للطيب الصديقي في النفس المغربية حكايات وروايات، يستحيل أن تبدأها ويستحيل أن تنهيها. في البدء كان المسرح وكان هو في البلد. وفي منتصف الأشياء بقي هنا وشرع المسرح في الهروب منا جميعا. ثم في خاتمة الأمور اليوم، بقي الطيب، وانتهى المسرح إلى ماهو عليه وإليه وفيه الآن. هل يتذكر واحد منا أول مرة شاهد الطيب على الركح؟ أكيد إن سبق لك وشاهدته لن تنسى أبدا العبور الباذخ، الكبير، المؤثر لوحش التمثيل هذا أمامك. لذا يشق على النفس كثيرا اليوم أن تسأل الجيل الجديد، جيل اليوم عن الطيب، فيتأمل فيك شزرا ويقول لك أسماءه من نكرات الوقت ويمضي. تتصور أن الإعلام، وأنت جزء أساسي منه، ارتكبتم الجرائم تلو الجرائم في حق الذاكرة الجماعية للبلد، إلى أن أصبح المغربي يتصور أن بلاده لم تلد إلا الكوارث التي يراها في الأنترنيت اليوم، وأن العظماء لم يعبروا أبدا هذا المجال الحضاري والجغرافي والإنساني المسمى بلادنا. وإذا كنت أغبط المصريين، بل قل أحسدهم على شيء فهو بالتحديد هذا الأمر: تكريم كبارهم، وجعلهم كبارا لكل من يتحدث لغة قريبة إلى المصرية، حد التفوق في جعل الشعوب الأخرى تنسى أن لديها من تفتخر به، ومن تستطيع إشهاره علما على كل الأعلام، وإسما كبيرا يستحق كل الاهتمام. سألت صديقا يوم السبت عن الطيب الصديقي، فأجابني "موجود". في العين منه رنت التماعة ألم لم أفهمها. قلت له "أبن، أوضح، أفصح". تنهد بحزن وحسرة، وقال لي "حشومة ألا يسأل عنه أحد، من العيب ومن العار ومن كل مترادفات مايعني نفس الأمر أن يبقى الطيب وحيدا في منزله الذي انتقل إليه بعد أن باع فيلا عين الذياب، يواجه الوحدة التي لا تليق بمن كان في مقامه وأسطورته وكل ماقدمه للمغرب". في التفاصيل، وقد أحزنتني وغيرت شكل يوم السبت لدي تماما من النقيض إلى النقيض أننا أناس جاحدون. نكران الجميل خاصية متجذرة فينا. نسيان من قدموا لنا شيئا فرض عين نتبناه ونعيش به ولا نجد فيه أي إشكال الاستيقاظ صباحا ومحو سبورة الليلة الماضية، والتمثيل لكأننا لم نعشها أيضا مسألة لا مشكلة فيها لدينا. سوى أنه من العيب أن نطبع مع الأمر وأن نعتبره عاديا. واليوم لا أكتب. اليوم أصرخ لما سمعته عن الطيب الهرم، الأسطورة، الفنان الكبير. هو لا يستجدي ولا يمكنه أن يستجدي، ومن كان في قيمة الطيب ومكانته لا يحق له أصلا أن يستجدي. لكننا جميعا - مغربيات ومغاربة- نطلب الالتفاتة من أجل الطيب. نطلب مرافقته بالحدب والحنو من طرف كل من أحبوا فنه ومسرحه يوما، من طرف كل من عبروا امتشاقه للركح ذات زمن، من طرف كل من رآه راكبا حصان المسرح، ملوحا بسيف التشخيص حاملا المغرب في لحظة من اللحظات الخاصة جدا إلى مقدمة مشهد فني عربي لم يكن سهلا نهائيا. في زحمة حياتنا المتسارعة، ننسى الأهم. ننسى الاطمئنان على من نحبهم. نقول إنهم موجودون هناك، وأنهم بالتأكيد يجدون طريقة ما للعيش، للحياة، لإكمال المسار، ولبقية الأشياء. هذه خدعتنا الأولى والأساسية لكي نريح ضميرنا من السؤال القاسي: ماذا فعلنا لمن نحبهم حتى نقول لهم باستمرار إننا لم ننسهم على الأقل إذا كان بكل هذا العجز عن قول كلمة الحب للناس وهم على قيد الحياة؟ أتخيل - وقد أكون واهما في ذلك - أن هاته الصرخة لن تكون في واد. ستستعيد مؤسساتنا كلها وهي كثيرة دورها لكي تفكر في طريقة ما لتكريم الطيب التكريم الذي يليق به، التكريم الذي يدوم له كل الحياة، التكريم الذي سيعرف به من سيأتون فيما بعد أن هذا البلد لم يكن أبدا جاحدا أو ناكرا للجميل، وأنه قد ينسى - نعم وهذه خاصية إنسانية - لكنه حين استيعاب حجم النسيان يتدارك كل الخطأ ويصلحه فور العلم به. سألني صحافي مصري يوما "هل الطيب الصديقي يعيش في المغرب؟". تأملت في وجهه وهو يسأل باحثا عن الفخ، تأكدت أنه يقصد الكلام خصوصا حين قال لي "لم أعد أراه لا في تلفزيوناتكم، ولا في جرائدكم حين آتي إلى المغرب، ولا أسمع له حسا ولا خبرا في إذاعاتكم، من المستحيل أن يكون رمز فني كبير مثل الطيب الصديقي معكم في المغرب وأن تغيبوه كل هذا الغياب". يومها شعرت بأنني أساهم في هذا التغييب. دخلت إلى مجلة "أحداث. تي.في" فور العودة من مراكش وطلبت من زميل صحافي ومن مصور أن يزوروا الهرم في مسرحه موغادور. جاءني صوته محتجا على تأخر الصحافي عن الوصول إليه، وقدمت أعذار التنقل والوصول من المجلة حتى المسرح وبقية الأمور. استعدت ذلك الصوت الدافئ الذي سمعته وأنا صغير في الحراز يقول "محمود، محموووود" في اللازمة الشهيرة. شعرت ببعض من أمان، وارتاح الضمير قليلا. يوم السبت الماضي، مع الحكي الذي نقله لي أحمد وعبد اللطيف فور الخروج من منزل الطيب، استعادني حزني، وصرخت بهذا الكلام. إذا لم يكن مهما - رجاء أيها السادة من المشرفين على ثقافتنا وعلى إعلامنا وعلى بلادنا - لا تهتموا به. اعتبروه هذيانا، وابحثوا لكم عن شيء أهم تتحدثون عنه في تلفزيوناتكم. ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق ليوسف شعبان في ذاكرة المغاربة مكانة طيبة لا يمكن أن تمحوها عبارة ندت عنه وهو في أرذل العمر. من شاهدوا شريط الفيديو الذي حاول فيه شعبان فراويلة المساس بالمغاربة وهو يهاجم حسن البنا شعروا بالشفقة على الممثل الكبير أكثر من أي شيء آخر. المغاربة أكبر من أي عابر سبيل لكي يسيء إليهم في أول جملة يقولها. دعوا الرجل يموت في هدوء، فماقاله لا يستحق إلا الموت فعلا المختار لغزيوي