دأبت وزارة الاقتصاد والمالية بتعاون مع المؤسسة الدولية للمالية العامة (Fondafip) والمجموعة الأوربية للبحث في المالية العامة(GERFIP) على تنظيم ندوات دولية حول تطور تدبير المالية العمومية بكل من المغرب وفرنسا منذ سنة 2007 بغية تبادل الخبرات والتجارب في مجال التدبير العمومي والمالي على حد سواء. وقد وقع الاختيار بالنسبة لهذه السنة على تدارس موضوع “شفافية المالية العامة: نحو نموذج جديد”، والذي احتضنت أعماله الخزينة العامة للمملكة بالرباط، يومي السابع والثامن من شتنبر الجاري. و لاشك أن انتقاء هذه الإشكالية ضمن معضلات التدبير المالي المتعددة يعكس المنحى التطوري للقضايا التي تتناولها ندوات المؤسسة الدولية للمالية العامة. فبعد أن كان البحث عن السبل الكفيلة بإصلاح المالية العامة بكل من المغرب وفرنسا هو محور برامج ندوات سنتي 2007 و2008، دفعت الأزمة المالية التي شهدتها الولاياتالمتحدةالأمريكية والتي انتقلت شرارتها إلى العديد من الدول بفعل تداخل الاقتصاديات، إلى تحفيز القائمين على هذا المنتدى الفكري سنة 2009 لطرح موضوع رهانات المالية العامة بالمغرب وفرنسا في مواجهة الأزمة، لتحتل بعد ذلك قضايا الحكامة المالية الجديدة وانسجام النظم المالية العامة مكان الصدارة في أجندة هذه الندوة الدولية خلال السنتين المنصرمتين. يتضح لنا مما تقدم أسباب مناقشة موضوع الشفافية في تدبير المالية العامة ضمن فعاليات ندوة المؤسسة الدولية للمالية العامة لهذه السنة، حيث يدفعنا هذا الموضوع إلى إبداء بعض الملاحظات والتساؤلات، التي قد لا يتسع المجال لتفصيل التحليل فيها، نظرا لكون المواضيع المتعلقة بالمالية العامة تقع غالبا في مفترق التخصصات العلمية، بحيث يجد الباحث نفسه مطالبا باستحضار مقاربات متعددة في العلوم الاجتماعية كعلم الاقتصاد والتدبير وعلم السياسة وعلم الاجتماع القانوني. و يمكن القول عموما إن السياق الدولي الذي تطبعه تحديات العولمة، شكل حافزا على تأطير المرحلة الراهنة بمزيد من التخليق والبحث عن الشفافية كخيار لا محيد عنه من أجل البحث عن حلول لمعادلات التمويل ضمن نفاد الموارد وفي ظل احتقان اجتماعي ناتج عن تداعيات الربيع الديموقراطي العربي. و تحتاج هذه الفترة المالية العصيبة أكثر من ذلك إلى عقلنة النفقات العمومية كإرث خلفته تراكمات مراحل من التدبير المالي استحضرت بالأساس معطيات التوازنات الماكرواقتصادية، وفاء منها لوصفات مؤسسات بروتن وودز دون اكتراث بسياسات التنمية البشرية المندمجة. كما تطرح أيضا هذه المرحلة إكراهات ضخ الموارد المالية التي ما فتئت تضيق العولمة مساحاتها، نظرا لانتهاج سياسات التحرير الاقتصادي وإطلاق روح المبادرة الفردية وإقرار فلسفة التبادل الحر كخيار استراتيجي لا محيد عنه من أجل ركوب قاطرة التنمية. فأين تبرز معالم خصوصيات النموذج المغربي في التدبير المالي العام ضمن صورة هلامية تغيب عنها أبسط شروط الدقة في المقاربة الموضوعية للأوضاع الراهنة؟ وما هي كلفة غياب الشفافية المالية وتأثيراتها على متطلبات التنمية؟ وهل الشفافية المالية ترف سياسي، أم ضرورة لدمقرطة المشهد المالي العام؟ إن صياغة نموذج مغربي أصيل في تدبير شؤون المالية العامة يتطلب جرأة وشجاعة على تحمل تبعات المصاعب وأخطاء التدابير المتخذة والإجراءات المزمع طرحها لرفع المشاكل البنيوية عن الاقتصاد المغربي. فلا يكفي الجهر بالولاء الدائم للنموذج الليبرالي دون تقدير احتمالات أزماته، حيث يقتضي مثلا تدبير العجز في الميزانية تصورا يستحضر البعد الدولي للأزمة المالية ويقر بصعوبة الانسلاخ عن ظاهرة الاعتمادات المتبادلة بين الاقتصادات الوطنية، مما يدفع إلى البحث الجدي عن الموارد المالية في ظل إكراهات إقامة مناطق للتبادل الحر مع الشركاء التجاريين، وفي غياب شروط التأهيل الأمثل للنسيج الاقتصادي وللثروة البشرية. هذه التحديات اتضحت إرهاصاتها الأولى منذ منتصف عقد التسعينيات حينما بادر المغرب إلى إبرام اتفاقية للتبادل الحر مع الإتحاد الأوربي سنة 1996، لكن التدابير المتخذة لم تتجاوز حدود إعلان ميثاق لتأهيل المقاولات المغربية من دون تتبع الحركية والدينامية التي يشهدها السوق الدولي، فكانت النتيجة أن تم إغراق السوق المغربية بالمنتوجات الأجنبية ولا نكاد نلمس تنافسية نسيجنا الإنتاجي في غياب التدابير الحمائية التي لم يعد لها مجال يذكر في زمن تحرير التجارة الدولية الذي تشرف على تفاصيله منظمة التجارة العالمية. وهذه المعطيات