تطرح الأوضاع المقلقة للمرضى المصابين بأمراض عقلية أسئلة شائكة حول واقع الصحة النفسية بالمغرب. ويقدم الواقع صورة سوداء لمرضى بالآلاف يتركون لمصيرهم في الشارع العام وبين أسرهم، في حاجة للتكفل والحق في تغطية صحية تضمن لهم العلاج والأدوية.. مما يدفعهم إلى التشرد ارتكاب أفعال عدوانية ضد أنفسهم وضد الآخرين قد تصل إلى حد القتل .. كما حدث في عدد من المدن كمراكش ، وفاس، ووجدة ….وباعتراف الهيئات والجمعيات والوزارة الوصية نفسها فالأرقام مخيفة حول نسبة الأمراض النفسية المتفشية بين المغاربة تترجم في عنوناها العريض بمحدودية وانعدام الولوج إلى الخدمات الطبية النفسية لفئات واسعة من المجتمع. المصابون بأمراض عقلية بالمغرب.. ضحايا بصيغة المزدوج المصابون بأمراض عقلية بالمغرب أشخاص يعدون بالآلاف. قست عليهم ظروفهم الصحية من جهة وطبيعة السياسات الصحية المعتمدة من جهة أخرى. مئات الحالات تركت لحالها دون رعاية أو تكفل. تعيش أوضاعا مأساوية وتتعرض لمختلف أنواع التعنيف، وسط العائلة وفي الشارع العام.. فمرة هم معتدون ومرات هم المعتدى عليهم. وضع قاتم يثير جملة من التساؤلات حول مدى نجاعة الإجراءات التي حملتها السياسات الوطنية للصحة العقلية ومحاربة الإدمان التي أطلقتها الوزارة الوصية والرامية إلى تحسين الولوج إلى الخدمات الطبية النفسية لفئات واسعة من المجتمع، والحد بالتالي من الاختلالات والقصور الذي تقدمه أوضاع هذه الفئة في ظل الخصاص وضعف البنيات الاستشفائية، إلى درجة أنه أصبح من المألوف متابعة مشاهد وأحداث مروعة لاتخلو من دلالات حول المآل الخطير الذي بات يطرحه ملف الصحة النفسية بالمغرب، ومن نماذج هذه الأوضاع، ونتائج هذه السياسات تسجيل أحداث مؤلمة في عدد من المدن، كالحادث الذي شهدته مدينة مراكش منذ أسبوعين. ففي مشهد مريع أقدم مختل عقلي على ذبح طفلة بشفرة حلاقة بفضاءات حي البديع. المشهد بدأ عندما كانت أسرة الضحية المكونة من امرأة أجنبية وزوجها المغربي، تقتعد طاولة بإحدى المقاهي بنفس الحي، حيث انصرفت طفلتاهما( 2 و4 سنوات)للعب أمامهما بعتبات الفضاء الممتد أمام المقهى. لكن لحظة الاسترخاء العائلية ستنتهي بمأساة، حيث ظهر شخص وعليه تقاسيم الخلل وعدم الاتزان العقلي، حيث توجه نحو الصغيرتين وبمجرد اقترابه منهما سيفاجىء الجميع وبطريقة غير مفهومة، بإشهاره لشفرة حلاقة كان يشد عليها بقوة، ليتوجه بنصلها الحاد صوب عنق الطفلة ذات الأربع سنوات ويقوم بذبحها ليتركها غارقة في دمائها. في هذه اللحظة انتبهت الأم لمصاب صغيرتها، فأطلقت صرخة مدوية أيقظت انتباه الجميع، ليسارع العديد من المواطنين لمحاصرة الجاني وشل حركته، مع نزع أداة الجريمة، فيما هرعت الأم وزوجها وهما في حالة هلع ،بإحاطة عنق الصغيرة ببعض المناديل في محاولة لإيقاف النزيف،ومن ثمة الارتماء في حضن سيارتهما والانطلاق في اتجاه أقرب مصحة، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإبعاد الصغيرة عن دائرة الخطر المحدق. المواطنون الذين عاينوا الحادث سارعوا بربط الاتصال بالمصالح الأمنية، التي عملت عناصرها على توقيف الجاني الذي تأكدت معاناته من خلل عقلي، فيما تناسلت التعاليق والانتقادات والاحتجاجات على واقع تزايد المشردين والمختلين عقليا بالحي. حدث آخر لايقل عدوانية وهذه المرة بمدينة، حيث أحيل مؤخرا شخص تبين أنه يعاني من خلل عقلي على