استبعاد شخصيات ريفية من اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال يثير الجدل    سعر صرف الدرهم يستقر مقابل الأورو ويتراجع مقابل الدولار    تصفيات "كان" 2025.. نفاذ تذاكر مباراة المغرب وإفريقيا الوسطى بعد يوم من طرحها    الآلاف يخرجون في مسيرة في الرباط تضامنا مع غزة وبيروت    قرار العدل الأوروبية.. البرتغال تؤكد على الشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب    غوتيريش يدعو إلى وقف "سفك الدماء" في غزة ولبنان    أنفوغرافيك | بالأرقام .. كيف هو حال إقتصاد غزة في الذكرى الأولى ل "طوفان الأقصى" ؟    المغرب يحاصر هجرة ممرضيّه إلى كندا حماية لقطاعه الصحي    انتخابات رئاسية باهتة في تونس يغيب عنها التنافس    نتانياهو يصف دعوة ماكرون للتوقف عن مد إسرائيل بالأسلحة "بالمخزية والعار    إنطلاق أكبر مسيرة وطنية في الرباط دعما لفلسطين ولبنان في الذكرى الأولى للسابع من اكتوبر (فيديو)    الجزائر تكشف تورطها في ملف الصحراء بدعم قرار محكمة العدل الأوروبية ضد المغرب    صدمة في البرنابيو.. كارفاخال يعاني من إصابة مروعة        ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس بالجديدة نهائي النسخة ال7 من الجائزة الكبرى للملك محمد السادس للتبوريدة    منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة…أسعار الغذاء تسجل أعلى زيادة شهرية    طقس الأحد.. زخات رعدية ببعض مناطق المملكة        افتتاح المسبح المغطى السومي أولمبي بتاوريرت    أمام "سكوت" القانون.. "طروتينيط" تغزو شوارع الحسيمة    الجامعة المغربية لحقوق المستهلك…تأكد صحة وثيقة تلوث مياه "عين أطلس"    23 قتيلا في غارات اسرائيلية على لبنان    التونسيون يصوتون في انتخابات الرئاسة وأبرز منافسي سعيد في السجن    جولة المفاجآت.. الكبار يسقطون تباعا وسطاد المغربي يتصدر الترتيب    معرض الفرس الدولي في نسخته 15.. غاب عن فعالياته رواق وعروض ال DGSN    ترامب يعود لمكان محاولة اغتياله: "لن أستسلم أبداً"    انطلاق برنامج الحملات الطبية المصغرة لفائدة الساكنة القروية بإقليم إفران    أمن طنجة يحقق مع سيدة هددت شابة بنشر فيديوهات جنسية لها    بين أعالي الجبال وقلب الصحراء .. تفاصيل رحلة مدهشة من فاس إلى العيون    مضيان يقود لائحة كبار المغادرين لقيادة حزب الاستقلال وأدمينو أبرز الملتحقين    التعادل يحسم مباراة الحسنية والوداد    عودة ليزلي إلى الساحة الموسيقية بعد 11 عامًا من الانقطاع    رغم تراجعه عن مطالبته بوقف تسليح إسرائيل.. نتنياهو يهاجم ماكرون: سننتصر معك أو من دونك وعارك سيستمر لوقت طويل (فيديو)    هكذا علقت هولندا على قرار المحكمة الأوروبية وعلاقتها بالمغرب    منتخب U20 يواجه فرنسا وديا استعدادا لدوري اتحاد شمال إفريقيا    "أندلسيات طنجة" يراهن على تعزيز التقارب الحضاري والثقافي بين الضفتين في أفق مونديال 2030    ENSAH.. الباحث إلياس أشوخي يناقش أطروحته للدكتوراه حول التلوث في البيئة البحرية    إنزال كبير لطلبة كليات الطب بالرباط في سياق الإضرابات المتواصلة -فيديو-    وفاة الفنانة المغربية نعيمة المشرقي عن 81 عاما    مصدر ل"برلمان.كوم": المغرب يواصل تنويع شراكاته ويمدد اتفاقية الصيد مع روسيا.. وقرار العدل الأوروبية عزلها دوليا    الفنانة المغربية نعيمة المشرقي تغادرنا إلى دار البقاء    في عمر ال81 سنة…الممثلة نعيمة المشرقي تغادر الحياة    وفاة الممثلة القديرة نعيمة المشرقي بعد مسار فني حافل بالعطاء    معاناة 40 بالمائة من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050 (دراسة)            من قرية تامري شمال أكادير.. موطن "الموز البلدي" الذي يتميز بحلاوته وبسعره المنخفض نسبيا (صور)    دراسة تكشف معاناة 40 % من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050    قافلة المقاول الذاتي تصل الى اقليم الحسيمة    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″        وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفاصيل لقاءات حسنين هيكل مع ألكسندر دومارونش مدير المخابرات الخارجية الفرنسية
نشر في أكورا بريس يوم 31 - 01 - 2012

مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان (الحلقة السادسة) .. فى باريس حكايات أخرى!
ربما كان اختيار «مبارك» دون غيره من «المرشحين المحتملين» نوابا لرئيس الجمهورية مفاجئا لى (رغم كل ما كنت عرفته من علاقات سابقة بين الرجلين، خصوصا تلك التجربة المشتركة فى «الخرطوم»!)، لكن احتمال اختياره كما أبدت لى الظروف لم يكن على الأرجح مفاجئا لغيرى.
وفى الواقع فإن «احتمال اختياره» تبدَّت له أمامى إشارات عابرة، وفى بعض الأحيان غامضة، وكانت فى مجملها تكشف تباعا لمحات يصعب إهمالها وكانت فاتحة الإشارات ما حدث ذات صباح من يناير 1982 فى قصر «الإليزيه» فى باريس، وكنت على موعد مع «فرانسوا ميتران»، وكانت تلك مقابلتنا الأولى بعد أن أصبح رئيسا لفرنسا.
كنت قد عرفت «فرانسوا ميتران» مبكرا عندما كان رئيسا للحزب الاشتراكي، ودعوته لزيارة القاهرة، ولبَّى الدعوة، ومن يوم 25 يناير 1974 ولعشرة أيام كان الرجل ضيفا على «الأهرام» وعلىَّ فى مصر، وبالطبع كنت ألقاه كل يوم تقريبا، كما رتبت أن يشارك فى جلسات متعددة مع خبراء من مركز الدراسات السياسية والإستراتيچية ومع عدد من مفكرى «الأهرام» وقتها، وفى هذه الجلسات جرت مناقشة قضايا عديدة سواء فى السياسة الدولية، أو فى التحولات الكبرى التى ظهرت بوادرها على الأفق مع تلك المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة.
وقد كتب «ميتران» بعد ذلك فى كتاب له عنوانه «حبة فى السنبلة» فصلا كاملا عن لقاءاتنا معا، وعن الحوارات التى شارك فيها مع من دعوت من زملائى، كما أنه اهتم فى هذا الفصل من الكتاب طويلا بالعلاقة التى رآها بين الرئيس «السادات» وبينى، وكنت قد اصطحبت الزعيم الاشتراكي معى إلى مقابلة معه فى بيته فى الجيزة.
