الغتيري بعمله الروائي الجديد الذي يقترحه على قرائه يكرس صوته السردي المتميز والماتع، والذي يتطرق إلى تيمات مختلفة وراهنة في كل عمل، مراهنا على التنوع الضروري الذي يشف به. وهو ذاته الروائي الذي أثرى المكتبة السردية بروايات : رجال وكلاب 2007، وعائشة القديسة 2008، ليلة إفريقية 2010، رقصة العنكبوت 2011، وعلى ضفاف البحيرة 2012، فضلا عن مجاميعه في القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا. تستقل بنية النص الإبداعي عن النسق التاريخي مهما أحالت عليه أو بدت أنها تطابقه، فالقوة التخييلية التي يحوزها العمل الإبداعي تجعله حافا بخاصية المشابهة لا المطابقة، لكنه تشابه مضلل، مخاتل، يرمي إلى تحقيق الألفة المنتجة مع الذات القارئة، وهو إنتاج يسفر عن تأويل محلي طبعا، وممدّد(بكسر الدال الأولى) هو أساس الفعل القرائي. وهذا التصور تجسد بشكل كبير في الدارسات ما بعد – الحداثية ، خاصة التاريخية الجديدة أو التحليل الثقافي، التي أصل لها أستاذ جامعة بيركلي كاليفورنيا ستفين غرينبلات في مطلع الثمانينيات، والذي يؤكد « أن النص الإبداعي يتضمن بداخله سياقه الذي أنتجه لذا فهو يقدم صورة للثقافة كتشكيل معقد»[1]. ومنه فإن التاريخ كبينة مستقلة ليس كيانا متجانسا من الحقائق التي يمكن أن تكون مرجعا وحيدا لقراءة العمل الأدبي كما هو النقد التاريخي أو الماركسي في حالتهما الكلاسية ما قبل البنيوية، بل إن النص الأدبي يقدم نفسه كمركز متفاعل يُضَمّن بنية ثقافية باذخة تستفز القارئ فتجعله إما في حال تعارض أو اتفاق معها استنادا إلى طبيعة الأيديولوجيا التي يعتنقها أو الترسبات الجمالية التي يدين بها. هذا الرهان في استقلال بنية النص الأدبي يكاد يكون هاجس الكتّاب جميعا، بخاصة كتّاب الأعمال السردية، لكونها ترتبط إلى حد قصّي بالواقع، الذي تسعى إلى تشييد شبيه منه مثيل، ومتعال عن إشراطاته في الوقت نفسه. ذلك التعالي الذي يضمن حركية النص الإبداعي ولا زمنتيه؛ في مقابل راهنية وزمنية الحدث التاريخي. وهو القصد الذي تسعى إليه رواية « ابن السماء» للقاص والروائي مصطفى الغتيري، والصادرة سنة 2012 عن دار محاكاة ومنشورات النايا بسوريا. إذ ترمي علامتها الكبرى إلى تفكيك البنية التاريخية المغربية تفكيكا تخييليا، مستثمرة الإمكانات الغنية التي يتيحها الفنطاستيك، الذي استندت إلى علاقاته المربكة والباذخة لنسج برنامج سردي محكم، تنتقل فيه الذات ( ابن السماء) من عوالمه العجائبية الخارقة إلى الواقع الحقيقي بكل إشراطاته وحتمياته وقوانينه القهرية (هو واقع تخييلي في جوهره). السينوبسيس : ابن السماء هو الذات الرئيسة، التي كانت تعيش في السماء الدنيا مع الأرواح الطيبة التي تصّعًّد هناك. ولأنه لم يستطع أن يتوافق مع سكان السماء بسبب أفكاره المتطرفة التي تشوش على صفائهم وعلاقاتهم الآمنة، وصمتهم الحافل بالحكم. فقد كان الأمر الإلهي حاسما برده إلى الحياة الدنيا، ورميه – عاريا من ماضيه ومن كل ملبس – في لجة بحرها الشديد الأنواء. حيث سينقذه بعض البحارة ويذهبوا به إلى الشط، الذي سيكون المنطلق إلى القرية بوصفها الفضاء الأوكد لجميع الأفعال السردية