العدالة. الشخص توبع بتهمة الاختطاف والضرب والجرح العمديين بالسلاح الأبيض في حق قاصر دون الثامنة عشرة تقطن بدوار أيت الفقير. المتهم تبين أنه يعاني من اضطرابات نفسية جعلته يدخل مستشفى ابن الحسن للأمراض العقلية بفاس عدة مرات من أجل العلاج، غير أنه وقبل ارتكابه لجريمته، وحسب شهادات أقربائه لم يتناول الدواء لمدة طويلة نتيجة عدم توفر المال لدى أسرته. المتهم أحيل بعد اعتقاله من قبل رجال الدرك، بناء على تعليمات النيابة العامة، وأودع مستشفى الأمراض العقلية، حيث خضع لفحص طبي كشف أنه يعاني خللا عقليا حتم التزامه بتناول الأدوية في انتظار أن تبت العدالة في ملفه. بمدينة تيزنيت تعرضت أستاذة بثانوية الساحل لاعتداء مباغت من قبل أحد المختلين عقليا والمشردين المعروف بالمدينة في الشارع العام نهاية الأسبوع الماضي. الحادث أثار استياء كبيرا في صفوف الأسرة التعليمية وعموم من حضروا مشهد الهجوم على الأستاذة وإسقاطها أرضا من قبل المعتدي بشارع محمد السادس قبالة مقر العمالة مما خلف لديها جرحا وكدمات نتيجة ارتطامها بالأرض. الضحية نقلت إلى قسم المستعجلات حيث تلقت العلاجات الأولية من آثار الاعتداء وسلمت لها شهادة طبية أثبتت لها عجزا حدد في 12 يوما تقدمت على إثرها بشكاية إلى مصالح الضابطة القضائية بمفوضية الشرطة بتيزنيت على أمل أن تتخذ إجراءات توقيف المعتدي وإيداعه بإحدى مصالح الرعاية الصحية والاجتماعية التي تفتقر إليها المدينة. مطلب التدخل للحد من عواقب اعتداءات أشخاص مرضى كان يفترض أن يتم استقبالهم في بنيات خاصة، وضمان علاجهم، عوض أن يشكلوا خطورة على أنفسهم والمحيطين بهم، واقع عاشه عدد من سكان مقاطعة سباتة، وبالضبط بالزنقة رقم 8 بالبيضاء. فبعد أن نفد صبرهم قاموا بتوجيه نداء إلى الجهات المسؤولة قصد اتخاذ الإجراءات المناسبة ، وإيداع شقيقين مصابين بمرض عقلي بالمستشفى وعلاجهما. فالشقيقان باتا يهددان حياة القاطنين والمارة على حد سواء، بعد أن تدهورت حالتهما النفسية كثيرا. السكان عبروا بوضوح عن قلقهم وتخوفاتهم عبر شكايات إلى عدة جهات « لقد تعايشنا مع الحالتين منذ سنوات عديدة، حيث أصبح كل من الشقيق الأكبر ( 47 سنة ) و الأصغر ( 43 سنة ) يقدمان بدون سبب وفي غفلة من الجميع على ضرب الناس واعتراض سبيلهم. الأدهى من ذلك فإن الابن الأكبر قام بضرب أمه العجوز ، وأصابها بكسر في حوضها حيث أجريت لها عملية جراحية وحددت عندها عجزها في أربعة أشهر. الأم التي كانت الشخص الوحيد الذي يقوم برعاية الابنين، لم تصمد طويلا من آثار الاعتداء عليها بدون سبب، حيث توفيت بعدها. وفاة الأم وبشهادة القاطنين عمقت أزمة المصابين، خاصة أنها كانت الشخص الوحيد القادر على رعايتهما، بإمكانياتها المحدودة جدا.. السكان أضافوا في شكايتهم « لقد ضاقت بنا السبل ولم نعد نقوى على التحمل والتعايش، ونطالبكم بالتدخل للحد من معاناتنا والتكفل بالمعنيين بالأمر في مؤسسات خاصة للرعاية النفسية، تفاديا لحدوث مالاتحمد عقباه. د.