يندرج مشروع الجهوية الموسعة ضمن السياق العام لتطور الديمقراطية ببلادنا، وفي صلب الإصلاحات السياسية والدستورية الرامية إلى ترسيخ مقومات دولة المؤسسات والقانون، وتوطيد دعائم التنمية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وهي بذلك – الجهوية الموسعة– لا ينبغي أن تشكل خيارا مرحليا يرتبط فقط بالوضع في الصحراء، بل خيارا وطنيا استراتيجيا يرمي إلى تطوير مفهوم الجهوية وتحديث بنياتها وآليات اشتغالها. ومن ثم، فإن مشروع الجهوية الموسعة المرتقبة باعتباره أحد أهم الأوراش الإصلاحية ببلادنا، لا ينبغي أن يقف عند مجرد الإصلاحات الإدارية والإجراءات التقنية والتعديلات الجزئية لقانون الجهة الحالي، كما لا يتوقف فقط على تأهيل الجهة بوصفها وحدة ترابية تتمتع بمقومات التدبير الذاتي، ومنحها الإمكانيات المادية والبشرية، وفي صياغة نصوص قانونية متطورة، بل إن عملية بناء الجهوية الحديثة والمتطورة كرافعة للتقدم السياسي والاقتصادي، تستدعي بالضرورة مراجعة شاملة لتوزيع السلطة والثروة، وآليات إنتاج النخب المحلية، وتنظيم العلاقة بين الإدارة المركزية والإدارة الجهوية، وطريقة اشتغال النظام السياسي ببلادنا . إن تحقيق هذه الغاية التي باتت تشكل مطلبا مجتمعيا، يتوقف بالدرجة الأولى – في اعتقادنا – على وجود إرادة سياسية حقيقية وصادقة لجعل الجهوية خيارا للتنظيم العقلاني للمجتمع، يقوم من جهة أولى، على استراتيجية بناء وتنظيم المؤسسات والمجالات الاجتماعية والاقتصادية على أسس عقلانية ترتكز في إسناد المهام والوظائف على معايير الكفاءة والخبرة والتخصص، بدلا من اعتبارات الزبونية والمحسوبية والقرابة وغيرها من الاعتبارات غير العقلانية، ويجعل من الجهة من جهة ثانية، كيانا أساسيا لنشر الممارسة الديمقراطية وضمان المشاركة السياسية للسكان وتجديد النخب وتوسيع قاعدتها، وهو ما يتطلب تنظيم عمليات عميقة لتفويت السلط والصلاحيات والاختصاصات والموارد المالية والبشرية من الإدارة المركزية إلى الإدارة المحلية الجهوية، بشكل يفضي إلى إقامة علاقات شراكة وتعاون وتكامل بينهما، تقوم على أساس وضع الثقة في النخب المحلية ومن خلالها في السكان كشرط لتحقيق الغاية من هذه الدينامية الجهوية الجديدة، وذلك مقابل القطع مع كل أشكال الفساد السياسي والانتخابي والإداري والمالي، الذي تشكل الجهات والجماعات المحلية بصيغتها الحالية مرتعا خصبا له. وفي هذا السياق، فإن بناء الجهوية وفق المنظور الجديد، لن يستقيم إلا إذا تمكن المشرفون عليه من إيجاد الجواب لإشكالية تمويل الجهة، من خلال التفكير في الوسائل والآليات القانونية والتنظيمية لتوفير الموارد الأساسية للجهة باعتبارها ستصبح المجال الأنجح لطرح قضايا التنمية، والإطار المناسب لبلورة استراتيية بديلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والمجالية... إن السياسة المالية والسياسة الضريبية كإحدى الأدوات المركزية للسياسة المالية، تشكل المدخل الأساسي للتنمية الوطنية والجهوية على حد سواء، إذ لن يكون بمقدور الجهة وفق هذا التصور الجديد القيام بدورها كفاعل أساسي في تدبير وتوجيه السياسات العمومية المحلية، وفي تشجيع الاستثمارات الجهوية وتمويل مختلف مشاريع التنمية، وحماية التنوع الثقافي والبيئي ...، إلا إذا تمكنت من امتلاك تصور واضح ودقيق لسياسة مالية وجبائية منبثقة من ضرورات التنمية المحلية والجهوية، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا إذا تمكنت – الجهة – من المساهمة في إعداد تلك السياسات وتنفيذها، وذلك في انسجام تام مع الأبعاد الوطنية للتنمية الشاملة والمستديمة. ومن هنا، فإن محاولة تحديد طبيعة وخصائص السياسة المالية والجبائية الملائمة للتصور الجديد للجهوية المتقدمة، تحتاج إلى مقاربة جديدة تنطلق من ضرورة إعادة تشكيل بنية العلاقة بين الدولة والجهات، بشكل يسمح لهذه الأخيرة بتدبير محلي لمواردها المالية والجبائية، وبالتحكم في كل إمكاناتها المادية والطبيعية والاقتصادية، وفي مؤهلاتها السياحية والثقافية، ويمكنها من ابتكار وسائل عقلانية وعادلة وديمقراطية للزيادة في مواردها المالية وتحسين مردوديتها، دون المساس بالقدرة الشرائية لعموم المواطنين وبالقدرة التنافسية للمقاولات، وفي نفس الوقت يصون للدولة حقها في وضع استراتيجية وطنية للتنمية، وفي مراقبة التدبير العمومي، وكذلك في السهر على تطبيق مبدأ التضامن بين الجهات من خلال إحداث مؤسسات لهذا الغرض، ومنع الجهات من إقرار امتيازات اقتصادية واجتماعية خاصة بها . وفي هذا الصدد، تبرز العديد من الأسئلة المشروعة التي قد لا نجد لها أجوبة دقيقة في مشروع اللجنة الاستشارية للجهوية الموسعة، والتي تتمحور حول مدى إمكانية منح الجهة ممارسة السلطة التنظيمية والإدارية ، وحول مدى إمكانية تفويت الدولة لجزء هام من صلاحياتها في مجال إعداد السياسات المالية والجبائية، وما هي حدود مساهمة الجهات في هذه السياسات والإشراف على تنفيذها؟ وكذلك حول مدى صلاحية النظام الضريبي الحالي لمشروع الجهوية المتقدمة؟ وهل سيحتاج الأمر إلى إعادة صياغة المنظومة الضريبية برمتها؟ أم يمكن الاكتفاء بتعديلها وملاءمتها مع الجهوية المتقدمة ؟ وإلى أي حد ستصبح الجهة أكثر تحكما في مواردها المالية والجبائية ؟ وفي مجالات إنفاقها وصرفها؟ وما هي الحدود الفاصلة بين مالية الجهات وبين مالية الدولة؟ وهل تتوفر الجهات على المهارات والخبرات والنخب القادرة على المساهمة في إعداد السياسات المالية والجبائية؟ وعلى المؤسسات والبنيات المكلفة بالمراقبة والمحاسبة وتقويم الاختلالات المرتبطة بتدبير موارد الجهة ؟ هذه نماذج لبعض الإشكاليات والأسئلة التي نطرحها للنقاش العمومي، والتي لا يمكن للجهات المعنية بمشروع الجهوية المتقدمة أن تتجاهلها في سياق إعداد التدابير الضرورية لتنزيل هذا المشروع المتميز، والذي يعقد عليه المغاربة آمالا كبيرة من أجل إحداث البنيات الضرورية للتنمية الجهوية .