كلها تجعل من ميزان الأداءات التجاري يشهد هو الآخر عجزا بنيويا نتيجة لطبيعة المواد الأولية التي يصدرها المغرب مقارنة مع المواد الدقيقة التي يستوردها من الخارج. كما أن تزايد المطالب الاجتماعية يرتب تصاعد حجم النفقات مما ينعكس سلبا على الأداء الموازني للدولة، إلى حدود دفعت بعض المهتمين بالشأن المالي الوطني إلى عدم استبعاد شبح تطبيق برنامج جديد للتقويم الهيكلي، مع ما يستتبع ذلك من دخول في حلقة مديونية مفرغة، ناهيك عن شل استقلالية القرار المالي العام نتيجة ربط الاقتصاد الوطني بالاقتصاد الدولي من خلال إخضاعه لإكراهات منطق السوق العالمية. وهذا السيناريو يبقى حاضرا على الأقل في المرحلة الراهنة في ظل مناخ دولي ووطني تطبعه الأزمة الاقتصادية والمالية، حيث يرخي تدني مؤشرات الأداء الاقتصادي والمالية الدولي بظلاله على فعالية الأداء العمومي، وهو ما يتم إقتفاء آثاره على مستوى تدهور ميزان الأداءات وشح الاحتياطي من العملة الصعبة وتزايد حجم المديونية العامة وانحطاط وضعية المالية العامة. فالمالية العامة المغربية تحتاج إلى إعادة قراءتها من منظور ترسيخ شفافية الحسابات العمومية، وهو المطلب الذي نادى به المتدخلون ضمن أحد محاور هاته الندوة والمتعلق بالمالية الإجتماعية، ذلك أنه بالرغم من محدودية الميزانية الاجتماعية والتي لا تمثل سوى 2 % من الناتج الوطني الإجمالي، راهن المتدخلون على وجوب إقرار شفافية الحسابات الاجتماعية، التي تشمل مجالات التغطية الصحية والتعويضات العائلية، ذلك أن تعزيز الشفافية في هذا المجال من شأنه تحسين جودة الخدمات الاجتماعية حيث لا تتجاوز التغطية الاجتماعية عتبة 32 ٪ من مجموع المواطنين، علاوة على الارتقاء بالميزانية الاجتماعية المغربية لتصبح متسقة مع المعايير الدولية المعمول بها في هذا المجال. و في معرض مداخلته بخصوص شفافية تنفيذ ميزانية الدولة، أكد الدكتور نور الدين بن سودة الخازن العام للمملكة على المكانة التي تتبوؤها الشفافية المالية ضمن آليات تحديث التدبير العمومي، حيث أشار إلى الفراغ الذي تم ملؤه بواسطة دستور فاتح يوليوز 2011، والذي رسخ مبدأ الشفافية وإقرار المسؤولية والإدلاء بالحسابات، بالإضافة إلى القيمة النوعية التي تضفيها البرامج المعلوماتية المندمجة في مجال تنفيذ ميزانية الدولة، الأمر الذي يدفع بالنظام المالي المغربي نحو مزيد من الفعالية، ويساهم بشكل إيجابي في تحسين شروط المراقبة وتقييم الميزانية. فالسياق الدولي يستلزم مزيدا من الشفافية بالنظر إلى التحولات التي تعرفها أنظمة الرقابة التي تمارسها بعض المؤسسات المالية كصندوق النقد الدولي، حيث عدل نظام رقابته لاقتصاديات الدول الأعضاء، بالشكل الذي يسمح بتحليل آثار سياستها الداخلية على باقي العالم، وذلك حتى يتمكن من إتقاء عدوى الأزمات المحتملة. إن حيوية استعراض القضايا التي يثيرها موضوع شفافية تدبير المالية العامة يدفعنا إلى تقاسم الطرح الذي دافع عنه الدكتور ميشال بوفيي رئيس المؤسسة الدولية للمالية العامة في مداخلته خلال الندوة، حيث أكد أن البحث عن مقومات الشفافية في تدبير المالية العامة ليس هدفا لتخليق الحياة المالية أو استجابة معيارية لبعض المقتضيات القانونية الواردة في بعض العهود والمواثيق الدولية كالمادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو حتى حرصا على احترام مقتضيات القانون الاندماجي الأوربي أو مدونة الممارسات الجيدة للإحصائيات الأوربية، وإنما هو يؤشر لوجود أزمة داخل المجتمع، والخلاص لفك هذا الأخير من إساره، هو البحث عن نموذج أصيل في تدبير المالية يعكس خصوصيات فهم الفاعلين العموميين لحيثيات السياق الدولي المتسم بالعولمة، كما أفاد من جهته أن عدم القدرة على مواءمة النظام القانوني والمالي مع التحديات المطروحة، يكشف في حد ذاته عن فشل الفاعلين في بلورة نموذج للتدبير العمومي يساير تطورات الحياة الإقتصادية والمالية الدولية. تفترض إذن صحة الحياة المالية تكريس قواعد الشفافية في الأداء المالي العمومي، وتخليق الحياة العامة وإقرار الاحتكام إلى الضوابط القانونية في تدبير المالية العامة للدولة، كشرط أساسي من أجل دمقرطة الحياة المالية وإرساء الحق في مناهضة الإفلات من العقاب، كرهان لمأسسة دولة الحق والقانون. إن مفهوم الشفافية المالية كما تبسطه أدبيات المنظمات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، يدفعنا إلى الغوص في كنه دلالاته القانونية وعمق إشاراته السياسية.