برحيل مرشدها العام عبد السلام ياسين، تواجه جماعة العدل والإحسان سؤال الخلافة ومستقبل السياسة. فطيلة الفترة التي قضاها ياسين على رأس الجماعة التي حكمها بقبضة من حديد، طبع قناعات مريديه ومواقف جماعته بمزيج من الصوفية والراديكالية السياسية المشبعة بالغيبيات، حتى أنها كثيرا ما كانت مثار سخرية الكثيرين وهي تتحدث عن قرب حدوث القومة المؤدية إلى نظام الخلافة بناء على رؤيا لشيخها في المنام. في الواقع أسس ياسين جماعته على نبذ القيم الديمقراطية والمفهوم الكوني لحقوق الإنسان، كما راهنت جماعته على إسقاط النظام في المغرب لتعيد إنتاج التجربة الإخوانية في مصر وتونس. لكن رحيل الشيخ المؤسس، يطرح السؤال عما إذا كانت الجماعة ستزداد تطرفا أم أنها ستميل أكثر نحو الواقعية السياسية وتختار الوضوح في تبني الديمقراطية والعمل من داخل المؤسسات، وقبل ذلك سيكون عليها أن تجيب عن سؤالها الآني: من يخلف عبد السلام ياسين ؟ «كانوا ثلاثة رفاق، محمد العلوي وأحمد الملاخ والشيخ عبد السلام ياسين، أمضوا الليالي الطوال في تحضير رسالة تناهز صفحاتها المائة، طبعوها على آلة طباعة يدوية عتيقة، وبعد إرسال نسخة منها إلى الديوان المكلي ذهب الشيخ لشراء كفن حضره بنفسه في حقيبة وجلس في انتظار قدره» مقدمة قصة رسالة المرشد «الإسلام أو الطوفان» إلى الراحل الحسن الثاني، هي أول ما يحكى لأتباع جماعة العدل والإحسان الجدد في حلقات التأطير بين صلاة المغرب والعشاء، وهي أيضا جزء من نوعية عقله السياسي الموغل في التشدد والغيبيات، ومهما يكن من أمر لن تبقى المقدمة بذات الصيغة، وسيضاف إليها مايفيد أن عبد السلام ياسين قد غادر إلى دار البقاء بعد ما أعياه المرض عن سن تناهز السبعة والثمانين سنة. صبيحة أمس الخميس، أعلن بلاغ لمجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان عن وفاة زعيم الجماعة عبد السلام ياسين عن عمر ناهز 87 سنة بعد أيام عن تسرب أخبار من الجماعة عن تدهور حالته الصحية، رحلة طويلة لرجل عاش منذ صغره حياة مليئة بالأحداث قرأ لعلمين من أعلام المادية (فرويد وماركس) فانتهى إلى الطرقية، دخل الزواية البودشيشية مريداً، ناصب الملكية العداء فوجه رسائله إلى الملك شخصياً، ومن الإقامة الجبرية خرج متزعماً لأكبر جماعة أصولية في المغرب، تعلن مطلق العداء لقيم الديمقراطية، ولاتخفي حنقها ومقتها لقيم الحداثة والتقدم والعقل. بل إنها لاتتردد في الاغتيال الجسدي والرمزي لنشطاء في الجماعة عارضوا الشيخ أو أبدوا امتعاضهم من استبداده وجبروته. ياسين الذي كتب، ذات مرة يصف حاله قائلا: «كانت العقلانية الماركسية الفرويدية مرتعاً لنشاطي الفكري منذ أمد بعيد، تعيش بل تعشش في ذهني، قبل أن يأخد علي العهد الصوفي مقدم الطريقة»، ولد في مراكش سنة 1928، حيث تلقى دروسه التعليمية الأولى في مدرسة أسسها الشيخ محمد المختار السوسي، ثم تخرج بعد أربع سنوات من الدراسة في معهد ابن يوسف ليلتحق عام 1947 بمدرسة تكوين المعلمين بالرباط. عمل في سلك التعليم لمدة 20 سنة تدرج خلالها في مجموعة من المناصب التربوية والإدارية العالية، ومثل خلالها المغرب في عدد من الملتقيات الدولية. لكن، الرقي في التعليم، والاستفادة من ثقافة الخارج وحضارته، لم تفده في أن يكون رجل نضال من أجل الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، على العكس من ذلك، جعلته الشخصية الأكثر عصبية تشددا في مغرب العقود الثلاث الماضية. التحق بالزاوية البودشيشية عام 1965 متتلمذاً “مع ثلة من المريدين” على يد مؤسسها العباس البودشيشي الذي كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب فضلاً عن كونه حلولياً (أي يؤمن بأن الله يحل في بعض خلقه، وأتباعه يعتقدون أن الله تعالى يحل في شيخهم؛ فيخرون عند ذلك للشيخ سجداً، ويقولون: هذا الله). في وقت مبكر من سنه وعمله السياسي، يكشف عبد السلام ياسين عن نزعته الانقلابية وميله إلى الزعامة مهما كان الثمن وكذا ادعائه امتلاك مطلق الحقيقة والصحيح من الأمور وبالتالي استحقاقه للمشيخة. فبعد وفاة البودشيشي طمع ياسين في القيادة ورأى أن الزاوية بدأت تسودها بعض المظاهر التي رآها تُفْقِد الطريقةَ ما يصفه ب «روحَ التصوف» مُبقية على شكلياته، فتركها، وهو ما أرجعه بعض منتقديه إلى رغبته في زعامة الطريقة التي آلت إلى حمزة نجل مؤسسها بعد وفاة العباس. بالإضافة إلى قدرته على الجمع بين المتناقضات، المعارضة السياسية من خلوات الصوفية، المزج بين الطرقية والحركية والتنظيم في كيان واحد. كانت للراحل قدرة كبيرة على التأثير في مخيلة أتباعه التي تجسد فيها كولي من أولياء الله، يجالس ويشاهد الرسول «ص» ويرى الملائكة، وهي الحكايات التي يتناقلها أتباعه عنه ويروجون بها لأفكاره. زعيم «الحركة الياسينية»، على حد وصف حسن الأحمدي في كتاب يحمل نفس العنوان، بلغ تأثيره في أتباعه حد قولهم بأن الرسول يتجلى فيه، مستندين إلى أحلام ومنامات يرونها، مستدلين في أخذ علمهم من المنامات والأحلام للقاعدة الصوفية (حدثني قلبي عن ربي). إيمانه بالغيبيات كمؤسس لقيادته السياسية، جعله لايطيق وجود مخالفين له في الرأي، فحتى حين دعا «الفضلاء الديمقراطيين» للحوار، كان هدفه دعوتهم للتوبة، بل إنه لايتردد في مهاجمة من ساندوه في محنه كما فعل مع الاتحاد الاشتراكي سنة 1996، ونفس الموقف سيكرره مع الملك محمد السادس، الذي رفع عنه الإقامة الجبرية، فجعله لاحقا هدفا لهجماته السياسية المشبعة بسذاجة التحليل وتخلف المنطلقات والأهداف.