعتراف بالآخر على أسس إنسانية حقة. وأشار البابطين، الذي استشهد بالآية الكريمة «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» في بداية حديثه، إلى أن النظام العولمي اختزل المسافات بشكل جعل ما يصيب العالم العربي اليوم تنتقل عدواه بسرعة إلى باقي أطراف العالم، حاملا معه تداعياته، وهو ما يحتم الخروج من منطق الخنادق والأسلاك الشائكة ومواجهة القضايا التي يعيش عليها الوطن العربي باعتبارها تهم البلدان الغربية بنفس القوة. واستشهد عبد العزيز البابطين بالحروب الأهلية التي تعاني ويلاتها بعض البلدان العربية وكيف ارتدت إلى العالم الغربي في شكل موجات ضخمة من المهاجرين الباحثين عن الأمن والكرامة. ولم يفوت البابطين الفرصة دون الجهر بحق الشعب الفلسطيني في حريته المستلبة من طرف إسرائيل، معتبرا أن وجود هذا الشعب تحت نير الاستعمار الصهيوني في القرن الواحد والعشرين بما يحمل من مظاهر تقدمه، ليُعدّ تحديا أخلاقيا كبيرا لضمير العالم، وخصوصا البلدان المؤثرة فيه. كما اعتبر أن تكريم عالم اللسانيات والمثقف الكبير نعوم شومسكي يأتي في هذا السياق، حيث لم تنسه حياته الأكاديمية الالتزام بقضايا الشعوب المستضعفة والدفاع عن حقوق المظلومين عبر العالم. وأنهى البابطين كلمته ب«نداء ملحمة العرب» الموجهة إلى الشعراء العرب من أجل كتابتها بشكل جماعي لتكون الدليل الشاهد أمام العالم أن العرب طلاب سلام، منشدا قصيدة من نظمه كنواة لهذه الملحمة. * عبد الله غول: الوطن العربي ضحية اللاعبين السياسيين الكبار قدم عبد الله غول، رئيس الجمهورية التركية السابق، تشخيصا دقيقا للأسباب الدولية التي تجعل الوطن العربي يعيش تراجيديا الاحتراب الأهلي ومأساة اللجوء السوري، الذي اعتبره كارثة إنسانية ومشكلا اجتماعيا وأمنيا كبيرا، حيث تطول نتائجه المدمرة المنطقة برمتها، وتمس في الصميم مستقبلها من خلال إفراز أجيال بلا تعليم لن يكونوا إلا وقودا للتطرف والإرهاب. وقد أجمل هذه الأسباب في ثلاثة. أولها، عدم المساواة الاقتصادية، وتنسحب على مجال التعليم، الذي يعيد إنتاج التفاوت الطبقي وبين البلدان نفسها. وحدد غول ثاني الأسباب في عدم شفافية المنظمات الدولية، وخصوصا الهيئات المالية الكبرى، مما أدى إلى تفجر أزمات مالية طال تأثيرها السلبي أغلب اقتصاديات العالم. وتوقف في هذا الصدد عند التجارة غير المشروعة في الأسلحة والمخدرات وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، فيما حدد السبب الثلاث في عدم الشفافية في الحكم أيضا، ومقاومة إصلاح مجلس الأمن من أجل أن يكون أكبر تمثيلية وديموقراطية. وأوضح كيف أن هذه الأسباب تساهم في خلق مناخ غير طبيعي يكون المتطرفون هم المستفيد الأول منه. كما أكد أن العالم العربي والإسلامي يتوفر على نخب ثقافية متنورة على الحكومات وأصحاب القرار فتح الأبواب أمامها لتسهم في نهضة بلدانها. * فؤاد السنيورة: الغرب مسؤول مباشر عما يعيشه العرب بالانحياز لإسرائيل ودعم الديكتاتوريات ندد فؤاد السنيورة، الرئيس اللبناني الأسبق