"العَقْلَنَة الدينية ساعدت على عقلنة جميع التصرفات الاجتماعية" ماكس فيبر أمام الإسلام اليوم، أعني صناع القرار المسلمين، خياران: المراوحة في المكان أو الإصلاح. المراوحة في المكان أعطت على مرّ السنين حربا دائمة مع الذات وحربا مع العالم وحربا مع العلم وحربا مع الحداثة. إصلاح الإسلام يطمح إلى مصالحة الإسلام مع نفسه، ومع العالم الذي يعيش فيه، ومع العلم الذي يحقق اكتشافا مهما كل دقيقة بعضها يطرح على الوعي الإسلامي التقليدي أسئلة مُحرجة. ومع الحداثة بما هي مؤسسات سياسية وعلوما وقيما إنسانية كونية، أي يسلِّم بسدادها ذوو العقول السليمة أينما كانوا. مصالحة الإسلام مع نفسه بوضع حدّ للتكفير، سواء تكفير المثقفين أو الفرق الإسلامية الأخرى كالمتصوفة والدروز والعلويين والأحمديين والبهائيين والشيعة …. وبوضع حدّ للحرب السنية الشيعية الدائمة التي توشك أن تتحوّل اليوم إلى سباق تسلّح نوويّ بين إيران وجوارها السنّيّ، حامل لأخطار الحرب النووية وذلك بقبول الفصل بين الديني والسياسي؛ مصالحة الإسلام مع العالم تتطلّب منه إعادة تعريف عميقة لعلاقته به، تُنهي تقسيمه إلى دار إسلام موعودة بالتوسّع ودار حرب موعودة ب"الجهاد إلى قيام الساعة"، كما يقول حديث للبخاري يَتَلَقَّنه المراهقون في دروس التربية الإسلامية في عدّة بلدان؛ مصالحة الإسلام مع العلم تقتضي نسيان الإعجاز العلميّ في القرآن، وقبول الفصل النهائيّ بين القرآن والبحث العلميّ والإبداع الأدبيّ والفنّيّ؛ تمسّك كثير من الفقهاء المعاصرين بأسطورة الإعجاز العلمي في القرآن دفعهم، مثلما دفع أسلافهم من الكهنة الكاثوليك في عهد محاكم التفتيش، إلى السقوط في الهذيان بما في ذلك الهذيان الدمويّ. مثلا، غداة استنساخ النعجة «دولي»، أصيب عدد من رجال الدين بالهذيان في اتجاهين، البعض مثل البروفسور والمؤرّخ التونسيّ، محمد الطالبي، أكّد بأنّ الاستنساخ جاء به القرآن، فلا بأس إذن من استنساخ الحيوان والإنسان! أمّا البعض الآخر مثل رئيس علماء السعودية آنذاك، العُثَيْمين، فقد رأى فيها بالعكس، تحدّيا وجوديّا للإعجاز العلميّ في القرآن، فأفتى بتطبيق حدّ الحِرابة، قطع الأيدي والأرجل من خلاف، على مستنسخي «دولي» مضيفا، في نوبة هذيانية "وقيل يقتلون"! كما مازال أساتذة طبّ مصريّون يوصون طلبتهم بتعلّم حقائق البيولوجيا في أصل الحياة "للامتحان فقط فهي غلط في غلط وتنفيها حقائق القرآن الكريم عن الخلق"؛ وأخيرا مصالحة الإسلام مع الحداثة مع مؤسّسات الحداثة السياسية: البرلمان، الجمعية العامّة للأمم المتحدة، وعلوم الأديان التي تدرّسها جامعات العالم باستثناء معظم جامعات أرض الإسلام، باستثناء تونس، حيث غدا علم النفس الديني يدرس ابتداءً من هذه السنة في الجامعة الزيتونية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وملحقاته مثل الاتفاقيات الدولية لحماية الأقليات، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق الطفل والاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضدّ المرأة التي قبلتها جميع الدول بلا تحفّظ باستثناء الدول الإسلامية التي تحفّظت على بعض موادّها مثل المساواة في الإرث… فقط المغرب وتونس رفعتا السنة الماضية تحفّظاتهما عليها. باختصار، يعني إصلاح الإسلام جعل الإسلام دينا حديثا يُقصي العنف من فقهه سواء عنف العقوبات البدنية أو عنف القتال والجهاد. تردد هيجل في تصنيف الإسلام في عداد الأديان القديمة أم الحديثة. سبب تردّده أنّه وجد في الإسلام المكّي الروحي واللاعنفي ما يبرّر تصنيفه كدين حديث، لكنه وجد في الإسلام المدنيّ الشرعيّ والجهاديّ ما يبرّر تصنيفه في الديانات القديمة. لكنّه لقلة درايته بفقه الولاء والبراء العنيف وانسياقا مع فلسفته التي ترى أنّ المتأخّر في الزمن أكثر حداثة مما يسبقه، خرج من تردده قائلا: "فلنصنّفه في الأديان الحديثة كالمسيحية". بعد هيجل بقرنين، لنجعله نحن فعلا دينا حديثا أي روحيا يعطي شؤون الأرض لأهل الاختصاص ليهتم هو بمكارم الأخلاق. ألم يقل نبيّه: "إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق" وليس لإتمام "مكارم" السياسة والاقتصاد والعلم… لماذا بقي الإسلام بلا إصلاح بعد قرنين من محاولات إصلاحه؟ لأنّ من حاولوا إصلاحه، من الطهطاوي إلى عبده، فشلوا في صياغة مشروع إصلاحي حقيقي يغير بنيته ووجهته لتكييفه مع العالم الحديث. كما عجز أصحاب القرار عن إدراج القليل مما أقترحه عليهم المصلحون في مناهج التعليم لإعادة صياغة شعور ولا شعور الأجيال الطالعة. لخصَّ عبده في آخر حياته مشروع الإصلاح في 3 فتاوى: تحليل الفوائد المصرفية، إباحة أكل ذبائح غير المسلمين للضرورة وإباحة لبس البَرنيطة وتاليا اللباس الأفرنجي الذي يحرمه فقه الولاء والبراء بما هو "تقليد للكفار". رأى الأزهر آنذاك في هذه الفتاوى "بدعة مذمومة" لذلك تشاور شيوخه نصف يوم لتقرير ما إذا كانت الصلاة على جثمان مفتي مصر جائزة أم لا! كان محمد عبده في تفسير "المنار" أكثر شجاعة فحقّق بعض الخطوات الرائدة: فقد ندّد بتعدّد الزوجات و"مفاسده" كما قال حتى كاد يُحرّمه، وأعطى للمسلم الحقّ في حرية الاعتقاد عند تفسيره لآية: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" قائلا: "من شاء أن يدخل فيه فليدخل ومن شاء أن يخرج منه فليخرج" وأوّل الشورى بالديمقراطية البرلمانية الحديثة اليوم. هذه الفتاوى كانت في حينها اختراقا لجدار الصوت في قلعة الإسلام التقليدي. ليس أدلّ على فشل محاولات الإصلاح من أنّ هذه المسائل التي حسمها عبده مازالت تتحدّى المسلمين. وفي مصر تحديدا حيث مازال مفتي مصر يحرم فوائد المصارف بما هي ربا محرّم، ومازال القضاء الشرعيّ المصري يلاحق المثقفين بتهمة الردّة. ألم يحكم القضاء بها على د. نصر حامد أبو زيد؟ وخارج مصر، ألم يشنق بها الترابي المتصوّف محمود محمد طه؟ لماذا؟ لأنّ هذه الإصلاحات المحدودة لم تدرج في مناهج التعليم التي ظلت تقليدية تلقّن فقه القرون الوسطى الذي لم يعد صالحا لعصرنا، ولا ملبيا لحاجاتنا للتقدم إلى الحداثة التي مازالت تدقّ على الباب. حاولت ثورة يوليو 1952 تدارك التقصير في تدريس مكاسب الإصلاح. كلفت سنة 1959 محمد سعيد العريان بهذه المهمّة التي فشل في إنجازها. كتب هو كتب التربية الإسلامية للصفوف الابتدائية واشرف على تحرير كتب الإعدادي والثانوي. لقّنتْ هذه التربية الإسلامية المراهقين كمال الشريعة وضرورة تطبيق حد السرقة، تحريم الربا، تسويغ قَوَامية الرجل على المرأة وأن القرآن، عكسا للمعتزلة، "غير مخلوق" والحال أن عبده كان معتزليا! كما لقّنتهم في السياسة ضرورة الشورى، والوحدة الإسلامية، والدولة الإسلامية وجهاد الدفع (=الدفاع) وآية السيف: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" (191 2). فأيّ غرابة أن تكون الشعارات التي قاتلت بها الجماعات الإسلامية المصرية مستوحاة من هذه الدروس؟ أوصت الكتب بتعليم الفتيات لكنّها أوصتهن أيضا بأن "يَقرنَ في بيوتهن"! أمّا "أهل الكتاب" أي ملايين المصريين غير المسلمين فلا يستحقّون إلا "التسامح"! غياب التماسك المنطقي في مشروع "النهضة" هو الذي أعاد سعيد العريان إنتاجه الموسَّع. أخذ من رشيد رضا نسخ جهاد الطَّلب، أي غزو العالم لإدخاله في الإسلام. لكنه لم يقتبس من عبده فتاواه الثلاث وأقل من ذلك اختراقاته في تفسير المنار، وخاصة منع تعدد الزوجات الذي هو أحد أسباب قنبلة الانفجار السكاني التي تعيق اليوم التنمية في مصر وتخل بتوازناتنا البيئوية والسكانية. فشل إعداد مشروع إصلاح ديني متماسك، وفشل تدريس وتطبيق بعض إنجازاته ترك فراغا مخيفا يملؤه اليوم الإسلام التقليدي والسياسي هذيانا دينيا غير مسبوق: من إرضاع الكبير إلى إعلان الجهاد على السياح والحكام في أرض الإسلام وضدّ أمريكا وأوربا والهند والصين وروسيا! آن الأوان لتدارك ذلك اليوم. أدعو القراء، والإعلاميين والمثقفين وخاصة المربّين للدخول في نقاش نزيه وثريّ حول هذا الموضوع. إصلاح الإسلام هو مفتاح إدخال العقلانية الغائبة إلى حياتنا وخاصة صناعة قرارنا التربوي. ديننا اليوم هو جزء من المشكلة وعلينا، بإصلاحه بمدرسة العقلانية الدينية، أن نحوله إلى جزء من الحلّ. وهو رهان ضروريّ وممكن في آنٍ.