جلال توفيق مدير المستشفى الجامعي للطب النفسي الرازي بسلا المريض العقلي هو الأكثر عرضة للإقصاء والحيف يجب تصحيح المعلومات حول المرض العقلي بعيدا عن الإثارة والشعبوية أوضح الدكتور جلال توفيق مدير مستشفى الرازي للأمراض العقلية بسلا في معرض حديثه عن موضوع «الاعتداءات والجرائم المرتكبة من طرف الأشخاص المصابين بأمراض نفسية » أنه ضد التناول الاعلامي الذي يهدف إلى الإثارة من خلال استعراض حالات لمرضى ارتكبوا جرائم، هذا في الوقت الذي لايتم الحديث بنفس الطريقة والتضخيم عن الجرائم التي يرتكبها الأشخاص العاديون، والواقع يؤكد أنه ما بين سبعة إلى عشرة في المائة من المرضى ذوي الأمراض العقلية الخطيرة هم الذين يرتكبون الجرائم على مدى الحياة، أي بنسبة أقل عن الآخرين، حيث إن الناس الذين لايعانون من أي مرض عقلي هم أكثر الأشخاص ارتكابا للجرائم هذا في الوقت الذي يتم تسليط الأضواء وبشكل ملفت ومبالغ في حالة كون الشخص مريضا عقليا. سبب ذلك في نظره أن للأمر وقعا أكثر على المتتبع، لأننا في هذه الحالة أمام ضحيتين الشخص الميت والشخص المرتكب للجريمة. لكن ما يجب أن يشكل قيمة مضافة عند تناول الموضوع، حسب الدكتور هو تصحيح المعلومة لدى الناس، بخصوص المرض العقلي، لأنه للأسف هناك مجموعة من المقالات والمتابعات غير دقيقة، ولاتقدم المعطيات بشكل صحيح. فالمريض العقلي هو الأكثر عرضة للإقصاء والحيف، والشتم وعدم المبالاة والاستهتار في بيئته اليومية، بل ويطلق عليه نعوت المرض والحمق. فالعنف الموجه اتجاه المرضى العقليين أكبر بكثير من غيره. فالمرض العقلي الخطير أولا يظهر لدى المصاب بالفصام الخطير والمتأخر أو الذي لم يعالج، وبفعل تأثير بعض الهلاوس الدماغية، وبعض الأفكار الاضطهادية، يندفع المصاب للقيام بسلوك عنيف، أو هجومي. أما المرضى الآخرون أو النسبة الكبيرة منهم فلا يشكلون أية مشكلة، ولايؤذون الآخرين بل بالعكس تماما فهم الأكثر عرضة للإقصاء، فالمجتمع لايرحم في حالة ما إذا كان الشخص مصابا بمرض نفسي سواء عند إقباله على عمل، أو الزواج .. هذا بالرغم من توفره على مؤهلات دماغية. وفي حديثه عن الإقصاء المجتمعي، والعائلي والمؤسساتي للمريض العقلي، شدد جلال التوفيق على ضرورة تبني البيداغوجيا الصحية في المجتمع، فالعالم العربي بأكمله لايمتلك المعلومة الصحية مقارنة بالبرتغال مثلا، وعندما تتابع عدد البرامج الصحية في القنوات، تجدها فقيرة، وتمارس التهريج، وتنحو منحا شعبويا مشبعا بأمور لاعلاقة لها بالطب، تفسر الأمور بالسحر والشعوذة، وفي نظره فسبب ذلك يرجع إلى مدى تطور المجتمع، ومدى تكوين الشخص، ونوع وحجم المعلومة الطبية ودورها في تطوير القدرات ومعرفة بأشياء كثيرة. هذه المعلومة لها كذلك علاقة بحس المواطنة من خلال إشراك الفرد لاإقصائه كما هو شائع للأسف، حيث يمكن أن تصادف شخصا ملقى بالشارع نتيجة مرض عضوي كارتفاع الضغط أو السكري أو نوبة لكن دون أن ينتبه له أحد. فإذا كان هذا حال هذا النوع من المرضى فكيف سيكون الأمر إذا كان الشخص مصابا بالصرع مثلا.. فنحن كجسم طبي نحاول باستمرار أن نصحح معلومات في مجتمع متخلف، وأنا أتحمل مسؤوليتي في هذا القول، في ظل تفشي الأمية وانتشار طقوس خاطئة تعود إلى عصور غابرة. علاوة على ذلك فالتصور الخاطئ حول المرض العقلي، حاضر كذلك لدى نسبة كبيرة من الإعلاميين في تناولهم للموضوع، وهم يحملون ويقدمون معلومات خاطئة من منظورهم لمفهوم المرض العقلي. وفي هذه الحالة يتساءل مالذي تركناه للأشخاص العاديين إذن؟. فمن السهل كتابة مقال يهدف إلى الإثارة بين الناس، لكن من الصعب تقديم قيمة مضافة وتصحيحها.