عندما يشرع زوار لوس أنجليس في استكشاف البقاع ذات الصلة بتاريخ صناعة السينما والتليفزيون، يتجه غالبيتهم صوب أماكن مثل "صن سيت" المكتظة دائما بحركة المرور، أو "ممشى الشهرة" في هوليوود. وقد يقصد هؤلاء ساحة مترامية الأطراف تشمل استوديوهات للتصوير تقدم رحلات تجوب عالم ما خلف كواليس تصوير الأعمال السينمائية والتلفزيونية. لكن إذا ما اقتصر الأمر على ذلك، فهذا يعني أنك قد تهدر فرصة التعرف على جانب جذاب – وبالقطع أكثر وعورة في الوقت نفسه - من جوانب التاريخ السينمائي لمنطقة جنوبي كاليفورنيا. فعلى بعد نحو 25 ميلا إلى الغرب من وسط لوس أنجليس، وبداخل منطقة جبال سانتا مونيكا؛ توجد بقاع طالما استعان بها صُنّاع أفلام وبرامج ومسلسلات تلفزيونية لا حصر لها، مثل المسلسل التلفزيوني "ماش"، وكذلك النسخة الأصلية لفيلم "كوكب القرود"، نظرا لأنها توفر تضاريس مماثلة للمناطق التي تدور فيها أحداث هذه الأعمال. ومن بين هذه البقاع، أخاديد صخرية متناثرة، وبحيرة هادئة قريبة منها، إضافة إلى مراعٍ واسعة حافلة بالمنحدرات تقع داخل متنزه ماليبو كرييك المملوك للسلطات الاتحادية في ولاية كاليفورنيا. ويمتد هذا المتنزه على مساحة تزيد على سبعة آلاف فدان من الأراضي التي يستخدمها هواة السير لمسافات طويلة، وكذلك هواة ركوب الدراجات والتخييم وتسلق الصخور، وهي أراضٍ تندرج كلها في إطار المنطقة الترفيهية الوطنية لجبال سانتا مونيكا. أول فيلم وفي نوفمبر من عام 2014، سُمح للعامة باستخدام 700 فدان أخرى، كانت مملوكة في السابق للمخرج جيمس كاميرون، وهو ما يشكل في الواقع سببا مقنعا آخر لزيارة هذه المنطقة. وعلى أي حال، فإن ما يربط تلك المنطقة بهوليوود يعود إلى أمد بعيد. فقد صُور أول فيلم هناك عام 1919، وكان عملا صامتا قامت ببطولته ماري بيكفورد، وحمل اسم "دادي لونغ ليغز".
وعلى مدار الأعوام التالية، شهدت منطقة جبال سانتا مونيكا تصوير أكثر من 100 فيلم ومسلسل وبرنامج تلفزيوني، استفادت جميعا من تضاريس هذه المنطقة. وكان من بين هذه الأعمال؛ "تشارليز إنجلز" (ملائكة تشارلي) و"دكتور كوين، ميديسن وومان". وتشكل المراعي المتاخمة للساحة الرئيسية للسيارات الموجودة في المتنزه مكانا ملائما للغاية لبدء رحلة الاستكشاف السينمائي لتلك البقعة من العالم، ففي هذه المراعي جرى تصوير مشاهد فيلم "هاو غرين واز ماي فاللي"، والذي أُنتِج عام 1941. وقد حصد هذا العمل، الذي قامت ببطولته الممثلة الإيرلندية الفاتنة مورين أوهارا، خمسا من جوائز الأوسكار، التي تمنحها الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم السينمائية، وهو العدد الأكبر من جوائز الأوسكار، الذي يفوز به عمل جرى تصويره في متنزه "ماليبو كريك". كما شهد المتنزه نفسه تصوير غالبية مشاهد فيلم "كوكب القرود" الكلاسيكي الذي أُنتج عام 1968. وقد أقام فريق العمل التابع للشركة المنتجة قرية للقردة على ضفاف بحيرة سنشري التي تمتد على مساحة سبعة أفدنة قرب الحدود الشمالية للمتنزه. إلى جانب ذلك، أعد الفريق حقلا مزروعا لكي يعدو فيه بطل الفيلم تشارلتون هيستُن، هاربا من مطاردة عدد من القردة الشريرة، التي كانت تمتطي ظهور الجياد. في الوقت الحاضر، بوسع زائر هذه المنطقة العدو عبر الحقل ذاته، وتسلق جدار صخري يحمل نفس اسم الفيلم، وكذلك الوقوف في البقعة التي حبس فيها بطل الفيلم في أحد الأقفاص. ويمكن لعشاق السينما المخلصين زيارة المنطقة التي كانت تمثل قرية