سترته الجلدية الحمراء يرتديها في العديد من المناسبات كانت موضوعة دون ترتيب فوق ركبتيه. جلس في الصف الأمامي. وكان من ضمن الأوائل، الذين جاؤوا ذاك السبت الرمادي إلى مقر هيئة المحامين بالدارالبيضاء. المقر الكبير، لكن البارد المستوطن بالغبار .. وكأن لا يد تنتظم على نفضه، لابد أن تكون قد تفاجأت أركانه بهذا الحضور الأميري غير المتوقع. مولاي هشام، ابن عم الملك محمد السادس، حرص على أن يحضر حفل تأبين صديقة له صحافية هي الراحلة لطيفة بوسعدن. وحرص أيضا على ألا يطغى حضوره ويشوش على مجريات الأمسية المصادفة للأربعينية، والتي نظمتها مجلة “وجهة نظر”، التي ملأت كتابات ومساهمات الراحلة صفحات بعض أعدادها، ومنظمة “حاتم” لحرية الإعلام. بكل تواضع، جلس الأمير على كرسيه جلسة هادئة ومتأملة لما يروج أمامه بالقاعة. عاين التحضيرات السابقة لحفل التأبين : تحضيرات تقنية بالأساس من قبيل تجريب تشغيل الحاسوب، تشغيل آلة عرض الصور، وضع اللافتة المعلنة لطبيعة النشاط، وضع الميكروفون الموصل إلى مكبرات الصوت المتوفرة بالقاعة... وهو يعاين التحضيرات جلوسا، كانت القاعة تمتلئ بالأوفياء لذكرى لطيفة، الذين تمكنوا من التملص من ارتباطات زوال السبت، وهي عادة ما تكون ملزمة للعديدين. ”هل صحيح أن الجالس على الكرسي الثالث، يمينا في الصف الوسط.. هناك ..هناك على يسار مدير نشر “وجهة نظر”، عبد اللطيف حسني هو الأمير مولاي هشام؟”، سؤال هامس تردد على بعض الألسن، سيما على ألسن من حضروا متأخرين وجلسوا في الصفوف الخلفية وأخذهم الفضول لمعرفة من حضر ومن لم يحضر.. “بكل تأكيد” يرد المتيقنون من هوية الرجل. ومن لم ينتبه للأمير لم يسأل عنه بل جلس ينتظر بشيء من التأفف انطلاقة متأخرة لفقرات الحفل.. طفلان، بنت وولد، من أقرباء لطيفة بوسعدن، ملآ المكان حركة وجلبة، وهما يجريان في الرقعة الصغيرة الفاصلة بين الصف الأمامي من الكراسي، التي يجلس على إحداها الأمير، وبين المنصة، التي سيقف وراءها المتدخلون من أصدقاء وزملاء لطيفة بوسعدن لإلقاء كلمات حضروها بالمناسبة. المكان يمتلئ. القادمون هم في غالبهم زملاء في مجال التكوين الأكاديمي للطيفة بوسعدن.. باحثون ودارسون للعلوم السياسية وبعض الفاعلين السياسيين من مثل محمد الساسي وعبد العزيز كوكاس وبعض الحقوقيين.. الغائبون، وبشكل ملفت، كانوا هم الصحافيون، سيما من واكبوا اقتحام زميلتهم الراحلة للمجال مع بداية تشكل صحافة مستقلة هادفة إلى تشكيل رأي عام والمساهمة في التوعية بعيدا عن الإيديولوجيات الحزبية.. الأمير مولاي هشام، أنصت للكلمات، سمع لقصيدة شعرية من نظم وإلقاء الشاعرة فتيحة أعرور، ولمعزوفتين شجيتين على آلة الناي الحزينة.. قبل أن يترك الكرسي، ويكشف لغير المصدقين عن شخصه وهو يقف وراء المنصة ويلقي كلمته. كان آخر المتدخلين. حضَّر لوقوفه هذا، الذي دام بضع دقائق، أربكت الحضور المتفاجئ بداية لكنها سرعان ما غمرته بإحساس الإعجاب والاستحسان لبادرة طيبة من أمير علوي يقال عنه الكثير ويثير الجدل.. في ختام الأمسية، ترك الأمير نفسه طوعا لمن يرغب في أخذ صورة تذكارية معه، وضحك لهمس البعض، وتأبط سترته الجلدية الحمراء قبل أن ينزل أدراج الطابق الأول من مقر هيئة المحامين باتجاه الباب الموارب، ويغمره ظلام دامس بشارع المقاومة ، الذي يعرف أشغال الترامواي والنفق.. أمير “أحمر” مرَّ من هنا..