فإقصاء المريض العقلي هو إرث يعود لعقود طويلة، حيث نسجل غياب أي تكفل به. أما الحديث عن موضوع الصحة النفسية، فهو نتاج كفاح طويل للمهنيين، لتوضيح مامعنى المرض العقلي، وماهي الأعراض التي تدخل في خانة المرض النفسي للعموم. المفارقة من وجهة نظره أننا مازلنا نتابع في قنواتنا تهافت غير المتخصصين وحديثهم عن الموضوع دون دراية اللهم كلام عام، وغير دقيق. وبالنسبة له فتقديم المعلومات الصحيحة هو عمل يومي، كما هو شائع في صحف يومية تحرص على تخصيص مقالات لموضوع طبي جديد، الهدف منه ليس تحقيق المبيعات بل الحرص على وضع القارئ في مدار الإدراك والمعرفة، خلافا لما هو سائد لدينا حيث تفتح القنوات والإذاعات في وجه الدجالين الذين لايحاسبون من طرف الهيئة الوصية عل مراقبة ما يذاع، ما إذا كان صالحا أم لا. اليوم نعطي في وسائل الإعلام المجال لأشخاص للحديث في للعلم والطب بكلام شعبوي خرافي. المجلس الوطني لحقوق الإنسان يرسم صورة قاتمة للصحة النفسية بالمغرب كشف الاستطلاع الذي قام به المجلس الوطني لحقوق الإنسان في الفترة الممتدة مابين، 27 مارس إلى 6 يوليوز من سنة 2012 حول الوضعية الحالية لمؤسسات الطب النفسي العمومية والخاصة منها بالمغرب، وشملت عشرين مؤسسة عدة خلاصات من أهمها أن هذه المؤسسات هي مجرد بنيات عتيقة بتجهيزات متقادمة، وخصاص في الأطر… وسجل فريق العمل في تحرياته نقصا مهولا في عدد البنيات، عبر التراب الوطني، وأكد أن عدد الأسرة حسب وزارة الصحة لاتتجاوز 1725 سريرا، كما أن نمط التسيير المطبق في الأغلب الأعم بها، هو نظام مصالح الدولة ولايتلاءم مع طبيعة مؤسسات الطب النفسي، والتي وصفها التقرير إما بالنادرة أو متخلى عنها كمثال مستشفى برشيد، أو غير المتوازنة خاصة في الشق المتعلق بالتوزيع الجغرافي عبر المناطق، ونقص البنيات المتوفرة، والقصور المسجل في صيانتها والمحافظة عليها. وبخصوص التجهيزات ، توقف تقرير الفريق، عند الخصاص والخراب الذي يطبع معظم هذه المؤسسات. فالمكاتب فقيرة من حيث تجهيزات العمل، وجل هذه المؤسسات لاتتوفر على سيارات إسعاف، وتفتقر إلى وسائل السلامة، مثل وسائل إطفاء الحريق، وفي حالة وجودها فهي لاتلائم حاجياتها، علاوة على أن الأسرة والأغطية بهذه المرافق توجد في حالة سيئة، أما المرافق الصحية للمؤسسات التي زارها الفريق توجد في حالة مزرية متقدمة. معظم إدارات مؤسسات الصحة العقلية، حسب الاستطلاع أشار بخصوصها التقرير أنها لاتعمل بأنظمة معلوماتية إلا نادرا، حيث يجري الاستقبال على وجه العموم في ظروف عادية، ولايتاح القبول لكافة الحالات الواردة في جميع الأحوال، وذلك بسبب الاكتظاظ و أما العلاجات المقدمة عموما فهي من المستوى العادي والتقليدي تقريبا في معظم هذه المؤسسات. وفي الجانب المتعلق بالموارد البشرية واعتبر التقرير أن الواقع الحالي بعيد عن الاستجابة للمعايير الدولية المعترف بها في هذا المجال على الصعيد الدولي. فإذا كان القطاع العام يضم 172 طبيبا نفسانيا 740 ممرضا اختصاصيا في الطب النفسي، فإن توزيع هذا العدد يتم بطريقة غير متكافئة، حيث يوجد 54 بالمائة منهم، في محوري الدارالبيضاء والرباط، كما أن أكثر هذه المؤسسات لاتتوفر سوى على طبيب نفساني واحد. وبخصوص الممرضين والممرضات في مجال الطب النفسي، أبرز التقرير أن هذه الفئة لاتتوفر على نظام أساسي يحدد مهامهم بدقة، ويمنحهم الأمن والحماية، وظروف عيش مناسبة . اختلالات هذا الجانب، تظهر بوضوح في الخصاص في الموارد البشرية خاصة منها عدم توفر المستشفيات على طبيب مختص