القردة على ضفاف البحيرة، وذلك عبر رحلة تبلغ مسافتها - ذهابا وإيابا - نحو أربعة أميال ونصف الميل؛ يقطعها هؤلاء إما على الأقدام، أو بدراجات تُمكِنُهم من صعود الجبال الموجودة في المنطقة. ولعل قصة ظهور بحيرة (سنشري) على سطح الأرض تليق ببقعة ستصبح مكانا مرموقا لأنشطة التصوير السينمائي، إذ أن البحيرة لم تنشأ لعوامل طبيعية وإنما أُقيمت عام 1900 حتى ينتفع بها بعض من صفوة سكان لوس أنجليس. ففي ذلك العام، اشترى عدد من الأعضاءً في نادي "كراجس كنتري" أرضا تمتد على نحو 2,000 فدان على طول متنزه "ماليبو كريك"، حيث شيدوا سدا يبلغ ارتفاعه 50 قدما، حتى يتسنى إقامة تلك البحيرة، والتي كان الغرض الأساسي من إقامتها صيد البط والأسماك. لكن في النهاية، أغلق النادي في عام 1936، نظرا للارتفاع الكبير في رسوم عضويته، وقلة اهتمام السكان بالاشتراك فيه. وفي عام 1946، باع النادي المفلس هذه القطعة من الأرض إلى شركة "فوكس للقرن العشرين" للإنتاج السينمائي. وعلى مدار 28 عاما، أي حتى اشترت ولاية كاليفورنيا المنطقة وأعلنتها متنزها عاما، اتخذت الشركة هذه البقعة موقعا لتصوير الكثير والكثير من الأفلام السينمائية والبرامج التليفزيونية. ومن بين هذه الأعمال: فيلم "بوتش كاسيدي آند ذا صن دانس كيد"، والذي أُنتج عام 1969، وكذلك فيلم "لاف مي تيندر"، الذي قام ببطولته المغني الشهير ألفيس بريسلي عام 1956. كما صُور في تلك المنطقة فيلم "هرشة السنة السابعة"، والذي قامت ببطولته الممثلة الشهيرة مارلين مونرو عام 1955. بحيرة "سنشري" فضلا عن برنامج المغامرات التليفزيوني "دانييل بوٍن"، الذي كان يُعرض في الستينيات من القرن الماضي. وحتى بعدما تحولت المنطقة إلى متنزه، واصلت شركة "فوكس" وشركات إنتاج سينمائي أخرى استخدامها موقعا للتصوير. وخلال هذه السنوات، شهدت بحيرة "سنشري" تصوير المشهد الشهير الذي جرى خلاله القفز من فوق جرف صخري في إطار أحداث فيلم "بوتش كاسيدي آند ذا صن دانس كيد". ويمكننا هنا استعراض إفادة بريان روني، وهو متطوع يعمل في المتنزه، وكذلك مؤرخ غير رسمي له، إذ رصد الرجل التاريخ السينمائي لتلك المنطقة عبر كتاب يحمل عنوان "ثلاثة أميال سحرية". ويقول روني إن البحيرة ظهرت ضمن أحداث فيلم "بوتش كاسيدي" في "دور" نهر ذي أمواج هوجاء. وقام فريق العمل في الفيلم بتغطية السد المجاور للبحيرة وأوراق النباتات والأشجار المحيطة به، لكي يعكس المشهد صورة الطبيعة القاحلة لمناطق الغرب الأمريكي. واستخدم فريق العمل محركيّن عملاقيّن لتوليد الأمواج الهائجة والمياه المضطربة، التي قفز فيها الممثلان البديلان لبطلي الفيلم، واللذان حلا محل البطلين في المشاهد الخطرة. رغم ذلك، فربما يكون المتنزه قد حظي بشهرة أكبر بوصفه الموقع الذي شهد تصوير مسلسل "ماش" التليفزيوني الذي حقق نجاحا كبيرا في سبعينيات القرن العشرين. ويتذكر عشاق هذا العمل العمود الخشبي الذي شكل معلما له، والذي كان مزروعا في معسكر متخيل أقامت فيه شخصيات المسلسل خلال الأحداث، وهو معسكر من المفترض أنه كان يقع على الخطوط الأمامية في الحرب الكورية، التي دارت منتصف القرن الماضي. ولذلك، فقد كان العمود يشير إلى أن مدينة بربانك، وهي إحدى مدن ولاية كاليفورنيا، تقع على بعد 5,610 من الأميال، ولكن في واقع الأمر، كان من يجسدون الشخصيات وكذلك فريق الإعداد، يلوذون على الأغلب بجبال سانتا مونيكا، تلك البقعة التي شهدت عمليات التصوير على مدى 11 عاما. في