قدم الباحث الأكاديمي عبد الإله الغزاوي، مؤخرا بفيلا الفنون بالرباط ، محاضرة في موضوع "الظاهرة الاجتماعية في شعر الملحون ... حضور، تجليات وإبداع"، أكد فيها أن شعر الملحون هو "ديوان المغاربة" إذ "ينطوي على تجليات فنية ذات طابع واقعي، تكتسي فيه الظاهرة الاجتماعية أهمية بالغة". وأوضح المحاضر، في هذا اللقاء الذي نظمته مؤسسة أونا (أومنيوم شمال أفريقيا)، أن الشعراء الشعبيين عالجوا ببلاغة تعبير وروعة تصوير الجانب الاجتماعي بدقة متناهية من خلال إنتاج خطاب حول العادات والتقاليد واستجلاء المكونات الحضارية (الطبخ، اللباس، الحلي، الموسيقى، العمارة، الرياضة...)، وإبراز التدافع الطبقي، واستكناه الأوضاع الأسرية، ومواكبة الانفتاح على الحياة الجديدة، وتوجيه النقد اللاذع لاختلالات الأحوال الاجتماعية. وأضاف أن شاعر الملحون يقدم هذه التجربة من خلال قصائد ممتعة ساخرة تؤسس لفرجة ساحرة كما هو الشأن في قصائد "العزري والمزوج" و"الحراز" و"الشايب والشابة" و"الزردة" و"الهاتف النقال والمحمول" و"النزاهة" و"الفصادة" و"الحجام"، مشيرا إلى أنه بالإضافة إلى القيمة الجمالية، فإن هذا اللون الإبداعي يحتل مكانة خاصة وأهمية قصوى على مستوى التوثيق للمجتمع المغربي في تفاصيل على غاية من الدقة والموضوعية. واستهل الباحث المتخصص في حضارة المغرب وثقافته محاضرته بالتعريف بالملحون، والتذكير بلحظة انبثاقه، وأعلامه ورجالاته، وإيقاعه وقياساته، وخصوصية لغته وأسلوبه، وفنية تصويره وتعبيره، مع تحديد مفهوم الظاهرة الاجتماعية وما تتميز به من تعقد وتشابك وتنوع، وضرورة دراستها انطلاقا من العلاقة والتأثير والتماسك والضبط والاختلال... وانتقل المحاضر إلى الحديث عن العلاقة الجدلية التي تجمع بين الملحون والظاهر الاجتماعية، موضحا أنهما وجهان لعملة واحدة، وينصهران في أقنوم مشترك باعتبار الملحون ثقافة شعبية لها من المؤهلات ما يجعلها أكثر انخراطا في الحياة الاجتماعية من جهة، ولها القدرة الكافية لاستقطاب الظاهرة الاجتماعية بكيفية أدبية إبداعية وشاعرية من جهة ثانية. ورأى الباحث أنه من أجل التدليل على هذه العلاقة المتواشجة واختبارها تم الرهان من الناحية اللغوية على دور الملحون في التوثيق للإطلاقات الشعبية على مختلف أسماء النباتات (القيقلان، الديدي، الشقيق، الجمرة...)، والتوثيق للأجناس البشرية، ومظاهر الاختلال الاجتماعي، وأصناف الحرف والصنائع... ومن جهة أخرى، أكد على حضور المرأة في الملحون في بعدها الاجتماعي باعتبار أن الشعراء بالغوا في تناول موضوع المرأة انطلاقا من تجربة الغزل كقصيدة "فاطمة" للحاج إدريس بن علي الحنش مثلا، مشيرا إلى المرأة الولية، والمرأة المثقفة، والمرأة الحرفية والمهنية، وأشكال التمايز النسائي، كما عبر عنها الملحون في قصائد الخصام (الخادم والحرة، والعجوز والشابة، والزمنية والعصرية، والعروبية والمدينية...). وقارب الباحث تجاوب الملحون مع ظاهرة الطعامة والطبيخ انطلاقا من قصائد "الزردة" التي أبدعت في وصف الأطعمة والموائد والأطباق المغربية، ورصد تنوعها واختلافها، وارتباطها بكل منطقة جغرافية على حدة (المروزية، طاجين الغنمي، البسطيلة، كعب الغزال، المسكوتة...)، موردا نماذج من قصائد الجيلالي امتيرد ومحمد بن علي المسفيوي وعبد اللطيف التوير والحاج محمد الحضري... وتحدث المحاضر عن الأزياء والتأثيث لما لهما من مكانة رفيعة في المجتمع المغربي على اعتبار أن اللباس هو في حقيقة أمره تعبير اجتماعي يمنح الإحساس بالوطنية والانتماء مع التأكيد أن الملحون اضطلع بدور طليعي في التوثيق للأزياء القومية (الجلابة، البلغة، الشاشية، الشد، القفطان...)، محللا نماذج تهم لباس الرجال ولباس النساء ولباس الفرسان ، وتوقف مليا عند تحليل النماذج الشعرية التي لها علاقة متواشجة مع مظاهر تحليل المنزل المغربي (الشليات، المقاعد، الزربية التركية، الحصير...). وبرهن الباحث على تواصل الملحون مع الاحتفال والتسلية في كثير من التجارب الشعرية في ما يخص الاحتفالات الوطنية والدينية والعائلية، ومعالجة موضوع لعب الأطفال والاستمتاع بالبحر، والنزاهة (نزهة سلطان الطلبة، ونزهة أشياخ الملحون ونزاهة شعبانة) ومواكبة الأفلام السينمائية، محللا نماذج استقاها من قصيدة الدار، وقصيدة التبحيرة لحسن البويحياوي الإدريسي، وقصيدة موكب الشموع للجيلالي الشبابي، وقصيدة عيد العرش للحاج إدريس مقداد، وقصيدة العريس لعمر بوري، وقصيدة الحجام لمحمود بن إدريس ... وعالج المحاضر موضوع الانفتاح على الحياة العصرية كما تجاوب معه شاعر الملحون من خلال استعمال كلمات فرنسية في اللغة، واستخدام الأدوات العصرية في النقل (الطوموبيل، البابور، الكار...)، والطاقة والطبخ والاتصال، وإقبال المغاربة على الرياضة الحديثة كطواف الدراجات وممارسة كرة القدم ... وصبت مداخلات الحضور، من شعراء وباحثين وعازفين ومنشدين، على ضرورة العناية بالملحون دراسة وجمعا وتحقيقا ونشرا وتعريفا، وتحقيق التراكم في مجال دراسة الملحون من الناحية الاجتماعية، وتشجيع الشعراء المعاصرين على النظم في الموضوعات الاجتماعية الجديدة والمستحدثة، والعمل الجاد على تقريب الملحون من الشباب والدارسين والفنانين بغية التجاوب معه، والاستمتاع بلذيذ خطابه وعذوبة إيقاعه ونفاسة إفادته وندرة معلوماته. وكان شاعر الملحون حسن اليحياوي الإدريسي، الذي قدم هذا اللقاء العلمي، أكد في مستهل اللقاء، أن هذه المحاضرة تتيح الفرصة للتعرف على مكون جوهري من مكونات الثقافة الشعبية، وشدد على الأهمية التي يكتسيها شعر الملحون من الناحية الدلالية والفنية والمضمونية، مبرزا المسار الثقافي للمحاضر، الحائز دكتوراه في الأدب العربي، ودعمه للعمل الجمعوي، ودراساته وإسهاماته في مجال البحث العلمي .