الإهداء الذي كتبه الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لكتابه (حبة في السنبلة) لمحمد حسنين هيكل وقد خصص فيه فصلاً كاملاً لزيارته لمصر ولقاءاته في ها وترجمة الإهداء: إلي محمد هيكل بصداقة واحترام، وربما تتعرف – كما آمل – في صفحات هذا الكتاب علي لقاءات واهتمامات مشتركة. فرانسوا ميتران
وبعد تلك الزيارة إلى مصر أوائل سنة 1974، فإن علاقتى مع «فرانسوا ميتران» توطدت أكثر بلقاءات متكررة فى باريس معظمها فى بيته فى حى «سان چيرمان»، حيث كنا نجلس ساعات الصبح فى مكتبه بالدور العلوى من بيته، ثم نخرج مشيا على الأقدام إلى الغداء فى مطعم «ليب» على ناصية قريبة، ونجلس لحديث يسترسل دون مقاطعة ودون تحفظ.
فرانسوا ميتران
●●●
فى مايو 1981 انتخب «ميتران» رئيسا لفرنسا، ثم وقع بعدها بأسابيع أننى وجدت نفسى فى سجن «طرة» مع كثيرين. ومن وراء الأسوار فى «طرة» تسرب إلينا أن الرئيس «ميتران» اتخذ موقفا معارضا ومعلنا ضد اعتقالات سبتمبر فى مصر، وبلغنا أنه دعا المكتب السياسى للحزب الاشتراكى لاجتماع خاص، وأدان هذه الاعتقالات، ولم يكن «ميتران» يستطع إعلان إدانته لها كرئيس للدولة الفرنسية، وكان حله أن يعلنها كرئيس للحزب الاشتراكى، ووصل إلينا أيضا أن الرئيس «السادات» غضب وهدد بقطع العلاقات مع فرنسا، لأنها تدخلت فى الشأن المصرى، حتى وإن كان رئيس الدولة الفرنسى قد أبدى رأيه بوصفه رئيسا للحزب الاشتراكي!
●●●
وهكذا ومع أول رحلة قمت بها لأوروبا بعد الإفراج عنا بعثت إلى الرئيس «ميتران» فى يناير 1982 أبلغه بموعد قدومى إلى «باريس»، ومدة بقائى فيها، تاركا له أن يحدد موعدا نلتقى فيه، ثم كان أن اتصل بى مكتبه يبلغنى دعوة على الإفطار مع الرئيس فى الساعة الثامنة والنصف «صباح الاثنين المقبل».
وعلى الإفطار ومع حديث استمر أكثر من ساعة ونصف الساعة، سألنى «ميتران» عن علاقتى بالرئيس الجديد «مبارك»، وهل أنها طبيعية أو عاصفة، كما كانت مع الرئيس «السادات» فى سنواته الأخيرة، وقلت: «إننى التقيت الرئيس الجديد أخيرا ولعدة ساعات، وأنه يبدو لى رجلا معقولا، يستطيع أن يتعلم من منصبه ويكبر فيه» ولاحظت أن «ميتران» يسمعنى مهتما، دون أن يبدو منه رد فعل، وكانت ملاحظته الوحيدة بإشارة سريعة قوله: «على أى حال إن بعض الناس عندنا يعرفونه جيدا».
وسألته عما يعنيه بهذه الإشارة، وكان رده بنصف ابتسامة، إيماءة إلى تعبير مأثور عن الكاردينال «ريشيليو» السياسى الأكبر فى بداية التاريخ الفرنسى، وهو تعبير Raison d'etat «أسباب دولة»، وتشعب بيننا الحديث، لكنه لفت نظرى أن «ميتران» ذكر أكثر من مرة بعد ذلك اسم الكونت «ألكسندر دى ميرانش» الذى كان مديرا للمخابرات الخارجية الفرنسية SDECE، وبتجربة صحفى فقد راودنى الإحساس بأن هناك فى باريس مَنْ يعرف أكثر عن الرئيس المصرى الجديد، وأن «دى ميرانش» أحدهم.
●●●
وكنت أعرف الكونت «ألكسندر دى ميرانش» من تجربة سابقة رتب لها أيضا رئيس فرنسى (سابق) هو الرئيس «چيسكار ديستان»، الذى قابلته منذ خمس سنوات، وفى صالون نفس المكتب (الذى أقابل فيه «ميتران» الآن).
وفى ذلك اللقاء مع «چيسكار ديستان» كنا جالسين فى الصالون الملحق بالمكتب الرئاسى على مقعدين متواجهين وبيننا مائدة للشاى من طراز «لويس الخامس عشر»، وتحت «چيسكار ديستان» رقدت كلبته «أنتيجون»، وقد أراد تبرير وجودها بأنها لا تستطيع أن تبتعد عنه، بل هى دائما وراءه من غرفة نومه إلى قاعة مكتبه، وحين ناولها قطعة صغيرة من فطائر وضعوها فى طبقه، وجد مناسبا فيما أظن أن يشرح لى مبررا إضافيا لحضورها قائلا: «هى لا تتكلم، وإخلاصها بغير حدود وكتمانها مضمون ومأمون» ثم أضاف: إن ذلك الإخلاص المتجرد نادر فى العلاقات بين البشر!!).
وطال الحديث وتشعَّب وبدا لى أن الرئيس «ديستان» مشغول بأفريقيا، وحديثه مركز عليها، واعتقاده أن تغلغلا شيوعيا يتسرب حثيثا إليها، ثم إلحاحه: «أن العرب يجب أن يتمثَّلوا خطورة الأوضاع فى أفريقيا، لأن التحدى الذى يواجهه العرب والغرب معهم تحدٍ خطر!!».
وأسهب الرئيس «ديستان» فى الشرح: «1 قناة السويس مازالت مغلقة، رغم انتهاء حرب «يوم الغفران» (هكذا وصف الرئيس الفرنسى حرب أكتوبر).
2 وإمدادات النفط من الخليج تضطر للدوران حول أفريقيا عن طريق «رأس الرجاء الصالح» لكى تصل إلى أوروبا وإلى أمريكا. وأمريكا تستطيع أن تستغنى عن البترول العربى مؤقتا، وأما أوروبا فذلك بالنسبة لها مستحيل.
ودوران ناقلات البترول حول أفريقيا على الممرات البحرية المحيطة بالقارة مكشوف أمام نشاط سوڤييتى يتغلغل فى القارة بجهد يزيد، خصوصا فى القرن الأفريقى، وبالتحديد فى أثيوبيا (وكان نظام «منجستوهيلا مريم» يحكمها وهو لا يخفى هويته الشيوعية).
3 وأوروبا لا تستطيع أن تقبل هذا الانكشاف للممرات البحرية التى تسير عليها ناقلات البترول الغربية.
وبما أن فتح قناة السويس أمام ناقلات البترول مازال معلقا، لأنه مرهون باتفاقيات سلام بين مصر وإسرائيل مباشرة، وبين العرب وإسرائيل بطريق غير مباشر إذن فإن الضرورات تفرض الحد من النفوذ السوڤييتى داخل القارة بكل الوسائل.