في علم النفس، واختصاصي في العلاج بواسطة الترفيه أو العلاج بواسطة الفنون.. أو مساعدين اجتماعيين واجتماعيات. مؤسسات الطب النفسي الخاصة، ليست أفضل حالا من العمومية منها، فإذا كان هذا القطاع يضم 131 طبيبا نفسانيا وعيادة واحدة متخصصة في الطب النفسي، فإن التقرير قد سجل ندرة وخصاص في الأطباء والوحدات الطبية من هذا النوع، إضافة إلى الفراغ القانوني، حيث لايوجد تشريع ولاتعريفات يراعيان هذه الخصوصية. الاستطلاع مكن من الخروج بتوصيات وتدابير عاجلة من شأنها ضمان الحق في الصحة العقلية كحق أساسي من حقوق الانسان. مخطط 2012-2016 للنهوض بقطاع الصحة العقلية والنفسية رفع وتيرة التكوين واعتماد قانون تنظيمي لمهنة الأخصائيين النفسيين. يتوفر المغرب على 2234 سريرا لعلاج الأمراض النفسية والعقلية فقط ، وهو ما يعني بلغة الأرقام أقل من سرير (0.78) لكل من 10 آلاف نسمة مقارنة بالمعدل العالمي الذي يحدد الكثافة السريرية في 4.36 لكل 10 آلاف نسمة. و تتوزع هذه الأسرة على مراكز جامعية (636 سريرا) و 6 مستشفيات مختصة أي ما مجموعه 825 سريرا و 20 مصلحة مدمجة بالمستشفيات العامة ( 773 سريرا) بينما يتوفر 80 مركزا صحيا على استشارات الصحة النفسية ولمواجهة هذا الوضع جاء مخطط 2012-2016 الذي وضعته وزارة الصحة للنهوض بقطاع الصحة العقلية والنفسية ويرمي من خلال خطوطه العريضة إلى تدارك الخصاص المسجل في الموارد البشرية من خلال تعزيز التكوين الأساسي ورفع وتيرة التكوين المستمر لمهنيي الصحة العاملين في مجال الصحة النفسية في مرحلة أولى عبر تكوين 30 طبيبا نفسيا سنويا٬ و185 ممرضا وممرضة سنويا متخصصين في الطب النفسي وإحداث أربعة أقسام جامعية للطب النفسي للأطفال والمراهقين وتوسيع التخصصات المهنية في مجال الصحة النفسية كما ستسعى الوزارة إلى توفير ما يناهز 800 سرير لتعزيز القدرة الإيوائية على الصعيد الوطني في مجال الطب النفسي للانتقال من 2234 سرير إلى 3000 سرير قبل نهاية سنة 2016٬ ، إضافة إلى إنهاء مشروع إنشاء أربعة مستشفيات جهوية متخصصة (120 سريرا لكل وحدة) وإحداث 22 مصلحة لمعالجة الأمراض العقلية والنفسية بالمستشفيات متعددة التخصصات٬ إلى جانب بدء العمل بثلاثة مراكز لمعالجة الإدمان التي تم إنشاؤها خلال السنة الجارية بكل من تطوانومراكش والناظور. وضمن نفس المنحى تسير توجهات الوزارة إلى رفع نسبة الطاقة الاستيعابية إلى 1 لكل 10 آلاف مقابل 0.78 حاليا ورفع نسبة الكثافة الطبية إلى 1 لكل 100 ألف مقابل 0.63 حاليا. وقد وخصص لهذا الغرض ميزانية قدرها 70 مليون درهم. كما ينص المخطط على التكفل ورعاية المرضى الذي يعانون من اضطرابات نفسية من خلال تحسين الحكامة داخل المستشفيات و توفير الأدوية الأساسية في المستشفيات،وتوسيع التغطية المختصة بعلاج الإدمان وذلك بإحداث 6 مراكز لمعالجة الإدمان بشراكة مع مؤسسة محمد الخامس للتضامن في حدود 2014. وفي نفس السياق تشتغل الوزارة على تعديل ظهير 1959 الذي لم يعد يلائم الواقع الحالي وذلك بسن قانون جديد للصحة النفسية يضمن حقوق المرضى ومن التدابير الاستعجالية الأخرى ضمان استفادة 150 ألف مريض سنويا بالمجان في مرافق الرعاية الصحية وزيادة خدمات الرعاية الأساسية للمرضى في مستشفيات الأمراض الصحية بنسبة 20 بالمائة سنويا مع ضمان المجانية لمستفيدي نظام «راميد. وللإشارة فقد بدأ الاهتمام بالصحة النفسية