الوقت الحاضر، يمكن للعشاق المتيمين بذلك المسلسل التليفزيوني تسلق المنطقة الجبلية أو صعودها على متن دراجات، لرؤية نسخة طبق الأصل من هذا العمود الخشبي الشهير. وبوسع هؤلاء كذلك معاينة المركبات الأصلية التي استُخدمت في التصوير، تلك التي يعلوها الصدأ حاليا. ويتوافر في هذا المكان أيضا صور ولوحات إرشادية، توضح كيف جُهزت مواقع التصوير بما فيها من ديكورات، ودمجت في المعالم الطبيعية للمنطقة. بطبيعة الحال، صورت العديد من مشاهد المسلسل في أحد استوديوهات شركة فوكس للقرن العشرين غرب مدينة لوس أنجليس. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: كيف يمكن التمييز بين المشاهد التي صُورت بداخل الاستوديو، وتلك التي صُورت في المتنزه؟ الإجابة تأتي على لسان روني الذي يقول: "يتعين أن يولي المرء انتباهه إلى أعين شخصيات العمل. فإذا كان الممثلون يضيقون حدقات أعينهم، فإن ذلك يعني أنهم بالفعل يصورون بالخارج؛ بداخل المتنزه. لكن عندما لا يقومون بذلك خلال مشاهد يُفترض أنها نهارية، فمعنى هذا أن فريق المسلسل كان بداخل الاستوديو". ومثّل فيلم "ويند توكرز" (المتحدثون إلى الريح)، بطولة نيكولاس كيدج وكريستيان سلاتر في عام 2002؛ آخر عمل سينمائي ضخم صور في المتنزه. وقد تراجع استخدام المنطقة كمكان للتصوير السينمائي والتليفزيوني على نحو جزئي، وذلك بعدما بدأت ولايات أمريكية أخرى تقديم إعفاءات ضريبية لجذب صناع الأعمال السينمائية والتليفزيونية، لإنتاج أعمالهم بعيدا عن جنوب كاليفورنيا. وأكثر من ذلك، باتت معالم تلك المنطقة قابلة للتمييز من قبل المشاهدين أكثر من اللازم. وفي هذا الشأن، يقول بريان روني: "العديد من الأفلام استخدمت المتنزه مكانا لتصوير مشاهدها، ما جعل المشاهدين يبدأون في ملاحظة وتمييز معالم هذه المنطقة". ويوضح روني أن ذلك جعل مشاهد الأعمال السينمائية والتليفزيونية المختلفة تبدو متشابهة، سواء كان يُفترض أنها تدور في أمريكاالجنوبية، أو في كوكب الأرض بعد تعرضه لكارثة ما أدت إلى تدميره تماما، أو في ويلز، أو حتى في الغرب الأمريكي في الماضي. وهكذا، فبحسب روني، لم يعد بوسع صناع الأعمال السينمائية والتليفزيونية "التلاعب بطبيعة التضاريس الموجودة في هذه المنطقة، أو خداع المشاهدين أكثر من ذلك". تطبيقات عملية في واقع الأمر، كان التحول الذي وقع الصيف الماضي في ملكية هذه المنطقة ملائما تماما لماضيها السينمائي. فقد باع المخرج جيمس كاميرون، الفائز بجائزة الأوسكار، قطعة أرض كان يمتلكها على مساحة 703 أفدنة في منطقة بوريكو كانيون إلى الهيئة المسؤولة عن أنشطة الصيانة والترفيه بجبال سانتا مونيكا. وتوجد طرق تربط ما بين المحمية الطبيعية، التي كانت مملوكة لكاميرون، مع متنزه ماليبو كريك المتاخم لها. في الوقت الحاضر، يوفر مركز خدمة الزوار بمتنزه ماليبو كريك خرائط للمتنزه وصورا توضيحية لماضي هذه المنطقة الحافل بتصوير الأعمال السينمائية التي أنتجتها هوليوود، وذلك للراغبين في شراء مثل هذه الخرائط والصور. وداخل المتنزه، هناك أكثر من 60 خيمة وأربع مقطورات معدة للمعيشة ومزودة بوسائل الراحة لهواة المخيمات. ويوجد في هذه المركبات صنابير للاستحمام، ومراحيض حديثة. أما بالنسبة لهواة تسلق المناطق الصخرية، فيتعين عليهم الحصول على نسخة من دليل يحمل عنوان "رياضة التسلق جنوبي كاليفورنيا"، وذلك لإرشادهم إلى المسارات الخاصة بتسلق الصخور ذات الطبيعة البركانية في المنطقة. BBC