4 إن فرنسا اهتمت منذ «ديجول» بوجود سياسى فرنسى ومؤثر فى القارة يحفظ مصالح كثيرة، ويحفظ كذلك صلات حضارية لها قيمتها، وذلك ما دعا «ديجول» إلى إنشاء منظمة «الفرانكفونية»، لكن هذه المنظمة قاصرة فى فعلها السياسى على عكس منظمة «الكومنولث»، لأن الأقاليم الإنجليزية من أفريقيا (يقصد الدول الأفريقية التى كانت تخضع للاستعمار البريطانى، والتى اعتمدت اللغة الإنجليزية)، انضمت إلى «الكومنولث» البريطانى (وهو تنظيم اقتصادى)، فى حين أن فرنسا اختارت الثقافة رابطا عن طريق منظمة «الفرانكفونية»، باعتبار اللغة الفرنسية أساسا مشتركا، لكن «الفرانكفونية» غرقت فى الأدب والثقافة، ونسيت الإستراتيچية والسياسة، ربما تحت تأثير «سنجور» (زعيم السنغال)، ويستدرك الرئيس الفرنسى: لا تنس أن «سنجور» شاعر! وإذا كان ذلك، فقد كانت تكفينا عضوية «اليونيسكو» (منظمة الثقافة والعلوم)، دون داعٍ ل «الفرانكفونية» وسألنى «جيسكار ديستان» إذا كان عندى ما يمنع من مقابلة «ألكسندر دى ميرانش»، مع العلم بأنه مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، لأنه الرجل الذى يعرف أكثر من غيره عن الخطر السوڤييتى فى أفريقيا، وطرق التصدى له! (وكانت تلك أول مرة أسمع فيها اسم الرجل أو أعرف شيئا عنه).
وقلت «إننى أقابل كل من أستطيع أن أعرف منه جديدا».
●●●
وعلى أى حال فقد انتهت مقابلتنا يومها، بأن قال لى الرئيس «ديستان»: إنه سوف يطلب إلى «ألكسندر»، وهو يقصد الكونت «ألكسندر دى ميرانش» أن يتصل بى فى الفندق الذى أقيم فيه.
وكذلك قابلت «دى ميرانش» لأول مرة، ومن المصادفات أننى عرفت منه قرابته (ابن عم) لصديقة قديمة هى الكونتيسة «تيريز دى سان فال» وهى وقتها مديرة النشر فى «فلاماريون» أكبر دور النشر فى فرنسا، وهى تحوز حق نشر كتبى فى اللغة الفرنسية.
وعندما جاء «دى ميرانش» إلى لقائى فى فندق «الكريون» (الذى كنت أقيم فيه)، إذا هو يدعونى إلى صالون حجزه فى نفس الفندق لكى نتحدث بعيدا عن الجالسين غيرنا فى صالون «الإمبراطورية» حيث انتظرته، وظهر أن أحد مساعديه رتب حيث حجز شاشة عرض ظهرت عليها خريطة أفريقيا وخطوط طرق الملاحة البحرية حولها، مع بيان لعدد وحمولة ناقلات البترول التى تتقاطر على مسالكها كل يوم.
وجلسنا أمام الشاشة الكبيرة، وراح «دى ميرانش» يشرح والخرائط على الشاشة تتغير، وبعض الصور تظهر ومعها لمحات من وثائق وجداول وأرقام، متوافقة مع سياق العرض!!
وكان «دى ميرانش» يتدخل بين الحين والآخر بتعليقات فيها التركيز الشديد على أن فرنسا مازالت قوة كبرى، حتى وإن قبلت باستقلال مستعمراتها!!
وأن أفريقيا مازالت تهمها (وهى لا تستطيع أن تنسحب منها كما فعلت فى آسيا عقب استقلال «ڤيتنام»).
وأن «فرنسا» دولة متوسطية لا تقبل بأى خطر يهدد المتوسط والمتوسط هو «سقف» أفريقيا!!
●●●
وانتهى العرض وراح «دى ميرانش» يتوسع فى الشرح بأن «فرنسا» هى أكبر مستهلك للطاقة فى القارة الأوروبية، وهى لا تملك مباشرة نفوذا على مصادرها فى الخليج، ولذلك فإن حياتها وحياة المجتمع الأوروبى الذى تنتمى إليه معلقة على بتروله، وهى تعتبر نفسها شريكا رئيسيا فى تأمينه، وفى ذلك فإنها تتعاون مع عدد من دول المنطقة، وقد أنشأوا معا «تعاون فعل» (Cooperation D'action).
أضاف «دى ميرانش» أنه من حسن الحظ أن بعض القوى المعنية فى الشرق الأوسط دخلت مع فرنسا فى هذا «التعاون فى الفعل»، وأن «فرنسا» هى التى أقنعت أمريكا وإسرائيل بأن لا تدخلا ضمن مجموعته، حتى لا تؤثر شكوك العرب فيهما على صدق «تعاون الفعل»، بل وقع الاتفاق على أن تكون كلاهما الولايات المتحدة وإسرائيل على علم ومن مسافة بما تقوم به المجموعة، وهذا ضرورى حتى لا يحدث صدام بين الخطط فى الظلام.
وقال «دى ميرانش»: «إنهم اختاروا للمجموعة عنوان «سفارى» (السفر فى الغابات)، لأن نشاط المجموعة الأصلى فى أفريقيا، وقد اختاروا اسما رومانسيا «بالكود» لا يستطيع تحديد معناه أحد إلا إذا كان طرفا فى اللعبة!!
وأضاف «دى ميرانش» أنه من حسن الحظ أن رجالا مثل الملك «الحسن» (فى المغرب)، والملك «فيصل» (فى السعودية)، والشاه «محمد رضا بهلوى» (فى إيران)، والرئيس «السادات» (فى مصر) توفر لديهم بُعد النظر والجسارة لكى يتعاونوا مع فرنسا فى هذه المهمة التى تعنيهم وتؤثر على مصالحهم الحيوية!!
الملك الحسن
واستطرد «دى ميرانش» إلى تحديد المخاطر التى تهدد أفريقيا، بلدا بعد بلد، وكان تركيزه على القرن الأفريقى واضحا، وبعده على الكونجو وأنجولا.
وقال «دى ميرانش»: هذا فى الواقع «تعاون فعل» إستراتيچى، يحقق مصالح مشتركة، ولذلك فإن تنفيذه تم بمعاهدة خاصة ومغلقة بين الدول الخمس.
الملك فيصل
وسألته دون تعليق حتى لا أصد تدفقه فى الشرح عما إذا كانت الدول العربية التى وقَّعت على الاتفاق (فى الواقع معاهدة) تعرف أن هناك تنسيقا مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، وكان جوابه دون تردد:
«إنهم بالطبع يعرفون، لكننا أعفيناهم جميعا من الحرج، وعهدنا بالتنسيق مع أمريكا إلى «إيران»، ثم إن الولايات المتحدة فى إطار علاقاتها الخاصة مع إسرائيل تتولى إحاطتها علما بما يصح لها أن تعرفه!».
●●●
وكان «دى ميرانش» يظهر اهتماما خاصا بالسعودية، لاعتقاد عنده أفاض فى شرحه بأن الإسلام يجب أن يلعب دورا أساسيا فى حماية النفط، وكان قوله «إنه من حسن الحظ أن أكبر منتج للنفط هو نفسه بيت الأماكن المقدسة لدى المسلمين، و«فرنسا» لا ترى على الإطلاق صداما بين الإسلام وأوروبا، وبالعكس فإن «فرنسا» من أنصار حوار أديان بين الإسلام والغرب، وقد بدأوا بالفعل جهودا مشتركة مع علماء السعودية، وهذه الجهود تلقى تشجيعا من مصر (وكان ذلك صحيحا وإن كان علماء السعودية قد استشعروا الحرج من هذا الحوار، وكان أن أحد مشايخ الأزهر السابقين تحمس لمواصلته فى مصر، وأنشأ فى تلك الجامعة الإسلامية العريقة (الأزهر) مركزا خاصا لهذا الحوار!).