بالمغرب منذ سنة 1959 وذلك بصدور ظهير رقم 1-58-295 حول «الوقاية والعلاج من الامراض العقلية، وحماية المرضى عقليا». وفي سنة 1974 بدأت الدولة سياسة لامركزية عبر إدماج خدمات الرعاية الصحية النفسية في الرعاية الصحية الأولية. د . عبد المجيد كمي اختصاصي في الأمراض النفسية والعصبية، مجاز في معالجة إدمان الخمر والمخدرات عضو في جمعيات للطب النفسي، والعمل الاجتماعي. الجرائم المرتكبة من لدن المصابين بأمراض نفسية أقل بكثير من تلك المرتكبة من الأشخاص الأسوياء. في المدة الأخيرة شهدت مجموعة من المدن اعتداءات خطيرة وجرائم قاتلة، كان وراءها أشخاص يصنفون في خانة المرضى العقليين، كيف تقرؤون تنامي هذه الظاهرة ؟ من الناحية التاريخية المسألة هي ترجمة لإهمال الجهة الوصية ولمدة طويلة لفئة من المجتمع ولواقع الصحة النفسية عموما، وبالتالي فواقع تردي منظومة الصحة النفسية ليس وليد اليوم، بعبارة أدق فالدولة تجني تراكمات هذا الإهمال الذي استمر طويلا. فالمغرب رغم أنه قطع أشواطا في عدد من المجالات آنذاك ، غير أنه ولحدود الآن ورغم مرور كل هذه السنوات فلازلنا نتخبط في نفس المشاكل التي طرحت منذ عقود ولتقريبك من هذا المعطى سأعطيك مثالا، بمدينة وجدة التي أعرفها جيدا، وأمارس فيها مهنتي لأزيد من عشرين سنة، فقد كانت تتوفر على مستشفى لكنه لايليق بالمنطقة الشرقية والتي يقطنها مايزيد عن مليوني نسمة، مستشفى ل 60 مكانا للرجال، 30 للنساء، وقد شيد في سنوات ما قبل الخمسينيات، من طرف المستعمر، كانت طاقته الاستيعابية جد ضئيلة، وظروف الاستشفاء فيها أقل ما يقال على أنها تليق بمستفى للأمراض العقلية وبالتالي عندما تم التفكير في تجديده، تم هدمه بالكامل لبناء آخر جديد. استغرق الأمر سنتين وثمانية أشهر، ليتم تدشينه من طرف جلالة الملك. لكن البنية الجديدة لم يشرع في استغلالها إلا بعد مرور أربعة أشهر، حيث ظلت مغلقة طيلة هذه المدة، وبخصوص مشكل التأخر تحدثت شخصيا مع الوزير الوصي وبطريقة غير رسمية في إحدى زياراته للمنطقة. الوزير قدم لي وعودا وقال لي بالحرف إن هناك مجموعة من الممرضين سيتم إلحاقهم للعمل بالمستشفى . وبعد الضغوطات، تم افتتاحه، لكن لم تتجاوز نسبة الخدمات التي يقدمها عشرة بالمائة، حيث لايتجاوز عدد الأطباء النفسانيين به طبيبين فقط وسبعة أو ثمانية ممرضين لتقديم خدمات لأزيد من مليوني مواطن. ليتم وإزاء هذا الخصاص التخلص من مرضى حتى أولئك الذين يصنفون ضمن المرضى الخطيرين وذلك بعد إخبار عائلاتهم بضرورة التكفل بهم، إلى حين استكمال بناء وافتتاح البنية الاستشفائية الجديدة. ألا تعتقد أن الأسر خاصة المعوزة التي يوجد من بين أفرادها مرضى مصابون باضطرابات عقلية، تؤدي ثمن التكفل بالمريض بشكل مزدوج من الناحية المادية الرعاية وتوفير الأدوية، والجانب الأمني ؟ عائلة المريض النفسي مهما كانت إمكاناتها غير قادرة على تحمل الرعاية الطبية والأمنية، والاجتماعية للمريض وهو الأمر الذي يدفعها إلى اختيار حلول اللجوء إلى الأضرحة والأولياء والتداوي بالطرق الشعبية البدائية من قبيل إيداعه ببويا عمر. فبخصوص هذا المكان للأسف الشديد لازال المرضى يسجنون ويقيدون ويعاملون معاملة قاسية، وهي أوضاع لم تعد خافية على أحد بالمغرب، إلى درجة أن هناك مرضى يتم تقييدهم بالسلاسل، ويعانون المجاعة، وذلك بدعوى العلاج. بعض عائلات المرضى وعند زيارتها لي