بالمنطق الإيديولوجي الذي يتحكم في البلدان الأوروبية وهي تتعاطى مع مسألة اللاجئين السوريين رغم ما تقوله عن نفسها من أنها أرض الحرية وحقوق الإنسان. وأسف في الآن ذاته على صورة العرب في مرآة العالم، حيث صاروا الوجه الآخر للاقتلاع والتيه منذ اللجوء الفلسطيني الأول عام 1948 إثر الاحتلال الإسرائيلي، حيث يبلغ عددهم اليوم 350 ألفا بلبنان وعشرات الآلاف من السوريين بالإضافة إلى 50 ألف عراقي في بلد صغير لا تتجاوز مساحته 10 آلاف كلم مربع، يقطنه 4 ملايين لبناني، ويتحكم فيه المنطق الطائفي. وقال السنيورة إن 45 في المائة (300 ألف) من اللاجئين السوريين هم أطفال في سن التمدرس لا يستطيعون بحكم الظروف الصعبة في المخيمات الذهاب إلى المدرسة. هذه الصورة للعرب ستكرسها الحروب، إذ من أصل 16 حربا تدور رحاها في العالم اليوم، ينفرد العرب بحصة الأسد بسبعة حروب، فيما تليه إفريقيا بخمسة. وأشار أيضا إلى مفارقة مفادها أن العرب بالرغم من كونهم لا يشكلون إلا نسبة 5 في المائة من تعداد سكان العالم، يعتبرون هم المصدر الأول للجوء بنسبة 50 في المائة (30 مليون لاجىء 13 مليون منهم لا يذهبون إلى المدرسة)، تتقدمهم سوريا وليبيا والعراق والسودان.. السنيورة بيّن أن المفارقة تزيد حدة من خلال النسب العليا للشباب في العالم العربي، مع ما يعانونه من تفشي للبطالة، باستثناء بلدان الخليج العربي. ورد ذلك إلى سياسات الدول العربية القمعية التي قادت مجتمعاتها إلى ما تعيشه اليوم من مشاكل معقدة، ولعبت دورا كبيرا في استفحال التطرف وتفريخ الجماعات الإرهابية. وانتقد في المقابل سياسة الغرب، الذي يتعامل مع الأعراض لا مع جذور المشاكل ومسبباتها، معتبرا أن مأساة اللجوء السوري ما هي إلا عرض أفرزته القضية الفلسطينية من خلال الاحتلال الإسرائيلي وكذا الديكتاتوريات العربية. وقال الرئيس اللبناني الأسبق إن الغرب مسؤول مباشرة عما يقع في العالم العربي بوصفه تخلى عن واجبه الأخلاقي وترك القضية الفلسطينية دون حل منحازا لإسرائيل، بالإضافة إلى دعمه الطويل للأنظمة العربية الاستبدادية. كما دعا إلى ضرورة إصلاح ديني عاجل في تساوق مع إصلاح البرامج التعليمية، وإيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية بعودة إسرائيل إلى حدود 67 وعودة القدس إلى الفلسطينيين، وإيقاف تدخل إيران في العراقوسوريا واليمن، ومواجهة داعش بالمعتدلين وليس عبر حزب الله ومقاتلي إيران، مع التعجيل بالتكامل الاقتصادي العربي مع أوروبا والبلدان المتوسطية. * عبد الحق عزوزي: انفصال السياسة عن العلم يعرضها للفساد اعتبر الأكاديمي المغربي عبد الحق عزوزي في مداخلته ضمن ندوة «الشباب والتحديات العالمية الجديدة» أن الشباب هو العنصر الغائب في تنظيرات التنمية، وهو ما يشكل نقيصة على اعتبار أن ما يتحكم في كل تنمية، حسب ماكس فيبر، عاملان متكاملان هما العلم التنموي والسياسة. وحدد ماهية التنمية في انبثاق ونمو كل الإمكانات والطاقات الكامنة بشكل متوازن يروم إحداث تغيير قوي يحرك الأمة. وهي