كان رأى «دى ميرانش» وقد قارب على نهاية عرضه «أن المفكرين العرب لابد لهم أن يساعدوا على تفاهم حضارى، بين روح الإسلام وروح أوروبا». أضاف أن «مصر» لها جهود سابقة فى هذا المجال منذ «ذهاب نابليون بونابرت» إلى مصر، وصحيح أن جهود مصر السابقة كانت مدفوعة بمطلب التنوير، إلا أن إرث الثقافة لابد أن يؤدى إلى حماية المصالح الحية لأصحابه»!!
وكنت أسمع باهتمام متفكرا فى مقدرة الدول الكبرى على عرض مصالحها الدائمة فى ظروف متغيرة، وكيف تغطى فعل حرب خفية فى الواقع بغطاء الثقافة والحضارة وحتى الأديان!!
(ثم لقيت «دى ميرانش» مرة ثانية بعد ذلك فى مكتبه، وكان هذه المرة قد أضاف إلى اهتمامه بأفريقيا اهتماما مستجدا بأمريكا الوسطى وبكوبا).
●●●
ومرت سنوات وتغيَّر ساكن قصر «الإليزيه»، وخرج «ديستان» ودخل «ميتران»، وجاء لقائى معه الذى أشرت إليه قبل قليل، والذى تحدَّث فيه بغموض عن «الذين يعرفون مبارك»، وعن مصلحة الدولة Raison D'Etat، وتردَّد فيه اسم «دى ميرانش» أكثر من مرة، وكذلك تصورت أن أحاول لقاءه مرة ثانية، وتوافقت الظروف مع المطالب فإذا ب«دى ميرانش» نفسه يحاول مقابلتى، وكان وسيطه هذه المرة «ابنة العم» كما يسميها الكونتيسة «تيريز دى سان فال» (مديرة النشر فى مؤسسة «فلاماريون»)، والتى اتصلت بى تقول «إن ابن عمها يرغب فى لقائى، لأنه يريد أن يصحح لى بعض ما نشرته فى كتابى عن الثورة الإيرانية «عودة آية الله» The Return of Ayatollah.
وكانت بعض الفصول من الكتاب قد بدأ نشرها فى جريدة «الفيجارو»، تمهيدا لصدوره عن دار «فلاماريون» وكنت فى ذلك الكتاب قد خصصت فصلا كاملا تعرَّض لأول مرة لسر مجموعة «السافارى»، فقد اطلعت على نصوص المعاهدة التى أنشأت المجموعة، وكان اطلاعى عليها فى قصر «نياڤاران»، حيث المقر الرسمى لعمل ومعيشة شاه إيران، وكان «آية الله الخمينى» قد وجَّه بتسهيل اطلاعى على ما أريد من وثائق العصر الذى قامت الثورة الإيرانية لإسقاطه!
وكانت وثيقة إنشاء المعاهدة وتوقيعها فى اجتماع خاص عُقد فى «جدة»، وقد نشرت أهم نصوصها فى الكتاب، ومع النصوص أسماء من وقَّعوا عليها نيابة عن رؤسائهم، وكان نشر الأسماء قد أحدث ضجة كبرى ذلك الوقت، فقد كان الموقِّعون المفوضون خمسة:
الكونت «دى ميرانش» نفسه (مدير المخابرات الخارجية الفرنسية) عن الرئيس «ديستان».
و«كمال أدهم» (مدير المخابرات العامة السعودية عن الملك «فيصل»).
والچنرال «أحمد الدليمى» (مدير المخابرات المغربية عن الملك «الحسن»).
والچنرال «نعمة الله ناصري» (مدير الساڤاك المخابرات الإيرانية عن الشاه «محمد رضا بهلوى»).
ثم الدكتور «أشرف مروان» (مدير مكتب الرئيس للمعلومات عن الرئيس «أنور السادات»).
●●●
والآن كان الموضوع الذى تضايق منه «ألكسندر دى ميرانش» وجاء يطلب تصحيحه، هو ما قلته عما جرى لأحد نوابه، وكيف سُرقت منه حقيبة أوراقه أثناء مروره من مطار «الدار البيضاء» عقب اجتماع سرى فى المغرب، ثم إن هذا الچنرال جرى لومه على أن عملاء سوڤييت (بالطبع ومن غيرهم؟!!) استطاعوا أن يسرقوا حقيبة أوراقه، وفيها أسرار مهمة، وكنت فى الكتاب قد أضفت أن الچنرال الفرنسى المسئول جرى قتله بعد ذلك، وقيل إن ذلك كان عقابه!!
وكان ما ضايق الكونت «دى ميرانش» أن ما قلته فى الكتاب قد يوحى بأنه هو «دى ميرانش» رئيسه المباشر مَنْ أصدر الأمر بتصفيته عقابا له، والآن كان «دى ميرانش» يطلب منى أن أضيف توضيحا إلى الطبعة الفرنسية من الكتاب (على الأقل)، وقد عرف من ابنة عمه (الكونتيسة «دى سان فال» مديرة النشر فى «فلاماريون») أنه على وشك الصدور، وإلا فإنه سوف يضطر آسفا إلى رفع قضية «قذف» على «فلاماريون» كناشر للكتاب، وعلىَّ معها كمؤلف له!!
وكان «دى ميرانش» فى ذلك الوقت، ومن قبل دخول «فرانسوا ميتران» إلى قصر «الإليزيه» قد اعتزل منصبه!
والآن أصبح حرا، وانفكت إلى حد ما عقدة لسانه، بل إن حديثه أصبح أكثر تدفقا وحيوية.
●●●
والتقينا ومعنا فى بداية اللقاء ابنة عمه «تيريز دى سان فال»، وكنا هذه المرة جالسين فى ركن على بركة السباحة فى حديقة فندق «ريتز» فى ميدان «فاندوم» الشهير، بعامود الصلب الذى صنعه «نابليون بونابرت» من المدافع التى غنمها فى معركة «استرليتز»!!
ومع أن موعدنا كان العاشرة صباحا، فقد أدهشنى أن «دى ميرانش» وقد سألته إذا كان يريد فنجان قهوة، أنه أجاب بسؤال عما إذا كان يضايقنى أن يطلب كأسا من «الويسكى».
وربما بتأثير ذلك الغموض فى إشارة الرئيس «ميتران» قبل أيام إلى أن هناك «عندنا من يعرفون الرئيس المصرى الجديد»، ثم تردد اسم «دى ميرانش» بعد ذلك مرتين على الأقل، أننى سألته مباشرة:
يظهر أنك تعرف رئيسنا الجديد، كذلك أحسست من إشارة أثناء لقاء مع الرئيس الفرنسى «ميتران» أول هذا الأسبوع.
ونظر إلىَّ «دى ميرانش»، وعيناه تلمعان:
طبعا.. طبعا أعرفه، لقيته فى إطار مجموعة «السافارى» التى أذكر أننى حدثتك عنها قبل سنوات.
فى البداية: كان «أشرف مروان» هو الذى يمثل الرئيس «السادات» فى المجموعة.
وبعد سنتين غاب «أشرف مروان» وحل محله «مبارك»!
