مثلما أعرف ناجي العلي أعرفهم جيدا. مثلما أحزنني قتله بكاتم الصوت يوما من طرف إسرائيل وبعض متبلدي منظمة التحرير لأن رسوماته قتلتهم، أحزني موتهم يوم الأربعاء. مثلما بكيته وأنا يافع يومها أبكيهم وأنا في سن الكهولة اليوم. أعرفهم منذ قديم الزمن. قبل أن أقرأ المقالات، كنت أسارع إلى الرسوم، وبنفس دهشة الطفل الصغير وهو يكتشف ماخطته الريشة كنت أبحث عن شارب، وآخر إبداعاته أسبوعيا. طقس غريب ربما، لكنه يشبه الفرض بالنسبة لي. أبحث بافتتان عن آخر فكرة سطت على رأس هذا المجنون، وأبتسم بحزن غالبا أو بفرح في بعض الأحايين لأنه عثر على شيد ما جديد يحطه ويرسمه ويكتب به مايساوي آلاف المقالات. أعرف كابو جيدا. لم يسبق لي أن التقيت به لكنني أحفظ رسوماته عن ظهر قلب، منذ كان في برنامج "دوروتي" على التلفزيون، ثم منذ تجربة "هاراكيري" المجنونة التي سبقت "شارلي إيبدو"، ثم أعرف الجريدة الساخرة التي يشتغلون بها. لا أقول كانوا يشتغلون بها، لكن أقول يشتغلون بها إلى الآن. وضعوا يوما حياتهم رهن حرية ضحك تبنوها، وقالوا "نعم سنموت لكننا سنموت ضاحكين". يوم الأربعاء كانوا في اجتماع التحرير، جالسين يطاردون فكرة جديدة قد تروق لمن يطالعون رسوماتهم، فأتتهم الطعنة الغادرة. طلقات رصاص من طرف إرهابيين جبناء قتلوا صحافيين ورسامين لا يملكون وسيلة واحدة للدفاع عن أنفسهم. ماتوا. رحلوا. قتلوا دفعة واحدة وفي نفس اللحظة بعد أن صاح القتلة بأسمائهم لأنهم كانوا يعرفونهم ويحفظون الأسماء عن ظهر قلب. مات كابو، ومات شارب، ومات تينيوس ومات لوفينسكي، ومات العم بيرنار، ومات معهم سبعة أشخاص آخرين. ماتت الكلمة الحرة، ومات الرسم القاسي الساخر، وماتت حرية التعبير، ومات الإسلام. الدين الذي صاح باسمه الجهلة وهم يخرجون من مقر شارلي إيبدو هو الذي قتل. النبي الذي اعتقد الأغبياء أنهم انتقموا له هو الذي ذبح. الشريعة التي تصور هؤلاء الحمقى أنهم ينصرونها بقتل صحافيين أبرياء هي التي ستدفن إلى الأبد. معذرة، أنا مسلم من أسرة مسلمة، أحفظ من القرآن شيئا غير قليل. في صدري منه أحزاب وآيات يطمئن بذكرها قلبي، لكنني لا أعرف إسلام هؤلاء الجهلة، ولا يشرفني أن أكون معهم من دين واحد. هؤلاء الكافرون لهم دينهم ولي دين. لا يمكن بعد اليوم أن أقول إن الإسلام يجمعني بهم. الإسلام الذي أعرفه يحرم عليك قتل الأعزل الإسلام الذي أعرفه يحرم عليك قتل البريء الإسلام الذي أعرفه لايمكنه أن يعطيك حق نزع الروح التي أعطاها الله عز وجل. لذلك بكيت الأربعاء مثلما لم أبك من قبل. بكيت ديني قبل أن أبكي زملاء المهنة.. بكيت انتمائي لهاته الأمة وأحسستني صغيرا، ذليلا لا معنى لي إذا ما تم الزج بي يوما مع هؤلاء في أي مكان. بكيت لأنني لا أمتلك إلا البكاء سلاحا في وجه ماوقع، ولأن بعض بني الجلدة وجدوا مايكفي من الوقاحة في دواخلهم لكي يبرروا القتل، ولكي يشرعنوه، ولكي يقولوا لنا بكل فداحة "نعم، لم يكن ينبغي أن يقتلوا لكنهم أساؤوا للإسلام". هذا الكلام أفظع من القتل المادي. هذا الكلام هو القتل الفعلي الذي سيبيد ديانة إسمها الإسلام، وسيزيلها من الكون كله إذا ما استمر. لذلك المعركة تبدأ الآن بالكاد، لكي ندافع نحن المسلمون عن ديننا في وجه هؤلاء الجهلة الذين يقتلونه يوميا. أما الرفاق، الذين أهدونا فنهم على امتداد سنوات عمرهم، والذين ماتوا رجالا واقفين في ساحة معركتهم دون سلاح يمتلكونه إلا أقلامه والريشات، فنقول لهم وداعا. سيلتحقون بناجي العلي. سيقولون له إن الغباء يخشى الرسم، يخشى الريشة، يخشى صراحتها وعريها الذي يقول كل شيء. هو أيضا قتل مثلهم، لكن حظه كان أفضل منهم أن أسكته كاتم للصوت عكسهم هم من ماتوا بصراخ الرشاشات البليدة وهي تصيح "لقد انتقمنا لمحمد"