أيضا وسيلة للتغيير الجذري وزيادة قدرة الأمة على التحكم في المجتمعات والأوطان. وقال عزوزي أن التنمية الناجحة اليوم هي التي تستطيع بذكاء إدماج الشباب، باعتبارهم رأسمالا بشريا حقيقيا، مشيرا إلى أن هذا العنصر الحيوي كان في غيابة النسيان في العالم العربي، بعيدا عن القرار السياسي ومنظورا إليه بوصفه مصابا بالتبلد السياسي، قبل أن يهب الربيع العربي ويقلب المعادلة لصالحه بعدما نزل الشباب إلى الشارع وأسمع صوته وأطاح بالأنظمة المستبدة. وأوضح المتدخل كيف أن النظام السياسي لم يعد هو ضامن الاستقرار والسلم الاجتماعي وإنما التنمية نفسها، أي الخبز. وتطرق عزوزي إلى أن معادلة ماكس فيبر، القائمة على التوازن بين العلم والسياسة، والتي بها يأخذ الغرب في تدبير شؤونه مستدمجا الشباب، غير متحققة في العالم العربي، الذي يفصل السياسة عن العلم، مما يجعلها دوما عرضة للفساد. هذا الواقع جعل الحراك الثوري للشباب في الربيع الذي أضرمه يؤول إلى عكس ما قامت من أجله الثورة ويُستبعد من جديد في بناء الدولة والمجتمع، لأن طرفي المعادلة المذكورة منفصمان عن بعضهما، وهو ما لا يجوز. * محمد القباج: المغرب اعتمد نموذجا مختلفا للقضاء على مدن الصفيح سيناريو قاتم ذلك الذي رسمه محمد القباج، والي البيضاء السابق، وهو يقارب إشكالية المدن في أفق التحديات الديموغرافية والإيكولوجية. فعل ذلك باستناده على إحصائيات مستقبلية. ذلك أن سكان المدن الذين يبلغون اليوم 7 ملايير نسمة، 54 في المائة منهم يقيمون بالمدن، سيصبحون عام 2050 حوالي 9,5 مليار نسمة، 66 في المائة منهم يقطنون المدن، وهو ما يعني زيادة بنسبة مليارين ونصف المليار من المدينيين، خصوصا في إفريقيا وآسيا، أخذا بعين الاعتبار عدم التوازن في مناطق العالم، إذ في الوقت الذي يسجل العالم النامي زيادة ديموغرافية كبيرة يعرف العالم المتقدم العكس، وهو ما يعني أن أكبر المدن وأضخمها سيكون في بلدان العالم الثالث. هكذا تضم نيودلهي لوحدها 38 مليون نسمة، فيما تأتي بعدها مكسيكو وشنغاي ب 20 مليون نسمة. هذه اللوحة المستقبلية ساقها القباج من أجل تبيان حجم التحديات التي تواجه العالم، وتفرض عليه تضافر الجهود الدولية المشتركة لمواجهتها، لأنها لا تعني عالما دون الآخر. فإلى جانب معضلة البطالة والنمو الاقتصادي، هناك متطلبات هذا الإيقاع السريع للتمدن فيما يخص التجهيزات الأساسية ومياه الشرب والمشاكل الأمنية، وهي أمور تستفحل أكثر مع انتشار مدن الصفيح والعشوائيات. وتزيد حدة هذه التحديات على ضوء التحدي الإيكولوجي الأكبر الذي يهدد الحياة برمتها على هذا الكوكب. فتلوث الجو يجر خلفه انتشار أمراض معضلة وارتفاعا للحرارة ولمستوى البحر، الذي يهدد 500 مليون نسمة تقطن على السواحل، بالإضافة إلى المخاطر الصناعية وندرة المياه والزلازل التي يكون مفعولها أقوى على المدن، دون نسيان أن 700 مليون نسمة تسكن بالقرب من البراكين. أمام هذه الرهانات المتطلبة اقترح محمد القباج بعض الحلول منها انتهاج سياسة دولية فيما يخص الهجرة نظرا