●●●
ثم راح «دى ميرانش» يتحدث منطلقا فى الحديث، وربما طمأنه أنه الآن عرف أننى على اتصال برئيسين فرنسيين: «چيسكار ديستان»، والآن «فرانسوا ميتران».
وتحدَّث «دى ميرانش» عن نشأة المجموعة، وكيف أنها بدأت فى منتصف السبعينيات، وبعد سقوط الرئيس «ريتشارد نيكسون» بسبب فضيحة «ووترچيت» سنة 1974، وبسببها أيضا فإن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A) وهى العملاق الأكبر فى عالم المخابرات تعطَّلت، لأنها أصبحت موضع تحقيقات واسعة فى الكونجرس، بعدما ظهر تورطها فى العمل داخل الولايات المتحدة نفسها، على عكس قانونها ثم زاد أن الرئيس الأمريكى الجديد بعد خروج «نيكسون» من البيت الأبيض وهو الرئيس «جيرالد فورد» قرر هو الآخر إنشاء لجنة خاصة رأسها نائبه «نلسون روكفللر» للتحقيق فى تجاوزات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التى طال لهذه الأسباب تعطلها، خصوصا بعد أن قام الكونجرس بتجميد الاعتمادات المالية المرصودة لها.
ويستطرد «دى ميرانش»:
«وفى ذلك الوقت وجدنا أننا من المحتم علينا أن نتحرك على مسئوليتنا، ودعونا أصدقاءنا وأصدقاء الولايات المتحدة كى يتعاونوا معنا، وكانت المملكة العربية السعودية جاهزة بالتمويل، وكنتم أنتم فى مصر مستعدين بمعسكرات التدريب، وكان المغرب مستعدا بعناصر بشرية، وكان شاه إيران داعما بكل الوسائل (At large).
وكان «أشرف مروان» ممثل مصر، ثم اختفى كما قلت لك وظهر «مبارك» نائب الرئيس.
ثم توقف «دى ميرانش» بطلب كأس آخر من الويسكى، ثم استأنف حديثه:
«تسألنى عن «مبارك» أعرفه أعرفه طبعا يا صديقى، كان معنا فى جلسات «السافارى»، حيث عقدناها فى «جدة» مرات، وفى «القاهرة» مرات، وفى «طهران» مرات، وفى «المغرب» مرات، لكننا لم نعقد اجتماعات كثيرة فى «فرنسا»، حتى لا تتصور واشنطن أننا نريد هيمنة على المجموعة.
كانت ال C.I.A حساسة جدا، مع أننا كنا نطلعهم على كل شىء، وكانوا يقومون بإطلاع إسرائيل التى طلبت أن تشارك فى نشاطنا، لأن لها موارد مخابراتية لها قيمتها فى أفريقيا، ولكننا اعتذرنا عن طلبها حتى لا تشعر السعودية بالحرج، ولم يكن هناك حرج لدى المصريين ولا لدى المغاربة، فلديهم علاقات مباشرة مع إسرائيل!».
وعاد «دى ميرانش» إلى ذِكر «مبارك»: «نعم.. نعم أعرفه، كان معنا لسنوات».
وارتكبت خطأ فيما أظن، فقد سألته عن مجال ما كان «مبارك» مهتما به، ويظهر أن السؤال أثار لديه طبائع رجل المخابرات، فقد توقف متحفظا «بأنه لا يستطيع أن يدخل فى تفصيل عمليات بالذات!».
وبينما كان لقاؤنا يقارب نهايته، أضاف «دى ميرانش» لمحة أخرى عن «مبارك» فقد قال: «أنه «تابَع» «مبارك» منذ أن ظهرت صورته لأول مرة «أمامهم» فى أجواء صفقة طائرات «الميراچ» التى عقدتها ليبيا مع فرنسا سنة 1971، وهى صفقة كبيرة حجمها 106 طائرات».
وقال «دى ميرانش»: «كنا نعرف أن ليبيا تعقد هذه الصفقة لصالح مصر ولمساعدتها فى حرب 1973، ولذلك رحنا نراقب باهتمام، وفى الواقع فقد رصدنا وفد المفاوضات الذى بدأ التفاوض فى الصفقة مع شركة «طومسون» وكانوا جميعا ضباطا من سلاح الطيران المصرى «أعطوهم» جوازات سفر ليبية لإقناعنا أنهم ليبيون، لكننا عرفنا حقيقة أمرهم» أضاف «ذلك لم يعد الآن سرا».
واستطرد «دى ميرانش»: «فى هذا الوقت لمحت «مبارك» لأول مرة، فقد حدث خلاف بين بعض الذين شاركوا فى مفاوضات عقد الصفقة، وكانوا قد تركوا سلاح الطيران المصرى وكوَّنوا شركة بينهم، ثم اختلفوا واشتد خلافهم لأسباب، وظهر «مبارك» يصالحهم مع بعضهم بالحرص على علاقاتهم معا، وهم فى الأصل من ضباطه، وكان علينا أن نرصد كل شىء، لأن الصفقة كلها أحاطت بها ظروف غير عادية!!
وأحسست أن «دى ميرانش» عاوده حذر رجل المخابرات القديم، فتوقفت ولم أشأ أن أعلِّق بكلمة!!
●●●
ولم أزد وبدا لى أنه لن يقول أكثر مما قال، ومع ذلك فإن «دى ميرانش» راح يردد اسم «مبارك» ويضيف وبنبرة دهشة لم يستطع إخفاءها، يقول:
«هل ترى الأقدار؟! أنا أجد نفسى الآن فى التقاعد، وزميلى السابق فى «مجموعة السافارى» على رئاسة الدولة المصرية!!».
ويضيف: و«أنا ختمت حياتى العملية فى الظل، وهو الآن يبدأ صفحة جديدة تحت الأضواء الباهرة!!».
ويزيد بصيغة التعجب: «مقادير.. مقادير يا عزيزى!!».
●●●
ومن الغريب بعدها وهذه إضافة بالزيادة أن التفاصيل سعت إلىَّ بعد ذلك، وبنفسها، فقد حدث فى سبتمبر 2008 أننى كنت فى «باريس»، والتقيت مصادفة فى صالة فندق «بريستول» بالسيد «عبد السلام جلود»، الذى كان رئيسا لوزراء ليبيا بعد ثورة سبتمبر 1969 (وكان «جلود» فى زمانه هو الرجل الثانى فى قيادة الثورة بعد «معمر القذافى»)، وكنت فى صالة «البريستول» أنتظر ضيفا موعده بعد نصف ساعة، ودعوت «جلود» للجلوس فى الحديقة الداخلية للفندق، وراح «جلود» يحكى، وتطرَّق إلى صفقة «الميراچ» مع فرنسا، مؤكدا أن قيمتها كانت 4 مليارات دولار، ثم استطرد فى التفاصيل، ومن حسن الحظ أن هذا الجزء من الحديث جرى أمام شاهد هو ضيفى الذى كنت أنتظره أصلا، وهو الدكتور «غسان سلامة» (المفكر اللامع ووزير الثقافة اللبنانى الأسبق، وهو الآن أستاذ فى جامعة «باريس»)، ودعوته للجلوس مع «عبدالسلام جلود» وسألنى «جلود» بعد أن قدمت إليه ضيفى همسا: «هل تثق فيه»؟!! – وأكدت له ثقتى فى «غسان سلامة»، واستأنف «جلود» واستفاض فى الحديث، لكنى لا أستطيع أن أنقل كثيرا مما سمعت، فليس لدىَّ مصدر ثانٍ يؤكد ما رواه، وفى أصول المهنة كما أعرفها أننى إذا لم أشهد بنفسى وقائع ما أتحدث فيه، فمن الضرورى تأكيدها قبل نشرها بشهادة مصدر ثانٍ، ولم أجد مصدرا ثانيا لما سمعت وقتها فى صالون فندق «البريستول»، وعلى أية حال فإن «عبد السلام جلود» يستطيع تفصيل روايته إذا شاء!!
مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان (الحلقة السابعة) … لا مؤاخذة!!
جمال عبد الناصر
منذ ذلك اللقاء الأول والمطول مع الرئيس «مبارك»، كان بين ما لفت نظري وبشدة توسعه الشديد في استعمال ألفاظ يصعب تداولها فى أحاديث السياسة، ومعظمها مما تتجنبه الأعراف، وبعضها مما تطاله مواد القانون!!
وفى ذلك اللقاء الأول لاحظ هو دهشة لعلها أفلتت إلى ملامح وجهي عندما سمعت بعض ما كان يرد على لسانه بين الحين والحين من لفظ، وكذلك بادر إلى شرح ما لم يكن لديه داعٍ لشرحه، قائلا «لا مؤاخذة يا محمد بيه»، ولكن هذه التعبيرات أنني لاحظت أنها أقلقتك هي اللغة التي كنا نستعملها في المعسكرات والقواعد البعيدة»ي
وطمأنته إلى أننى بتجربة مراسل حربي قديم سواء في الحروب التي خاضتها مصر، أو في حروب آخرين غطيتها سمعت قادة كبار يستعملون مثيلا لما وصفه بأنه «لغة المعسكرات والقواعد»، وطمأنته أيضا إلى أنني سمعت الرئيس الأمريكي الأشهر الجنرال «دوايت أيزنهاور» يستعمل هذه الألفاظ مرات!
وأظهر اهتماما بقوله: و«كمان» أيزنهاور؟”.
ثم أضاف أنه سمع نفس اللغة عندما كان في روسيا يدرس في كلية «فرونز»، ثم سمعها كذلك أثناء اختلاطه بالعسكريين الأمريكيين الذين التقاهم في تجربته، حتى كنائب رئيس، لكنه لم يخطر له أن يستعملها «أيزنهاور»!!
وعلَّق وهو يبتسم «أن الناس تسمع هذه الأسماء المشهورة فى العالم وتنبهر، لكنه عندما يقتربون منهم كفاية يرونهم مثلنا «ويمكن أوحش!!”.
أضاف «مبارك» أن «سوزى» (يقصد السيدة قرينته)، حاولت منذ زواجهما أن «تربينى» من جديد، وقد نجحت، واستدرك «مبارك» بعفوية قائلا: «إلى حد ما»، وأضاف «أنه واعٍ لهذه المشكلة، حريص ألا تفلت منه كلمة أثناء خطاب عام».
ولم يظهر لي بعدها أن «مبارك» حقق نجاحا كبيرا رغم محاولاته، ومحاولات غيره، فقد حدث فيما بعد أن زارني الأستاذ «فؤاد سراج الدين» يريدني أن أسمع شريطا مسجلا وصل إليه لخطاب ألقاه وزير الداخلية وقتها اللواء «زكى بدر» أثناء مؤتمر شعبى فى «قليوب»، وسمعت الشريط وإذا وزير الداخلية يكرس فقرات طويلة من خطابه للهجوم على رئيس حزب الوفد، ثم يتجاوز بالسب والقذف، واصلا إلى أصول العائلة وجذورها، وكان «فؤاد سراج الدين» مستفزا وبحق، وهو يحكى لي وقائع ما جرى!!
واتصلت و«فؤاد سراج الدين» أمامى ب «أسامة الباز»، وكان فى مكتبه بوزارة الخارجية القديم، أسأله إذا كان يستطيع أن يمر علينا، وهو على بُعد خمس دقائق بالسيارة من مكتبى، وبالفعل جاء «أسامة» وسمع بنفسه رواية «سراج الدين»، وتعهَّد بأنه سوف يأخذ الشريط إلى الرئيس، وهو «يثق أنه لا يرضى بإهانة أحد، خصوصا رجل فى مقام «فؤاد» (باشا).
وبعد يومين اثنين اتصل بى الرئيس «مبارك» بنفسه على التليفون يقول «إنه عرف بما وقع وحقق فيه وأنه طلب من «زكى بدر» أن يعتذر ل«فؤاد سراج الدين» وأن وزير الداخلية نفذ الأمر وهو يطلب اعتبار الموضوع منتهيا».
وأضاف «مبارك»:إن «زكى بدر» حاول أن يلف ويدور معه، مدعيا أن شريط التسجيل مزور، ولكنه لم يعطه الفرصة، ثم راح «مبارك» يروى ما جرى بعد ذلك. وطبقا لروايته: “اتصل به «زكى بدر» وأبلغه أنه اعتذر فعلا ل«سراج الدين» وبأمر الرئيس رغم أنه مازال مصرا على أن الشريط مزور. وسأله «مبارك»: هل «قَبِلَ» «فؤاد سراج الدين» الاعتذار؟! وكان الرئيس «مبارك» يضحك وهو ينقل لى ما سمعه من وزير الداخلية «زكى بدر»، الذى رد عليه قائلا له: سيادة الرئيس أنت تعرف «فؤاد سراج الدين»، هذا النوع من الناس لا يمكن إقناعهم، فهم (……)، وكلها شتائم أقذع مما قال فى الشريط. واستطرد «مبارك»: تصور أنه وهو ينكر فى كلامه معى، كرر السب والقذف بأشد مما قاله علنا، و.. « »!!ولم أتمالك نفسى فأبديت ملاحظة تساءلت فيها: «هل هذا معقول؟”
وكانت المفاجأة أن الرئيس «مبارك» رد بقوله: «أنت لا تعرف «زكى بدر» لسانه مفلوت و(……)، وكانت كلمات الرئيس فى وصف وزير داخليته «أصعب» مما قاله «زكى بدر» عن «سراج الدين»، ولاحظ «مبارك» بسكوتى أننى مأخوذ مما سمعت منه هو أيضا، ثم كان تعليقه الأخير «لا مؤاخذة يا محمد بك»، يظهر أن «الكتابة» تعلِّمكم الشعر، ولا تعرِّفكم «عن الدنيا وما فيها»!!
واتصلت بالأستاذ «فؤاد سراج الدين»، أرجوه نقلا عن الرئيس أن يعتبر المسألة منتهية، وأن «زكى بدر» على ما أظن اعتذر له.
