تغير البُنى المعرفية، يحيل إلى علاقات معرفية جديدة، لا تتمركز، بالضرورة، في صورة المثقف الموسوعي، الفاعل، واسع الإطلاع، أو بتعبير غرامشي المثقف العضوي، فإمكانية تحديد الوسائط المعرفية في مجموعة وسائل محددة، ولا يمتلكها الجميع، أصبحت مع هذه البنى أمر غير ممكن التحقق نهائيا. كان الكتاب، والتلقين المباشر من أستاذ إلى تلميذ، أو من شيخ إلى مريد … أهم وسيلتين خارجيتين لتحصيل المعرفة، ما جعل دائرة العارفين -ليس بالمفهوم الصوفي وإنما إرتباطا بالمعرفة- ضيقة، كانوا حاملين للمعرفة، وكانوا المتكلمين بها، يتم إنتاجهم قصد إعادة إنتاج المعرفة نفسها، وعدم توافر هاتين الوسيلتين للجميع، بل عدم توافرها للأغلب، أسهم في تأسيس احتكار معرفي، جعل صورة المثقف بارزة، وواضحة للجميع، وجعل تأثيره بارزا، ومغيرا للسلوكات العامة، ومسهما في تأسيس نسق فكري جمعي … الحال هذا تغير تغيرا جذريا، مع دخول وسائط معرفية متعددة، وغير محصورة في فئة ما … وسائط تقانية مساعدة على التلقي السهل للمعلومة، وللفكرة، وللخبر؛ القنوات التلفزية كمثال لوسائط المعرفة التقانية الحديثة، عبارة عن كتب مصورة، بإمكانها أن تكون كتبا رديئة، أو بإمكانها أن تكون كتبا جيدة، لكنها في كلا الحالتين تسهم في بلورة الوعي المعرفي للمتلقي ، فبالإمكان مشاهدة تلخيص لنظرية علمية اشتغل عليها صاحبها مدة سنين طويلة، وبالإمكان تلخيص الخطوط العريضة لكتاب فكري عميق أرهقت كتابته صاحبه، وبالإمكان الاستماع لأكثر من تحليل خاص بقضايا سياسية ذات طابع دولي … إن هذا التكثيف يسهم في تأسيس مثقف بصفات مخالفة للمثقف السابق؛ أولا: تتقلص علاقته بالكتاب إلى حدودها الدنيا، وفي أحسن الأحوال، يكون على اتصال بتلاخيص تلاخيص أمهات الكتب. ثانيا: تتأسس ثقافته على السماع أكثر، مما يجعل علاقته باللغة متوترة، لا يعرف منها إلا ما يساعده على إيصال فكرة، تفهم بشكل جيد من طرف المتلقي . ثالثا: لا ترتبط ثقافته بالبعد الأممي، فهي تظل محصورة في دائرة الوطن، أو القومية اللغوية، أو الدين … رابعا: تنتفي عضويته في الغالب بسبب الإقتناع الشخصي بلا جدوى دوره الإجتماعي. إن الصفة الرابعة حددت الإطار العام الذي بات يتحرك فيه المثقف الحالي، فمع وجود فاعلين أكثر تأثيرا في الواقع، بات اقتناعه جازما بمحدودبة دوره، بل بانعدام دوره نهائيا، وانحصاره، فقط، في فعل الكتابة، والنقاش، وتأسيس صالونات أدبية وفكرية نخبوية . إنحصار دور المثقف في البنى المعرفية الحديثة، والتي أصبحت تضم وسائط معرفية متعددة للتحصيل المعرفي، يزداد وضوحا، حين يكون النسق العام للمجتمع مُقصي لموضوعة المعرفة، ولا يضعها إلا في هوامش التدبير والتسيير الجماعي. هنا، وموازاة مع الإحساس الجمعي للمثقفين بلا فاعليتهم، يصير مفهوم المثقف متلاش أكثر، وغير واضح؛ فمن هو المثقف؟ وما دوره في مثل هذا النسق ؟ وهل يحتل صفحات الإعلام مثلما يحتلها نجوم الغناء وكرة القدم…؟؟. لقد دلت الاحتجاجات التي شهدها العالم العربي، على غياب تام للمثقف العربي، المتواري وراء كتاباته المتخيلة، أو حتى المتواري وراء كتاباته الواقعية … في أحسن الأحوال ساهم المثقف العربي عن بعد في هذه الإحتجاجات، وبعد مدة من قيامها، كتب عنها، وكتب فيها، حلل وناقش …لكنه لم يكن أبدا مثقفا عضويا فاعلا، لأنه لا السياق العام للمجتمع، ولا بنى إنتاج المعرفة الحالية، ولا إحساسه بلا فاعليته، تسمح له بذلك … وإن كان قد شارك عمليا، فهو كان مواطنا، أو كان منخرطا في هيئة، أو كان عضوا في حزب سياسي … ولم يشارك بصفته الثقافية أبدا . إن ما بقي من المثقف، يسمح للا مثقف، ويسمح لشبيه المثقف، ويسمح لمدعي الثقافة، بإحتلال، أو -لنقلها بكل وضوح لمعناها القوي – بإستعمار القطاع الثقافي إداريا وتسييريا، وتعنكبه -كأسوا العناكب السامة – في النَفس الفكري للجماعة، مستعملا ،لإظهار بزوغه الثقافي الزائف، الوسائط المعرفية الحديثة، والمتعددة، والتي سهلت معطى سرقة الثقافي، لكنه في العمق يظل خاويا على عروشه، لا يفقه إلا ما فقه فيه. غياب المثقف ليس ذا طبيعة كوسموبوليتانية -كونية، فرغم انتشار الوسائط المعرفية كونيا، إلا أن للأنساق الاجتماعية دور بارز في غيابه، فهو مثلا مازال حاضرا في حواضر اللغة الإسبانية، رغم وسائطها المعرفية المتعددة، ومازال حاضرا في بلدان هي من أنتجت هذه الوسائط … إنه يغيب عندنا، فقط، ولايبقى منه شيء.