الإجرائية التي ستنجزها الذات الرئيسة لتستكشف تلقائيا الحكم الكامنة وراء إعادتها إلى عالم الإنسان، خاصة في هذه القرية التي سيتعرف فيها على فتاتين كانتا تستسقيان، ليحاول مساعدتهما فيجر عليه وابلا من غضب رجال القرية الواقفين قبلهما والذين أشبعوه ضربا ولطما وتنكيلا. يثير ذلك تعاطف الفتاتين فتأخذانه إلى منزل والدهما العجوز، ويكون ذلك مقدمة لزواجه من البنت الكبرى ( لؤلؤة) بمباركة من الوالد الذي كان يحتاج من يساعده، وبتدبير ماكر من (سلمى) البنت الصغرى. وهو الزواج الذي كان منتظرا أن يحمل معه الاستقرار لابن السماء: هذا المتنقل أبدا من حال إلى حال، ومن رأي لآخر، غير المطمئن لجلال أي فضاء، والباحث مطلقا عن حقيقة هاربة. لكن ابن السماء – استجابة لماهيته المتقلبة – سوف يبدأ رحلة جديدة بعد أن رأى في منامه زوبعة عظيمة حملته إلى أعلى ورمته في غياهب نهر عظيم، أنقذته منه يد مجهولة، قبل أن يرى قبة مزينة فوق جبل كبير، ويناديه هاتف لكي يصعد إليه. ولأنه قادم من عالم السماء فإنه كان يعرف أن ما رآه في منامه رؤيا تضّمن حقيقة ما، وتستضمر القيام بإنجاز معين يكون له أثر على حياته، إنجاز له ارتباط عضوي بحكمة إعادة بعثه إلى الحياة الدنيا. ولقد تكلفت لؤلؤة بتأويل رؤياه وأشارت عليه بأن يتوجه صوب مقام الولي الصالح ( مولاي بوشعيب ) القريب من القرية، لعله يجد خاصته هناك؛ لكن رحلة ابن السماء التي انطلقت ليلا ستتوج بعودته – دون أن يدرك ذلك – إلى القرية حيث مستقر زوجته وصهريه. سيدي الساكت والتأسيس للجهل المقدس: لؤلؤة التي كانت تمني النفس فقط بحياة هانئة مع زوج بصفاء ابن السماء يجعلها تستقر، ستشهد شخصيتها تحولا عميقا حين تسيطر عليها فكرة ماكرة، مفادها استغلال زوجها، لتجعل منه وليا. خاصة لما لاحظته من امتلاكه لمقومات متفردة تزيد من غرابته وتجعله إنسانا مختلفا: ومنها تأمله المستمر، صمته الدائم، صفحه التليد، جنوحه نحو الصفاء والوحدة، ونأيه عن الملذات…، وهي صفات تليق بقديس سماوي أو ولي صالح، لذا سارعت إلى بناء قبة على قمة مرتفع تملكه الأسرة، مستنفرة مطلقَ ما تلقفته من حبائل لتعرف أخبار نساء القبيلة وأسرارهن، لتستغلها فور قدومهن للاستشفاء عند ابن السماء. وتدعي بعدها أنها تتأولها من همهماته الدائمة التي يستجلب بها الأفكار من عوالمه الغيبية الخاصة، ومنها جاءت تسميته بسيدي الساكت دلالة على إغراقه الطويل في الصمت، الذي ترشح منه كل الحكم الخفية. تعرض الرواية كيف تتالت نجاحات شخصية سيدي الساكت، وكيف وجدت هوى عميقا في نفوس نساء القرية وأهلها جميعا. والذي بلغ درجة كبرى من التقديس الناجم عن اعتقاد راسخ بكرامات موهومة، وقدرات سماوية خارقة لا قبل لهم بمجابهة سطوتها الجبارة، كما استثمار الإيحاء القوي، وتغذية خيال الناس بحكايات غريبة وعجيبة تتكلف بنسجها لؤلؤة العارفة بحجم التأثير الذي يمارسه الإيحاء وهي المطلعة على البنية السيكولوجية لبنات جنسها خاصة، لذا كانت تنتبه إلى أكثر الاكسسوارات دقة لتغذي أسطورة سيدي الساكت في النفوس التي صارت تقدس كراماته. سيدي الساكت إذن هو نتاج امرأة شديدة الحذق والدهاء والمكر. هي لؤلؤة التي