لحاجة البلدان الأوروبية التي تعاني من الشيخوخة إلى ساكنة شابة تتمتع بالخصوبة، وإعادة النظر في إعداد التراب الوطني، حيث تم التركيز سابقا على الشواطىء، وتوجيه الاهتمام إلى المدن الداخلية مع ما يحمله ذلك من حل لمشكل المياه بإعادة استثمارها في الأراضي المجاورة، ثم مواجهة التصحر والاستثمار في الطاقة الشمسية من خلال خلق تفكير جديد في العمران. أما بخصوص مدن الصفيح استشهد القباج بالنموذج المغربي في محاربتها، حيث أن الحكومة لم تتوقف عند سياسية بناء منازل مدعومة من طرف الدولة، وهو ما يبوء غالبا بالفشل، وإنما عمدت إلى توزيع بقع أرضية على ساكنة العشوائيات وتكفلهم ببنائها وفق ما يرونه مناسبا لهم، وهي عملية أقل تكلفة بالنسبة للدولة وأكثر إرضاء للساكنة، خصوصا حينما يتدخل على الخط المنعشون العقاريون لتجهيز هذه الأراضي بالمدارس والمستوصفات… * أنطوني دواني: الإعلام الرقمي استعمار جديد أدهش أنطوني داوني، الباحث الإنجليزي، المتخصص في الممارسات الفنية العالمية وعلاقتها بالسياسة، وفي وسائل الإعلام الجديد والإنتاج الثقافي العالمي، والمهتم أيضا بممارسات الفن المعاصر في المغرب العربي والشرق الأوسط، الحاضرين بمقاربته النقدية للإعلام الرقمي، حين اعتبره استعمارا جديدا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ودشن مداخلته بالتساؤل عن الطريقة التي فرض بها هذا الإعلام نفسه على المجتمعات والأفراد. وكيف استطاع أن يتحكم فيهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بكل هذه القوة. كما تساءل عما أسماه بسرديات الثورة كما روج لها على هذه المواقع أثناء موجة الربيع العربي، وإلى أي حد استفادت الدولة الغربية من هذه السرديات ووجهتها لصالح سياساتها. وأكد داوني أن هذه السرديات عرفت، من خلال متابعته لها، اختلاق العديد من الوقائع التي لم تقع على أرض الواقع، واستغلالها سياسيا ضد الأنظمة العربية ومنها النظام السوري. وقال إن الذي يتحكم في هذه السرديات هو الأجهزة الاستخباراتية الغربية، وخصوصا الأمريكية، التي تعمل على استخدامها في النزاعات والصراعات. وأوضح أن خطر ما يسمى بالإعلام الجديد يستفحل حين يكون مستعملوه جاهلين لطبيعته وأبعاده، وليست لهم ثقافة بالمرئي وآثاره، مما يجعل هذه الوسائل أكثر نجاعة فيما يخص من يتحكم فيها ويوجهها لتنفيذ أجنداته. وقال داوني إن الإعلام الرقمي بوصفه استعمارا جديدا يأتي ليكمل ما دشنته وسائل الإعلام التقليدي، وخصوصا الوثائقيات التي فصّلت العالم وفق رؤية غربية متمركزة على نفسها. كما بيّن أن الأمر يتعلق بصراع ثقافي في العمق، مستشهدا بما وقع في العراق من إبادة ثقافية إبان غزو أمريكا لبلاد الرافدين، إذ لم تقم بحماية المتحف والمكتبة العراقيين رغم أنهما كانا ضمن لائحة 20 موقعا تستوجب الحماية، في الوقت الذي اختفى فيه 4000 عالم عراقي، منهم من قتّل ومنهم من هُجّر، أما التحف المسروقة فقد وجدت طريقها إلى البلدان الغربية. عبد العالي دمياني موفد «الأحداث المغربية» إلى أوكسفور سيتي