الزمن : بداية شهر يناير 2010. المكان : البرلمان المغربي. الحدث : نواب الأمة يسائلون وزير الاتصال خالد الناصري عن الأسباب التي حرمت المغاربة من مشاهدة منافسات كأس إفريقيا التي كانت ستنطلق خلال أيام في أنغولا. الوزير الناطق الرسمي بإسم الحكومة المغربية يجيب كالتالي « “نحن في حاجة إلى تقنين دولي في هذا المجال حتى تظل الفرجة الرياضية ملكا للشعوب ولا تتحكم فيها جهات ذات مصالح وذات شهية مالية لاحدود لها” وأضاف ” أن هذا الأمر يطرح إشكالا إعلاميا وسياسيا وأخلاقيا كبيرا جدا على كل الجهات المعنية بتدبير الموضوع، والمتمثلة في الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم واتحاد إذاعات الدول العربية، ومجموعة من الجهات الأخرى من أجل الجواب على بعض الأسئلة الأساسية وفي مقدمتها هل الفرجة الكروية التي هي من إنتاج الشعوب والأمم ، هل من الطبيعي والمعقول والمقبول أخلاقيا وسياسيا أن تمتلكها في إطار نوع من الاحتكار جهات معينة وتحرم شعوبا بكاملها من مشاهدة تلك المباريات ؟”. جواب السيد الوزير كان آخر ما ينتظره المغاربة من حكومتهم، التي تظل على أي حال ملاذهم الأخير أمام الاحتكار الذي يمارسه مالكو الحقوق في المنطقة العربية. جواب العاجز، وبقدر ما أظهر للمغاربة على أن حقهم في الفرجة هو آخر اهتمامات الحكومة المغربية، ممثلة في قطاع التلفزيون العمومي، بقدر ما فتح المجال أمام البحث عن طرق أخرى لمشاهدة كبريات التظاهرات القارية العالمية. فقبل كأس إفريقيا 2010 في أنغولا، حرم المشاهد المغربي من مشاهدة أكبر المحافل الرياضية الدولية : عصبة الأبطال الأوروبية، كأس أوروبا للأمم، كأس إفريقيا للأمم، كأس العالم ثم الألعاب الأولمبية التي أقيمت في بكين. صحيح أن في جواب السيد الوزير أعذارا قد تعفي من المسؤولية، لكن بالمقابل أين تذهب أموال الضرائب التي يؤديها المغاربة لحكومتهم إن لم تساعد في إيجاد حل للمشكلة ؟ ثم ما محل ضريبة التلفزيون التي يؤديها معظم المغاربة في أدائهم الشهري لفاتورة الكهرباء من الإعراب في مسلسل حرمان المغاربة المستمر من الفرجة التلفزية ؟ لكن قبل الإجابة، لماذا ارتفعت أسعار الحصول على حقوق النقل التلفزي بهذا الشكل المريع ؟ الرياضة في السوق منذ عشرين سنة عرفت أسعر حقوق النقل التلفزي ارتفاعا كونيا، ساهم فيه بشكل بارز ظهور القنوات الرياضية المتخصصة، التي تبحث عن المنتوج الجديد باستمرار لإقناع أكبر عدد من الزبناء بالانخراط في شبكاتها. واكب هذا السباق المحموم نحو امتلاك حقوق النقل التلفزي للمسابقات الرياضية عالميا وجهويا وإقليميا، رغبة أخرى من المشاهد لمتابعة كافة أشكال الفرجة الرياضية. هذا السباق نحو الاحتكار والرغبة المتنامية في الفرجة، نما أيضا على وقع تحديث وسائل النقل التلفزي خصوصا مع اكتشاف البث الرقمي الذي مكن من مضاعفة أعداد القنوات التي تختص في الرياضة. وضع أدى إلى تضخم غير مسبوق ومبالغة محمومة في الحصص المادية التي صار يفرضها منظمو التظاهرات الرياضية مقابل منح حقوق النقل التلفزي للتلفزيونات المحلية.لا ننسى هنا أيضا أن مالكي حقوق النقل التلفزي والشركات المتخصصة التي أنشأت لهذا الغرض، استغلت الصراع الكبير الذي دخلت فيه الشبكات التلفزيونية المتخصصة في الرياضة لفرض أثمنه كبيرة جدا مقابل الحصول على هذه الحقوق. سوق النقل التلفزي يعرف اليوم ارتفاعا غير مسبوق في تاريخ الاقتصاد الرياضي ككل وهذا لا يقتصر على التلفزيون فقط، بل على جميع وسائل البث كالراديو والنقل الفضائي والكابل والانترنيت وغيرها. تقدم مستوى المنافسة بين أصحاب حقوق النقل و مالكيها وصل إلى درجة حرمان الجمهور الكبير من الولوج المباشر لهذه الخدمات التلفزية أو بدون اشتراكات مادية. في موضوع كأس العالم لكرة القدم مثلا باعتبارها أهم انتظارات المشاهدين، إذا استعرضنا تطور أسعار حقوق كأس العالم لكرة القدم تليفزيونياً على مستوى العالم في آخر ثلاثة عقود تقريباً، سنقترب