حملت من ابن السماء بابنها إدريس، ثم بعد ذلك سفاحا بابنة أخرى دللتها واسعا، هي نفسها المرأة الحديدية التي صارت من أصحاب السطوة والثروة، والمتوافقة مع سلطة المخزن إذ ذاك لتحقيق هالة جبارة لضريح سيدي الساكت، في مقابل أن تكون عينه على حركات وسكنات أفراد القبيلة. وكان من نتائج الاتحاد بين السلطة المادية المخزن والسلطة الرمزية الهادرة للجهل المقدس المتولد عن الإيحاء القوي لأسطورة سيدي الساكت أن استطاعت لؤلؤة وأسرتها الانتقام من أهل القبيلة التي اضطهدتهم قبلا، ومراكمة ثروة عظيمة خاصة بعد أن فاضت روح ابن السماء وعادت إلى السماء الدنيا بعد أن تآمرت عليه زوجه معتقدة في هلاكه تكريسا أكبر لأسطورته. ثم استطاعت أن تنسج علاقات قوية مع المستعمر الفرنسي الذي حل في المغرب بعد توقيع معاهدة الحماية، خاصة أن ذلك توافق مع مخططه الرامي إلى إذكاء النعرات القبلية بجعل القبائل تحس بخصوصيتها في محاولة لإضعاف السلطة المركزية بفاس. وهو ما استثمرته لؤلؤة بمكر بالغ، وسعت بوساطته أملاكها للأراضي والعقارات التي تنتزعها من أصحابها نزعا، ثم الاستثمار في دار للدعارة وأختها سلمى. ومنه نلحظ كيف يتآلف عند الاختين المقدس والمدنس : صفاء وطهارة ابن السماء، وغوايتهما وحبائلها الشديدة المكر، الرغبة في تعليم ابنها إدريس وإرساله إلى فرنسا ليتابع دراسته في تخصص نادر، وتأبيد الجهل وجعله مقدسا عند أهل القرية، سلطة المال والنفوذ وأبهة الروح التي لم تصب في شيء قرينة ابن السماء. على سبيل المحبة : تقترح علينا إذن رواية ( ابن السماء) عالما سرديا يحفل بعجائبية فريدة واشتغال باذخ على المتخيل، الذي يبئر على ابن السماء أو سيدي الساكت بعدها، وهو التبئير الذي كنا نأمل – كأي قارئ عاشق راقه التوحد العميق مع عالم الرواية – أن لا ينزل إلى الدرجة الصفر بعد وفاته، والإنجاز السردي حينها في أوجه وأشد مراحل ذات الحالة خلخلة. وينتقل التبئير كلية ليركز على لؤلؤة وأختها سلمى، مع تغييب ابن السماء. إذ نظن أن استثمار السارد لتلك العودة كان بإمكانه أن يعضد أكثر رهان إرساله للحياة للدنيا، ويُمَدد العمل السردي نحو عوالم تخييلية أبهى. كما أن إبدال صوت الكاتب بصوت السارد في نسيج الرواية كان له أن يحقق وقعا أجمل، إذ للكاتب حياته الواقعة قبل العمل والمستمرة بعده، ومعه يصعب أن تصير ذاتا ورقية (تخييلية)، بالقياس إلى السارد الذي هذه صفته. وزبدة القول إن الغتيري بعمله الروائي الجديد الذي يقترحه على قرائه يكرس صوته السردي المتميز والماتع، والذي يتطرق إلى تيمات مختلفة وراهنة في كل عمل، مراهنا على التنوع الضروري الذي يشف به. وهو ذاته الروائي الذي أثرى المكتبة السردية بروايات: رجال وكلاب 2007، وعائشة القديسة 2008، ليلة إفريقية 2010، رقصة العنكبوت 2011، وعلى ضفاف البحيرة 2012، فضلا عن مجاميعه في القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا. والتي سيصير عددا منها أساس أعمال سينمائية في تعاون نادر بين الكتاب المغاربة والمخرجين السينمائيين. [1] ميجان الرويلي ، وسعد البازعي : دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط5 2007، ص: 80.