فرضت قسوة الطبيعة على سكان الصحراء اعتماد نظام الرحل بحثا عن المرعى المناسب وأماكن المياه، وهو ما جعل من الخيمة المسكن الأكثر ملائمة لهذا النمط الذي يفرض على أهله الترحال بشكل دوري، ولم ينجح تغير ظروف العيش داخل أقاليم الجنوب، والتطور العمراني الذي شهدته المنطقة، في تغييب الخيمة عن الثقافة الصحراوية، وهو ما يجعل منها ملاذا موسميا للكثير من الصحراويين الذين يتركون بيوتهم الإسمنتية، ويشدون الرحال نحو الخيام خلال العطل والمناسبات، بينما تعكس نفس الخيمة بقاء الحال على ما هو عليه بين صفوف الرحل. الانتماء لثقافة الخيمة حاضر بقوة داخل اليوميات الصحراوية، وهو ما يمكن الوقوف عليه خلال العبارات المتداولة بين سكان المنطقة الذين تحيل كلمة الخيمة بينهم على البيت، أو الأسرة، لذا فإن الصحراوي عندما يسألك عن حال الخيمة، يقصد الأسرة، أما إذا أخبرك أن فلان استخيم، فهو يقصد أنه تزوج حيث أصبحت له خيمة خاصة كدلالة على بداية حياة أسرية خاصة به. نساء "لفزيك".. ينسجن الوبر والصوف على الرغم من بساطة شكل الخيمة، إلا أن صنعها يتطلب أشهرا طويلة، خاصة إذا كانت من الحجم الكبير. وتتولى النساء هذه المهمة التي تتم بطريقة جماعية تعمق من قوة العلاقات الاجتماعية التي تربط بين المنتمين ل"لفزيك"، وهو مجموع الخيام التي تبنى في مكان واحد. وتشكل صناعة الخيمة فرصة لتكريس الثقافة الصحراوية بين النساء، مثل تبادل الشعر الحساني، وتناول كؤوس الشاي على الطريقة الصحراوية، إضافة إلى تعلم بعض الصناعات التقليدية التي تعد ضرورية لتأثيث فضاء الخيمة. تعمل النساء على جمع صوف الغنم، ووبر الإبل، وشعر الماعز، وريش النعام من أجل اختيار الأجود منها، ثم تبدأ مرحلة "لغْزِِِيل" لتصنع خيوط طويلة من الصوف أو الوبر، ثم تبدأ النساء بعد ذلك في لمْحِيطْ" أي فرز الخيوط لتصبح أكثر تنظيما وترتيبا، لتصنع قطعة "أفليج"، التي تشكل الوحدة الأساسية التي تتكون منها الخيمة، حيث تعمل النساء على صنع مجموعة من هذه القطع التي تشبه المستطيلات التي يبلغ عرضها حوالي النصف متر، وطولها يتراوح ما بين 10 إلى 20 مترا، ، ومن الممكن أن يصل عددها إلى عشرة أو أكثر وذلك حسب مساحة الخيمة المزمع صنعها. "خيوط النيرة".. تجمع شتات "أفليج" بعد انتهاء النساء من نسج قطع "أفليج"، يتم خياطتها بواسطة "مخيط"، وهو عبارة عن إبرة كبيرة الحجم قد يصل طولها إلى 20 سم، وتستعين النساء ب" خيوط النيرة"، وهي عبارة عن خيوط تصنعها النساء من نفس الخيوط التي استعملت في نسج الخيمة، حتى تكون الخيمة متينة ومتماسكة. بعد خياطة أجزاء الخيمة التي استمر نسجها لأشهر، يتم نصبها خلال دقائق معدودة وذلك من خلال تجهيز عمودين قويين يتحملان وزنها الثقيل، يطلق عليهما إسم ال" ركايز"، اللذين يوضعان بشكل متعاكس فوق بعضهما البعض، ثم يتم شدهما بواسطة حبل قوي يطلق عليه اسم " لْحِِمِّارْ"، ثم يتم تثبيتها بواسطة مجموعة من الأوتاد، أو ما يصطلح عليه أهل المنطقة ال "لخْوالِفْ"، وتتخذ الخيمة شكلا مدببا من الأعلى يجعلها أقرب إلى المثلث، وهو ما يجعلها قادرة على مقاومة الرياح القوية، والزوابع الرملية، والأمطار القوية، إضافة إلى حماية أصحابها من الحرارة القوية… "ركايز" الخيمة .. تترجم علو شأن صاحبها يتحكم طول ال"ركايز" في علو الخيمة الذي يحيل على مكانة صاحبها، حيث يعمد صاحب الخيمة الميسور على أن تكون خيمته أكثر علوا ليتمكن عابر السبيل من رؤيتها، وهو ما يشكل دعوة مفتوحة تحيل على كرم صاحب الخيمة، واستعداده لاستقبال أي زائر في ترجمة فعلية لتشبع أهل الصحراء بقيم الكرم والضيافة، كما أن كبر الخيمة يحيل على مكانة صاحبها الذي يمكن اللجوء إليه من أجل فك بعض النزاعات، أو طلبا للحماية… وتتراوح مساحة الخيمة ما بين أربعة أمتار، و12 مترا ومن الممكن أن يبلغ ثنمها 20 ألف درهما، ويتوسطها باب يحرص أهل المنطقة أن يكون جهة القبلة، أو "الكَبْلَة" وفقا لنطق أهل الجنوب الذين لا يتخلون عن جانبهم المحافظ الذي تكشف عنه الهندسة الداخلية للخيمة، حيث تقسم إلى قسمين بواسطة قطعة يصطلح عليها اسم "البَنْية" التي تفصل بين الجزء المخصص للنساء، والجزء المخصص للرجال. وكما سبقت الإشارة فإن تجمع الخيام داخل حيز محدد يطلق عليه اسم "لفريك"، وهو تجمع متكامل يكشف عن هرمية العلاقة بين المجموعة الواحدة التي يكونها مجتمع الرحل التقليدي، حيث تتوسط خيمة الشيخ باقي الخيام، وإلى جوارها خيمة "لمْسِيدْ" التي يقصدها أطفال "لفريك" لتعلم أولى مبادئ اللغة، والفقه، والثقافة الحسانية…، إضافة إلى خيمة خاصة بالصانع تقليدي يعمل على إصلاح أغراض ساكنة باقي الخيام. سكينة بنزين