ارتأيت اليوم أن أقتبس نصيحة من رسائل، الفيلسوف أرسطوطاليس، لتلميذه الملك إسكندر المقدوني، المعروف ب«ذي القرنين». والباعث على هذا الاختيار ثلاثة أمور: 1-تَمثل البيان السياسي للمجلس العلمي الأعلى حول الإصلاحات الدستورية، «الإمامة العظمى» من منطلق «السياسة الشرعية» للكتابات الأصولية، وليس من منطلق تراكم الكتابات السياسية، والأحكام والمناقب السلطانية في تراثنا السياسي. 2 -تَمثل رموز الأصولية للديمقراطية في الحقل الديني، كآلية لمحو السيادة المذهبية للبلاد، واختطاف مؤسساتها الدينية، وقد رأينا مثلا، كيف أن الأستاذ أحمد الريسوني يحرض على بلقنة الحقل الديني، وكيف أن الأستاذ مصطفى بنحمزة يضفي المشروعية على التيار السلفي الوهابي، ليجعل منه-إلى جانب إخوانيته- مشروعا مجتمعيا. 3 – سعي الأصولية إلى سرقة الأفق الديموقراطي لحركة 20 فبراير، فانفرط بفساد معتقد الأصولية هذا، عقد «الكتلة التاريخية»، على الأقل في انتظامه الشبابي، وهي الكتلة التي نَظر لها المرحومان، الأستاذ محمد الفقيه البصري والأستاذ محمد عابد الجابري، لنجد أنفسنا مجددا أمام شعار : لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين. لذلك أدعو إلى قراءة هذه النصيحة بمنظار سيدنا علي كرم الله وجهه، لما قال: «لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله». بهذه المنهجية سنتحفظ على ذكر هوية المعتقدات الواردة في هذا المتن، فزماننا – كما نريده زمن تعايش الجميع – هو في غنى عن استعادة نفس شحنات صراعات ماضي الملل والنحل، لكنه في حاجة-وهو ينتصر لمفهوم المواطنة- إلى إخضاع السلوك الإنساني للتحليل بمعزل عن نزوع الاستعلاء. وفي هذا السياق يأتي فصل الدين عن السياسة. يقول أرسطوطاليس فيما نُسب إليه: «ولا تشاور في أمرك يا إسكندر ولا تستوزر من ليس من الإلهيين المعتقدين الربوبية، ولا تثق من الإلهيين، إلا بمن يدين بناموسك ويعتقد شريعتك. واحذر أن يعتريك ما اعترى الرجلين اللذين ذكر أنهما اصطحبا في طريق، أحدهما (على معتقد) والآخر (على معتقد آخر). وكان (الأول) راكبا على بغلة، قد رباها على خلقه، وعليها كل ما يحتاج إليه المسافر. و(الثاني) راجل ليس معه زاد ولا أثاث. فبينما هما يتحدثان، إذ قال (الأول للثاني) ما مذهبك وما اعتقادك؟ فقال (الثاني): أعتقد أن في السماء إلها، وأنا أعبده، وأريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي. وأعتقد أن كل من يخالفني في ديني ومذهبي، حلال دمه وماله وعرضه وأهله وولده، وحرام علي نصرته ومذهبه ونصيحته ومعاونته والرحمة له والشفقة عليه. ثم قال (الثاني للأول): لقد أخبرتك بمذهبي واعتقادي، فخبرني أنت عن مذهبك واعتقادك؟ فقال (الأول): أما اعتقادي وديني، فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي، ولا أريد لأحد من خلق الله شرا، لا لمن هو على ديني، ولا لمن خالفني. وأعتقد الرفق بكل حيوان ولا أرى شيئا من الجور، وأرى أن ما يصل إلى الحيوان كله من الآلام يؤلمني ويؤثر في نفسي، وأود أن الخير والعافية والصحة والمسرة تصل إلى جميع الناس كافة. فقال (الثاني):وإن ظُلمت وتُعدي عليك؟ فقال (الأول): أعلم أن في السماء إلها خبيرا عادلا حكيما، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم ويكافئ المسيئين بإساءتهم. فقال له ( الثاني): ما أراك تنصر مذهبك، ولا تحقق اعتقادك. فقال له ( الأول): وكيف ذلك؟ قال: لأني من أبناء جنسك، وأنت ترى أني أمشي راجلا تعبا جائعا، وأنت راكب شبعان مرفه. قال: صدقت، فنزل (الأول) عن بغلته وفتح سُفرته وأطعمه وسقاه، ثم أركبه البغلة. فلما تمكن (الثاني) من الركوب واطمأن، غمز البغلة وهمز بها بعقبه وحرك عليها ومضى وترك (الأول) يصيح: ويحك ارفق بي لئلا أََهلك في هذه المفازة وأموت جوعا وعطشا. و(الثاني) يقول له: أليس قد أخبرتك عن مذهبي؟ وجعل يحرك البغلة ويزيد في سوقها، و(الأول) في أثره، وهو لا يلتفت إليه ولا يحنو عليه ولا يعبأ بكلامه حتى غاب عن نظره. فلما يئس (الأول) منه، ذكر تمام اعتقاده وما وصف له بأن في السماء إلها عادلا، لا تخفى عليه خافية من أمر من خلقه. فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا إلهي قد علمت أني اعتقدت مذهبا ونصرته، ووصفتك بما سمعت، فحققْ عند (الثاني) ما وصفتك به. فما سار (الأول) إلا قليلا، حتى رأى (الثاني) قد رمت به البغلة فانقدت ساقه وعنقه، والبغلة واقفة بالبعد منه. فلما تحقق (الأول) أمره ولحق به، تكلم فميزته البغلة وحنت إليه، لما عهدته من رفقه بها. فركبها ومضى لسبيله وترك (الثاني) يقاسي الجهد ويعالج الموت. فناداه (الثاني): ويحك يا (أول)، أنا الآن أولى بالرحمة مني من قبل، وأنا الآن بُضعة ملقاة فارحمني وانصر مذهبك الذي قد نصرك وأظفرك. فجعل (الأول) يعاتبه. فقال:لا تعاتبني على شيء أعلمتك أنه ديانتي ومعتقدي، ومذهب نشأت عليه ووجدت آبائي وأشياخي يعتقدونه. فرحمه (الأول) وحمله حتى جاء به إلى المدينة، ودفعه إلى أهله مكسورا...». لن ننشغل في هذه النصيحة برسم منحنى شخصية المستشار والوزير المفترض، بل تهمنا فيها -ونحن نقف على العدل الإلهي- صورتها المصغرة للاجتماع الإنساني بتعالي المعتقدات ، وهي الصورة التي تدعونا إلى اليقظة من مشاطرة الفعل/ النضال المشترك مع من قناعاته السياسية في استعلائها العقدي تستبطن التنصل من كل التزام مع الآخر، بل وتبرر استدراجه والتحايل عليه، فأي أفق مثلا، لسعي البعض، في انتقاله من حواره مع من يسميهم ب«الفضلاء الديمقراطيين»، إلى العمل معهم في الشارع، بهذا الأسلوب المخادع؟ ومع ذلك يحدونا الأمل في أن ترتقي علاقات المكونات الوطنية إلى آفاق تتجاوز حسابات المواقع الظرفية، (ومن يجرؤ على القول، إن حسابات الأصولية ظرفية؟)، إلى آفاق تجعل من بناء المؤسسات ضمانة لحقوق كافة هذه المكونات. لذلك تحملنا نصيحة أرسطوطاليس على استحضار الإمام الغزالي لما قال: «اختلاف الخلق حكم ضروري وأزلي». وهذا الاختلاف بقدر ما يحتاج إلى موازين عقلية لضبط مفاهيم التواصل الإنساني، يحتاج بالقدر نفسه إلى موازين قانونية ومؤسساتية، لتنظيم مختلف مستويات العلاقات العامة، وكل هذا يحتاج إلى مناخ مغاير ،لا مجال فيه لوسواس المهدوية ، ولا لنزوع ولاية الفقيه سنية كانت،أو شيعية. وعلى الله قصد السبيل.