ثورة 1919
وقال لى «فؤاد سراج الدين»: «الرئيس «مبارك» كلمنى فورا، وسألنى إذا كان «زكى بدر» قد اعتذر لى، وإذا كنت قبلت اعتذاره!!”. وأضاف «سراج الدين»: أنه يقترح أن نلتقى ظهر اليوم التالى على الغداء فى بيته ونتحدث فى هذا الموضوع، وفى غيره من هموم الساعة، وعلى الغداء فى بيته فى «جاردن سيتى» التقينا فى اليوم التالى، وكنا على المائدة خمسة: “فؤاد سراج الدين” نفسه والسيدة «ليلى المغازى»، وهى صديقة عائلية قديمة رأت أحوال الفوضى فى حياة ذلك السياسى المخضرم بعد وفاة زوجته السيدة «زكية البدراوى»، خصوصا وهى تعرف أن صحة ابنته الكبرى «نائلة» لم تكن على ما يرام، كما أن ابنته الثانية «نادية» متزوجة وتعيش فى الكويت وكذلك اقتربت هى من حياته ترتب شئون بيته، وكان الثالث هو الصديق ورفيق السجن المشترك «عبدالفتاح حسن» (باشا) قطب حزب الوفد السابق، ووزير الدولة مع «فؤاد سراج الدين» فى وزارة الداخلية، لأن «فؤاد سراج الدين» كان مسئول وزارتين فى وزارة «مصطفى النحاس» (باشا) الأخيرة وهما: المالية والداخلية. ثم قرينتى وأنا.
وراح «فؤاد سراج الدين» يحكى منذ اللحظة الأولى, حكى كيف وصله شريط التسجيل (من ضابط بوليس كبير يعرفه منذ كان هو نفسه وزيرا للداخلية قبل الثورة! وكيف اتصل به «زكى بدر» يحاول التنصل من الاعتذار بأن الشريط مزور، وأنه قال له «إنه كوزير سابق للداخلية لا يرضى لوزير لاحق أن يراوغ كما يراوغ أى متَّهم أمام مأمور القسم الذى احتجز فيه!”، ثم وصل «سراج الدين» إلى اتصال «مبارك» به، وإذا «فؤاد سراج الدين» يسمع من الرئيس «مبارك» مثلما سمعت قبله فى وصف رئيس الدولة لوزير داخليته. وقال «فؤاد سراج الدين» إنه سأل «مبارك» «إذا كان ذلك رأيك فيه، فلماذا لا تغيره؟!!».
ورد «مبارك» بأن: “كلهم رشحوه كضابط بوليس قادر على مواجهة حالة الإرهاب فى البلد، لكنه الآن يفكر جديا فى تغييره”.
وواصل «فؤاد سراج الدين:” إن الرئيس سأله بعدها إذا كان لديه مرشح يصلح؟”
وأجابه فؤاد سراج الدين” إن الرئيس يستطيع اختيار أى خفير فى أى بندر، ولن يكون اختياره أسوأ من اختيار «زكى بدر».
وتطوَّع «عبدالفتاح حسن» (باشا) يقول موجِّها كلامه إلى «فؤاد سراج الدين”ولِمَ لمْ ترشح له (يا باشا) أحدا تعرفه بجد؟”
ورد «فؤاد سراج الدين»، وفى رده تجربة سياسى مخضرم:
“هل يُعقل أن يطلب رئيس دولة من معارض له أن يختار مسئولا عن أمنه، بينما هو يعتبر بالتأكيد أن هذا المعارض خطر سياسى عليه؟”
ومضى «فؤاد سراج» ملاحظا ” أنه يستغرب أن يتخلى رئيس بهذه الطريقة عن مرءوس له، حتى وإن أخطأ، وإنما الصواب أن يقوم بتصحيحه فيما بينهما، ومن المعقول أن يطلب إليه الاعتذار لمن أساء إليهم، ولكن لا يكشفه أمام المعارضين ويطلب منهم بديلا يحل محله!!”
وأضاف” إما أن «مبارك» لا يقصد ما يقوله، وما طلبه منى «فك مجالس»، وهذا سياسيا لا يجوز، وإما أنه على استعداد لأن يرمى أى واحد من رجاله فى البحر لتخف حمولة قاربه، وهذا لا يطمئن !! “
●●●
وكان ظنى وقد قلت يومها على الغداء فى بيت «فؤاد سراج الدين» «إنه ليكن ما يكون، وإننى لست مختلفا معه فيما قال، لكن البلد أمام مشكلة حقيقية».
نعم الرجل لديه أسباب للقصور كلنا نراها.
لكنه فى المقابل فإن الرجل يرأس الدولة المصرية فعلا، وليس هناك غيره.
ومن الناحية الأخرى فليست هناك بدائل هذه اللحظة، بل ليست هناك وسائل إلى هذه البدائل.
والظروف فى البلد دقيقة وشديدة، لأن أحدا لا يعرف على وجه التحديد ما يكفى من الحقائق وراء الظاهر مما يراه!!
واتفق «فؤاد سراج الدين» معى فى أشياء واختلف فى أشياء، وكان خلافه فى الأساس قولى «إنه ليس هناك بديل»، وظنه أن حزب الوفد ليس فقط البديل، ولكنه الأصل الشرعى الموجود.
وكان ذلك موضوعا خلافيا بين «فؤاد سراج الدين» وبينى، فقد كان رأيى أن استحضار الماضى مثل استحضار الأرواح غير مقنع فى أبسط الأحوال!! وقد يصبح حزب الوفد نداء لنوع من الديمقراطية، لكنه يصعب علىَّ أن أراه نداء لشكل المستقبل.
والحقيقة الراهنة أن «مبارك» هو الرئيس، وإلى جانب ذلك فليس فى مقدورنا أن نساعده، لأن كلانا لديه تحيزات مسبقة من تأثير انتمائه إلى مرحلة معينة فى التاريخ المصرى، ومع تسليمى بتواصل المراحل، فإن كل مرحلة لها خصائص، وأيضا لها مسئوليات!!
وكان اقتراحى على «فؤاد سراج الدين» «أن يحاول كل من يستطع مساعدة الرجل على أن ينمو بتجربته الخاصة، وذكَّرته بالرئيس الأمريكى «هارى ترومان» الذى كان نائبا للرئيس، ثم رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية بعد وفاة قائدها الأشهر «فرانكلين روزفلت» بينما الحرب العالمية الثانية ضد «هتلر» مازالت تجرى، و«روزفلت» كان قائد التحالف الكبير الذى يخوض الحرب ضد «هتلر»، وهناك قرارات كبرى تنتظر أمره، وأولها قرار استخدام الأسلحة النووية لأول مرة فى حرب (ضد اليابان)»
وأضفت «أن «ترومان» بدا لكل المهتمين بمستقبل العالم آخر رجل يمكن الاعتماد عليه فى قيادة معركة المستقبل العالمى، سواء لإنهاء الحرب أو بعدها، حتى وإن لم يكن سلاما، لكن النخبة فى الولايات المتحدة وقفت مع الرئيس الجديد وأعطته الفرصة، وقد كبر الرجل ونضج بتجربة المسئولية، وأصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين فى القرن العشرين».
ولم يبدُ على «فؤاد سراج الدين» أنه اقتنع بإمكانية أن يتحول «حسنى مبارك» إلى «هارى ترومان» مصرى. وتدخَّل «عبدالفتاح حسن» (باشا) فى الحوار مرة ثانية، يقول موجِّها الكلام لفؤاد سراج»ما رأيك يا باشا أن ينضم («هيكل») إلى الوفد، ويكون من ذلك لقاء بين الثورتين (يقصد سنة 1919 وسنة 1952) وفى حين أن «فؤاد سراج الدين» التفت متحمسا إلى السيدة «ليلى المغازي» يطلب منها أن تذهب بسرعة إلى غرفة مكتبه وتجىء باستمارة عضوية لحزب الوفد فقد قلت من جانبى: «إن «عبد الفتاح حسن» (باشا) لا يريد أن يقتنع بأنى صحفى فقط، لا دخل له بالتنظيمات السياسية، إلى جانب أننى من مؤيدى ثورة سنة 1952 ولكنى لا أمثلها، وفوق ذلك فهناك قناعتى بأن كلا من الثورتين 1919 و1952 قد استوعبها التاريخ المصرى وهضمها، ودخلت عصارتهما فى عروقه، والآن زمان جديد!!”