تحكي أشياء غريبة عن الكيفية التي يعامل بها المرضى، منها مثلا أنه في لحظة تقديم الفطور للمريض، يقوم شخص من « المعالجين » بإمساك العصا، فيما شخص آخر بكأس من القهوة، وسيجارة، حيث يمنع على المريض تناولها بشكل طبيعي، ويشترطون على المريض الاستجابة لتوجيهات الشخص ماسك العصا، فيما يشبه جلسة تعذيب حقيقية. في نظرك المريض الذي يخضع لهذا التعذيب من الطبيعي أن يحقد بعدها على المجتمع. فهؤلاء «المعالجون» يحصلون شهريا على ألف أو ألف وخمسمائة درهم عن كل مريض لكن دون أن يحصل على أية رعاية طبية أو وحماية بدعوى أنه مسكون. لقد قيل الشيء الكثير في الموضوع، وتدخلت منظمات حقوقية وطنية ودولية لتغيير هذا الوضع، لكن لم تتحرك أية جهة للقطع مع مظاهر مرفوضة يقيد فيها المرضى بالسلاسل والأقفال، بدعوى الحفاظ على الطقوس والتقاليد، إلى درجة أن بويا عمر يعد أكبر مستهلك للأقفال والسلاسل بالمغرب. فحتى الحيوانات لاتعامل بهذاالشكل فما بالك بالآدميين، وأنا لا أستغرب لوقوع جرائم قد يرتكبها المرضى النفسيون وهي أقل من تلك التي ترتكب من طرف المرضى وهو أمر طبيعي في العالم بأكمله.. كيف تم تدبير الفراغ الذي خلفه هدم بناية استشفائية في انتظار أن يتم افتتاح أخرى من الناحية الأمنية والطبية؟ من خلال تجربتي المهنية وبعد هدم المستشفى وخروج المرضى ولجوئهم إلى عيادات الطب النفسي اتصلنا كأطباء، وهيئة، وأعضاء في نقابة بالوكيل العام بمحكمة بوجدة التمسنا منه مساعدة أمنية، وقلنا له بالحرف أن القطاع الخاص لايملك الوسائل لمتابعة المرضى. فلايمكنني كطبيب خاص تقديم ولو حقنة للمريض،لسبب بسيط أنني لاأتوفر على الإمكانيات والممرض المختص، وطبيب الانعاش الذي يمكنه تقديم عدد من التدخلات الطبية التي تظل ممنوعة علينا في العيادات الخاصة، كمده بأدوية محددة يمنع بيعها في الصيدليات وتوجد فقط في المستشفى. علاوة على أنها حالات تتطلب رعاية، ومراقبة وتتبع يومي، الأمر الذي يجعلنا مكتوفي الأيدي في عيادات الطب الخاص. في نفس الوقت طالبنا من الوكيل العام، ومن خلال الجسم الطبي، بإيداع هؤلاء المرضى في أماكن مؤقتة، غير مستغلة، سواء المقرات الإدارية المغلقة إلى حين افتتاح المرفق الجديد، واقترحنا أن نجهزها بأدوات العمل والأسرة دافعنا في ذلك أن الطب النفسي لايحتاج إلى تجهيزات كبيرة. لكنه أجابنا بأن المشكلة ليست من تخصصه، فقط يمكننا أن نتصل بوالي الأمن في حالة وقوع حوادث، في عيادات الطب الخاص والمطالبة بالتدخل أمنيا. ورغم أنه حل جزئي إلا أنه لن يحل مشكل العائلات، إلى درجة أن تعليمات أمنية موجهة للمراكز الأمنية يمنعها من الاحتفاظ بمريض نفسي صدر عنه اعتداء أو فعل خطير. كما أنه هناك من اقترح كحلول أن نرسل هذه الحالات إلى مستشفيات مدن أخرى كتازة أو إلى الحسيمة، هذا في الوقت الذي تعاني هذه المدن من مشاكل عويصة، وخصاص فظيع في الموارد البشرية والوسائل. كما طرحنا وفي نفس السياق المشكل على المنتخبين، لكن وقفنا بعدها على حقيقة تراشق بالمسؤوليات فقط، فهل يعقل أن تكون الوحدة الجديدة تشتغل فقط بعدد محدود جدا من الأطباء والممرضين. باعتراف الوزارة نفسها وتقارير هيئات رسمية وجمعيات هناك نقص فظيع في عدد البنيات والموارد البشرية على المستوى الوطني، هل المخططات التي وضعتها الوزارة الوصية بهذا الشأن كافية لمواجهة هذا النقص؟ في نظري الاعتراف بالوضع لايكفي ولايحل المشكل فالصحة النفسية لاتقبل الانتظار. فهناك حالات مرضية خطيرة على المستوى النفسي، خطورتها لاتتوقف عند ايذاء الاخرين ولكنها خطورة حتى على الشخص ذاته وأنا أستغرب رغم ذلك عدم تسجيل وصدور أفعال خطيرة من المرضى، فهم يتركون لأنفسهم دون رعاية في الشارع والمجال العام، ومعظمهم لايتناول الدواء الذي يظل ثمنه باهظا في الصيدليات، حيث يكتفى المريض بتناول دواء واحد فقط نتيجة عدم قدرته علي اقتناء جميع الأدوية التي يصفها له الطبيب في غياب تغطية اجتماعية لهذه الحالات. لذلك فعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها اتجاه هذه الفئة، وأن تساعد العائلة خاصة أن هذه الأخيرة تتحمل لوحدها كافة تبعات مريضها النفسي علاوة على أن عددا كبير من الحالات المرضية، يمكن معالجتها خاصة في بداية المرض. في أوروبا تتوفر عائلات المرضى العقليين على قوة ضغط، والتأثير على سياسة الطب النفسي، في المغرب هذه الجميعات قليلة جدا، والموجود منها متخصص في أمراض محددة. بخصوص المخططات التي وضعتها الوزارة لنأخذ مثال وجدة ، المخطط الموجه للصحة النفسية بدأ ببناء مستشفى جديد وهو أمر جميل، لكن طموحنا ألا يظل هذا المخطط مجردا في الورق فقط، فعند الحديث عن الموارد البشرية، فإن نسبة الأطر المؤهلة للعمل في هذا القطاع لاتتجاوز 2بالمائة من تلك المعينة. المخطط يمكن أن ينجح إذا توفرت شروط التغطية الصحية للمرضى النفسانيين، لأنه لن يكون بمستطاع المريض تحمل فاتورة الاستشفاء في المصحات الخاصة، التي تكاد تكون شبه منعدمة باستثناء مصحة للطب النفسي بالدارالبيضاء والتي يسجل تزايد على خدماتها رغم ارتفاع ثمنها، والسبب في ذلك، أن المصحات الخاصة لاتتوفر على مداخيل تخصصات طبية أخرى يمكن أن تحدث توازانا ماليا. وهذا ما يطرح أهمية تقديم تشجيعات للقطاع الخاص، لتحمل جزء من هذه الوضعية، علما أن للقطاع العام دورا هاما في هذا الجانب، خاصة للفئات ذوي الدخل المحدود. وكذا في تطوير مجموع الخدمات الطبية التي يقدمها للمرضى، لأن القطاع العام هو المؤهل حاليا للتكفل بالمرضى بمساعدة القطاع. ماهي الإضافة الممكنة التي يمكن أن تلعبها مؤسسات الطب النفسي الخاصة لمواجهة هذا الخصاص، والفراغ القانوني المرتبطة بالطب النفسي والضمانات الخاصة بممارسة هذه المهنة؟ ملف القوانين المؤطرة للطب النفسي، طرحتها شخصيا ومنذ منتصف التسعينيات بمعية عدد من المختصين، والقانونيين ، وخلصنا إلى أن هناك فراغ منذ قانون الذي 1954 والذي أدخلت عليه تعديلات طفيفة في التسعينيات من القرن الماضي، لكنه للأسف مضامينه لم تأت بأجوبة لعدد من الاشكاليات التي يطرحها واقع المرضى، وعلاقته بالطبيب، وسؤال الحماية وطبيعة الحالات التي قد يستقبلها الطبيب النفساني، والذي يجد نفسه دون حماية، في حالة تدخل طبي ما قد ينتج عنه وفاة أو تأزم لحالة المريض أو أصيب بعاهة نفسية، وهذا يحيلنا مباشرة على مشكل التأمين بالنسبة لمهني القطاع الخاص، في حالة الهجوم أو حدوث اعتداء أو في حالة وقوع خطر حيث إن مجموعة من الخسائر غير قابلة للتعويض، من لدن المؤسسات. لذلك فمسألة القوانين الخاصة بالقطاع تتطلب مشاركة الجميع خاصة المعنيين بها، أي المهنيين والوزارة لصياغة قوانين من شأن سد الثغرات الحالية، وتطوير منظومة قانونية تتناسب أو تجيب عن كافة التساؤلات والاشكالات المتعلق بمجال الصحة النفسية بالمغرب.