في آخر رسالة له قبل أن يرحل عن هذه الدنيا في فبراير 2008، خط الموسيقار المغبون مصطفى عائشة الرحماني إلى صديقه فرناندو دي أغريدا، المندوب الثقافي الإسباني السابق بفاس العالمة، هذه الصرخة الجريحة «إن العالم مقيد موسيقيا بطوفان من الضجيج المزعج، الذي يصم الآذان، ومن الإيقاعات الطرقية، وبموسيقى الآلات المعدنية الصاخبة. إنه تلوث صوتي يمزق حاسة السمع ويحرق الأعصاب، ويسبب الغثيان وألم الرأس». كان عمره 64 سنة حين رحل واسمه محفور في رخامة النسيان والنكران بوطنه المغرب، مضيء رنان في فضاءات الموسيقى الكلاسيكية بالعالم. ومنذ أن غاب طواه الصمت إلى أن أعادت سيرته الحياتية بكل جروحها وعزلاتها، ومشواره الفني بكل عنفوانه واختراقاته، إلى حيز الضوء الباحثة التطوانية سعاد أنقار في كتاب موسوم بعنوان مستوحى من اسم الراحل «العائش في النغم : الموسيقار مصطفى عائشة الرحماني». سيرة غيرية غنية بالبحث والاستقصاء طافحة بالشهادات الحية عن الراحل إنسانا وفنانا. فعلى مدار 130 صفحة من القطع المتوسط أفلحت كريمة الروائي محمد أنقار في رسم صورة قلمية دافئة تعكس توليفة من ملامح الموسيقار الراحل، الذي عاش غريبا في وطنه يلوك مشاعر الحسرة والإحساس بالغبن جراء اللامبالاة القاتلة التي استقبلت بها إبداعاته في بلده. ولعل وعيه الحاد بهذه الغربة ترك أثره عميقا على نفسيته. في رسالة إلى صديق عمره الشاعر عبد السلام مصباح كتب هذا البوح «إلى اليوم، وكما تعلم، لم أحظ بأن تُعزف ولو مقطوعة واحدة من مؤلفاتي الموسيقية، على الرغم من أني أمارس التأليف الموسيقي لوقت غير قصير. إني يا صديقي حالة خاصة في تاريخ الموسيقى. لا أظن أنه وجد مؤلف موسيقي لم يؤد إنتاجه أبدا. بديهي أن يقاسي الفنان من الفقر والمرض والإهمال والحرمان، ولكن ألا تعزف موسيقاه على الإطلاق فهذا لم يحدث لأي مؤلف موسيقي على ما أظن». ورغم أن هذا الطوق سيُفك على بعض إبداعات هذا المؤلف الموسيقي الكبير بدءا من عقد الثمانينيات من طرف عازفين مغاربة ودوليين إلا أن الناظر في ريبيرتوار إنتاجاته الموسيقية سيصطدم بحقيقة أن أغلب مؤلفاته لم يزل يقبع في عتمة الكتب التي تركها مزينة بخطه الجميل ومصانة باهتمامه الخاص في تجليدها وتزيينها بشكل جعل منها تحفا صغيرة تأخذ العين. أمر لا يبدو غريبا على فنان نذر حياته بالكل لفنه وكرس وجوده لعالم النغم والأدب والفكر. صورة تجلوها نضرة سعاد أنقار في هذه الأسطر «تجده دائما في المعهد الموسيقي، بيته الثاني، منكبا على تدوين أعماله. من الصعب جدا أن تراه جالسا في مقهى. يحب العمل الدؤوب المتواصل، ويكره الأضواء وبريق الشهرة. ذو نزوع متمرد، وصوت منخفض، وطباع هادئة. يتقن اللغتين العربية والإسبانية. يعز الكتاب إلى درجة قصوى، ويعمل على الاحتفاظ بكل قلم كتب به وإن انتهى مداده. عاش سنوات من العوز والمعاناة، ومع ذلك لم يتجه إلى جمع الثروة والمال، بل سعى إلى الفن ونشر بعض أعماله في صمت وإصرار». وزعت الباحثة مواد كتابها على ثلاثة أبواب. الأول يحمل عنوان : بداية ونهاية، ويرسم صورة عن حياة مصطفى عائشة الرحماني منذ مولده إلى رحيله. كما يتطرق إلى تكوينه الموسيقى الذي بدأه وعمره 12 سنة إلى أن صار واحد من أكبر المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين في العالم، والمؤلف العربي الوحيد الذي اختير مرتين كأبرز مإلف موسيقي في اللائحة الدولية الممتدة من 1985 إلى 1999، ثم 2004. الباب الثاني خصصته الباحثة، وهي إلى جانب تكوينها الأدبي متخصصة في الموسيقى الكلاسيكية ودرست على الراحل الذي كان صديقا حميما لوالدها، لدراسة بعض الأعمال التأليفية لمصطفى عائشة مثل «الموسيقى الجبلية في مقطوعة : أغنية – رقصة»، و«التوتر في شريط : الأندلس ذكريات» و«تنويعات الأحلام والصور في : ثاثة مشكالات» و«الموسيقى الأندلسية والموسيقى الغربية في : غراميات في حدائق الأندلس». فيما ضم الباب الثالث ببليوغرافيا توزعت بين التآليف الموسيقية والقصصية والمسرحية والترجمية للموسيقار الراحل. لقد لحن مصطفى عائشة لشعراء كبار في طليتعهم بابلو نيرودا وأنطونيو ماتشادو وفيديريكو غارسيا لوركا وطاغور وابن زمرك وابن الفارض وجبران خليل جبران ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي وسعيد عقل ونازك الملائكة. وقد كان لقاؤه بالسوبرانو سميرة القادري عام 1996 لحظة مضيئة في مشواره الفني إذ سترى كثير من أعماله الأساسية النور فاتحة له الطريق إلى شهرة عالمية أوسع لم يوازها إلا جحود مغربي بئيس.