وكالعادة فى مثل هذه المناقشات لم نصل إلى شىء، وقُصارى ما اتفقنا عليه بعدها: فنجان قهوة ودخان سيجار!!
●●●
وبعد أيام قليلة عاود «مبارك» اتصاله بى، فقد اتصل يشكرنى أننى طلبت موعدا معه لصديق عزيز يزور مصر، وهو الأمير «صدر الدين أغاخان»، وكنت قد طلبت الموعد عن طريق «أسامة الباز»، وتحدد فعلا، وقابله «مبارك»، والآن كان «مبارك» يتصل بى يشكرنى أن أتحت له الفرصة يقابل رجلا مثل «صدر الدين أغاخان» الذى وجده «رجلا عظيما!!».وقال الرئيس «مبارك» على التليفون: «إن «الرجل» يعرف الكثير، وشخصيته آسرة، وهو متواضع رغم أنه أمير».
وقلت: «إنه بصرف النظر عن مسألة الإمارة فإن «صدر الدين أغاخان» رجل متحضر، وقد عاش تجربة إنسانية كبيرة، عندما قام على مهمة مفوض الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فذلك أتاح له أن يتحرك على اتساع القارات» أضفت: «إن «صدر الدين أغاخان» تحمَّل هذه المهمة بلا مقابل، وحين قيل له إن لكل منصب عقدا، وكل عقد له مرتب فإنه طلب أن يكون مرتبه فى العقد دولارا واحدا كل سنة».
وقال «مبارك»: «هو غنى جدا كما عرفت من «أسامة»، و«أسامة الباز» قال لى إن أتباع مذهبهم يزنونهم بالذهب كل عام».
ثم أضاف: «أنه استفاد من لقائه، واستمتع به» ثم تساءل: «لم يعد هناك ناس كثيرون بهذا الشكل؟!!».
وقلت: «إن الناس موجودين» أضفت: «أن مصر ملأى برجال ونساء لهم قيمة، لكنه لا يراهم».
وسأل: «وكيف نعثر عليهم؟!».
ووجدتها فرصة لأطرح عليه اقتراحا ظننته نافعا.
وسألته: لماذا لا يدعو على غداء أو عشاء أو حتى فنجان شاى، عشرة أو اثنى عشر رجلا أو امرأة من شخصيات مصر مرة كل شهر يعرفهم ويستمع إليهم ويتحاور معهم؟!!
مفكرون أساتذة جامعات رجال أعمال ساسة، حتى ولو كانوا معارضين.
قلت له: «إنه يتعامل مع كل الناس من خلال قنوات رسمية، أو بالأدق من خلال قناة واحدة فى مكتبه، ومع تقديرى لنشاط رجل مثل «أسامة الباز»، فمن حق الرئيس أكثر مما هو واجبه أن يتوسع فى دائرة من يعرف».
وقلت له: «إن الرئيس «چون كنيدى» كان يتبع هذا التقليد».
غداء أو عشاء أو فنجان شاى منظم كل شهر مع مجموعة متنوعة من عناصر الفكر والفعل فى البلد، ومن خارج المجال الرسمى. رد بعد قليل: «إن كل هؤلاء سوف يخرجون ويملأوا الدنيا كلاما معظمه «هجص».
وقلت: بإذنه فإنه يظلم الناس، ومع ذلك فماذا يحدث لو تكلموا أو تكلم بعضهم، ثم إن ذلك ربما يحدث فى بداية التجربة، لكنه عندما تتعود النخب على لقاء رئيس الدولة ويسمع منها وتسمع منه فإن التجربة سوف تأخذ مسارها الطبيعى، ولا تعود عجبا يستوجب كثرة الكلام!!». قلت أيضا: «إنه إذا كان قد استفاد من لقائه مع «صدر الدين أغاخان»، فإن كثيرين من العالم الخارجى مجموعة شخصيات متنوعة ومنتقاة يمكن دعوتها للقائه فى مصر ولأحاديث مفتوحة معه». وأضفت «أننى فعلت ذلك مع «جمال عبدالناصر» ورتبت لكثيرين من نجوم ذلك العصر أن يجيئوا إلى مصر ضيوفا علينا ويلتقون به، بحيث تحتك أفكار بأفكار، وتتلاقى عقول مع عقول، وإنى أتذكر أن «جمال عبدالناصر» استفاد من رجال ونساء دعوتهم إلى مصر، ومنهم على سبيل المثال الماريشال «مونتجمرى» والچنرال «بوفر» و«چان بول سارتر» و«سيمون دى بوفوار»، وصحفيين عالميين من أمثال «والتر ليبمان» و«ساى سالز بورجر» و«دنيس هاملتون» وساطع الحصرى وقسطنطين زريق وكلاهما من جيل المفكرين القوميين الكبار، وكثيرين غير هؤلاء.
وسكت «مبارك» قليلا، ثم تساءل:
«ولماذا لا تفعل نفس الشىء الآن؟!» ثم أضاف «أننى عرضت عليك أن تدخل الحزب ومن داخله تستطيع أن تتصرف».
وقلت: سيادة الرئيس.. أولا أنا لم أنتمِ حزبيا طول عمرى. وثانيا فإننى لا أستطيع أن أكرر معك ما فعلته مع «جمال عبد الناصر»، لأن التاريخ لا يعيد نفسه على حد ما قال «كارل ماركس»، التاريخ لا يعيد نفسه وإذا فعل فهو فى المرة الأولى دراما مؤثرة، وفى المرة الثانية مهزلة مضحكة!!». وأدهشنى تعليقه: “الله.. تستشهد ب«كارل ماركس»؟ ثم كان اقتراحه تكرارا لسابقة فى ذاكرتى، أن يبعث إلىَّ ب«أسامة الباز» أتحدث معه فيما أتصوره لتنفيذ ما اقترحه.
●●●
وجاء «أسامة الباز» فعلا، ومعه نفس الدفتر الأصفر مما يستعمله رجال القانون فى أمريكا، لكنه لم يخرج قلما من جيبه، وإنما راح يحاورنى وهو يجلس أمامى ويهز رأسه على طريقته «عندما يواجه معضلة»، ويقول ” أنت تتعب نفسك، وتتعب الناس معك دون داعٍ هو لن يقابل أحدا، قد يكون «انبسط» من مقابلة «صدر الدين أغاخان»، لكن هؤلاء ليسوا نوع الناس الذين يستريح معهم”.
وقاطعته: لماذا تفترض ذلك، دع الرجل يرى ويسمع ويعرف أن البلد والعالم ملأى برجال ونساء يستطيع أن يتعلم منهم! ثم قلت: «أسامة» لديك فرصة «تأهيل» رئيس..!
وبدوره قاطعنى «أسامة»: «أنا أعرفه أكثر منك، وصدقنى هو لا يستريح إلا لمن يعرفهم، وأما غيرهم فهو من الأصل لا يشعر معهم بالاطمئنان”، وأظن أن «أسامة» كان يعرف أكثر، فلم أسمع بعدها عن الفكرة، لا من «مبارك» ولا من غيره!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.