أكثر من الصورة : كأس العالم لكرة القدم في الأرجنتين 78 كان السعر 34 مليون دولار لكل العالم. في إسبانيا 82 أصبح 40 مليون دولار. في المكسيك 86 أصبح 50 مليون دولار. في إيطاليا 90 أصبح 75 مليون دولار. في أميركا 94 أصبح 90 مليون دولار. فرنسا 98 أصبح 100 مليون دولار لكل العالم. اليابان كوريا الجنوبية 2002 أصبح السعر المطلوب من كل العالم 900 مليون دولار. ألمانيا 2006 1070 مليون دولار أو مليار و70 مليون دولار. جنوب إفريقيا 1700 مليون دولار أي مليار و700 مليار دولار وهو ما يعني ارتفاع الأسعار منذ دورة فرنسا 1998 بحوالي 15 مرة ضعف الأسعار !! فما السبب وراء هذه القفزة المخيفة للأسعار ؟ قانون الغاب رضا العودي، رئيس اتحاد إذاعات الدول العربية أحد أقدم المؤسسات العربية التي تبنت حقوق النقل التلفزي في المنطقة العربية لمدة طويلة، يعتبر في مستوى أول، أن شبح أزمة كرة القدم بدأ مع أعلان شركة (أيسل) المالكة لحقوق الأحداث الرياضية الكبرى إفلاسها سنة 1997، ما انعكس على الفيفا وملفاته المالية، ثم ما لبثت أن أعلنت شركة (Kirch) الألمانية المنبثقة عنها إفلاسها أيضا، وهي المالكة لحقوق كأس العالم، وتوالي انفراط العقد بإعلان شركة ITV DIGITAL الإنجليزية إفلاسها في نفس الفترة، ما فتح المجال لدخول شركات أخرى على الخط، والسعي نحو احتكار الحقوق بطريقة محمومة. عربياً بدأت القضية مع كأس القارات 1999، ثم كأس أندية العالم وكأس الأمم الأوروبية لسنة 2000، واكتملت مؤخراً مع كأس الأمم الإفريقية والتي احتكرتها جميعاً محطة تليفزيونية مشفرة، مما أدى لانحسار مساحة المشاهدة بدرجة كبيرة. عالميا، يوزع الخبير الرياضي العربي العلاقة بين التليفزيون والرياضة تاريخياً في ثلاث مراحل المرحلة الأولى : هي مرحلة الاحتكار، امتدت من عام 1946 إلى حدود نصف السبعينيات 1975، خلال هذه الفترة الأولى والمرحلة الأولى كان البث التليفزيوني باستثناء البث للولايات المتحدة الأميركية محصوراً في المساحة الوطنية تتولاها عادةً ما تكون هيئة عمومية محتكرة للفضاء السمعي البصري. المرحلة الثانية: في هذه العلاقة بين الإذاعة والتليفزيون والرياضة جاءت من 1975 من نصف السبعينيات إلى حدود 1990. هنا بدأت التكتلات الرياضية تظهر في الولاياتالمتحدة مع مطلع السبعينات ويمكن أن نعتبر كذلك أن اللجنة الأولمبية الدولية، وكذلك الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا نوعاً من هذا التكتل، إذ يحتكر هذان الجهازان حقوق التظاهرات التي ينظمانها وكل الحقوق الجانبية والمحورية التي تدور حولها، وجعل هذا الاحتكار من هاتين الهيئتين قوة عملاقة تفرض سيطرتها على الدول المنظمة وعلى الهيئات الناقلة لهذه الأحداث الرياضية. وتبعاً لذلك نمى مردود حقوق البث التليفزيوني بشكل واضح وجلي فيما يخص التظاهرات الرياضية الكبرى، مثل الألعاب الأولمبية أو الكؤوس العالمية لكرة القدم، وظهر كذلك في نفس هذه المرحلة الثانية تحالف عبر الاتحادات المهنية. وطبعاً جاءت المرحلة الثالثة من 1990 إلى اليوم يضيف المسؤول الإعلامي العربي، بعد انفجار البث التليفزيوني عبر الأقمار الصناعية وتعدد القنوات الخاصة لاسيما المتخصصة منها، فأصبحت المحطات تبحث عن مشاهدين بصفتهم إما مشتركين وإما مشاهدين للإعلانات، أو أصبحت القنوات تتسابق في اكتساب الحقوق الرياضية مما سبب تزايد كلفة هذه الحقوق بشكل مذهل. واستفحلت ظاهرة المنافسة بين القنوات الخاصة والقنوات التابعة للقطاع العمومي، فدخلت علاقة التليفزيون بالرياضة طور السوق وأصبحت فيه الرياضة بضاعة صناعية وتجارية، وأصبح التنافس بين القنوات معركة دولية تبرز فيها التكتلات والتحالفات بنفس السرعة التي تنحل فيهاو وشملت تأثيرات المنافسة بين القنوات، عدة مجالات أهمها الانعكاس المباشر على تصاعد حقوق الأحداث الرياضية، حيث شهدت المفاوضات أحياناً أرقام قياسية كبيرة جداً، لا أدل عليها أسعار الحصول على حقوق نقل بعض مباريات كأس العالم 2010 التي وصلت إلى 22 مليون دولار ل 22 مباراة فقط ! ضريبة التلفزيون : أي مصير ؟ في الوقت الذي تعتبر فيه معدلات الضريبة عموما بالمغرب الأعلى في العالم، إذ يصل متوسط معدلات الضريبة إلى 33.9 في المائة، حسب ما أكدته دراسة أمريكية، أنجزها مكتب الدراسات “برايس واتر هاوس كوبر” حول الأنظمة الضريبية في العالم، يتسائل فيه المواطن المغربي، عن دور مساهماته الضريبية في المالية العامة للبلاد إذا لم تسثمر في قنوات القطب العمومي لضمان فرجته التلفزيونية. عبد العالي ساعف، عضو التنسيقية المحلية لحماية المستهلك بالدارالبيضاء يؤكد « أن ضريبة التلفزيون التي يؤديها المغاربة ضمن الفواتير الشهرية للكهرباء، قد تكون قادرة على منح القطب العمومي إمكانية المنافسة الحقيقية للحصول على حقوق بث مباريات كرة القدم في المنافسات القارية أو الرسمية». في غياب أرقام رسمية عن قيمة الأداء الضريبي الخاص بالتلفزيون، وكذا إجابات شافية من المعنيين بالأمر، يعتقد بعض الخبراء الاقتصاديين أن قيمة هذه الضريبة قد تكون كافية للحصول على الأقل على حقوق منافسة واحدة من المنافسات الرياضية الكبرى سنويا. بالمقابل، يعتقد مسؤول بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، بأن هذه الأخيرة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد، بالضريبة التي تتعلق بالتلفزيون، في الأداء الشهري لقيمة الفاتورة الكهربائية، التي تظل حكرا على وزارة الطاقة. وبالتالي يضيف المسؤول الإعلامي : « لا يمكن مسائلة الشركة عن عدم إدراج قيمة هذه الضريبة في ميزانيتها العامة، أو في المبالغ المخصصة للصفقات المحددة سلفا للتفاوض حول حقوق النقل التلفزي، سواء فيما يتعلق بالمنافسات القارية أو الدولية». و«الرياضية» ... أي دور ؟ منذ إنشاء القناة الرياضية في شتنبر 2006 كانت أهداف الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة مواكبة تطور الرياضة المغربية، لكن أيضا من أجل رفع المنافسة الوطنية للحصول على حقوق البث التلفزيوني للمنافسات الرياضية القارية والدولية. لكن « للأسف لم تتمكن الشركة من مناشة كل هذه الاقتراحات في ظروف طيبة دائما وذلك راجع تحديدا لمحدودية قدرات الشركة الوطنية في مواجهة المتطلبات المادية لمنظكي المسابقات الدولية أو الشركات المالكة لحقوق النقل، أو لعدم التمكن من نقل المباريات من بعض الدول البعيدة أو الإفريقية نظرا للمشاكل التقنية التي اعترضت الشركة هناك» يشرح قادر بوعزة، مسؤول الحقوق الرياضية بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون. هذا التحول في امتلاك الحقوق الوطنية للنقل التلفزي يكلف الشركة الوطنية 125 مليون درهم سنويا، في الوقت الذي لم يكن الرقم يتجاوز ال26 مليون درهم سنويا قبل شتنبر 2006. وهو المبلغ الذي يخصص في غالبيته العظمي للجامعة الملكية المغربية لكرة القدم فقط. أمام هذا العجز المادي والموضوعي، اختارت القناة الرياضية وجهة أخرى. فقد عملت الشركة الوطنية ومنذ خلق القناة، على إبرام اتفاقيات شراكة سنوية مع الجامعات الوطنية من أجل الحصول على حقوق النقل التلفزي للدوريات الرياضية المختلفة، والعمل على ترويج هذه الرياضات وطنيا وعالميا عن طريق البث الفضائي. في نفس السياق تم الاحتفاظ بحقوق الإذاعة الوطنية ضمن هذه الشراكات لتمكينها من أداء دورها الإعلامي. في هذا الاتجاه، يضيف المسؤول الإعلامي الوطني « نطلب من الجامعات الوطنية الرياضية أن تفي بالتزاماتها الكاملة تجاه الشركة الوطنية عبر جميع الوسائل القانونية، فإذا علمنا بأن وسائل النقل الإذاعي تطورت بشكل كبير لدرحة، فأنه أصبح من الصعب ضبط بعض العمليات التي تخل بالاتفاقات الموقعة بين الإذاعات والشركة والجامعات الرياضية». هذه المقاربة الوطنية، أصبحت هدفا استراتيجيا للشركة الوطنية التي ترغب في ترويج منتوج رياضي وطني محترم، في ظل انحصار القدرة على المنافسة دوليا أو حتى إقليميا .