بقلم: د.حبيب عنون، باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية يبدو أن حكومة بنكيران من شدة وطأة انتقادات ليس فقط بشأن بطء أدائها الحكومي بل وحتى بشأن التوجه الاقتصادي والاجتماعي المتمادية في تبنيه والذي بات يزكي صفة العشوائية والارتجالية التي ميزته منذ توليه تدبير الشأن العام، ها هو السيد باها وفي أول خرجة إعلامية له يصرح بكون التخلي عن صندوق المقاصة لن يكلف المواطن المغربي حسب تصريحه سوى 600 درهم شهريا كزيادة في نفقاته المعيشية المتهالكة أصلا، بالموازاة، وهذا استهتار بالمستضعف، مع منح طبقة هذا الأخير 1000 درهم شهريا. فالحديث القائم والمتناقض بخصوص إسقاط صندوق المقاصة والذي لا أعتقد أن يكون المجلس الأعلى للمنافسة قد يشاطر الحكومة في هذا التوجه في هذه الظرفية، يطرح عدة ملاحظات وتساؤلات عن 600 درهم و1000 درهم. لماذا مبلغ 600 درهم بالضبط ؟ أولا : لن يكون من محض الصدفة أن يكون هذا الرقم هو ذاك الرقم الذي أضيف لأجر الموظف ولو بصفة غير مرضية حين كان حزب بنكيران ضمن المعارضة. أما والتموقع ضمن فعاليات المشهد السياسي قد تغير، فمما لا ريب فيه أن حكومة بنكيران ارتأت أن الحجم الاجمالي للزيادة السابقة كان من بين ما أرهق ميزانية الدولة وبالتالي فأقرب سبيل، من وجهة نظر حكومة بنكيران، هو المواطن المغربي من خلال استرداد بطريقة غير مباشرة هذه الزيادة. ولن يستقر الأمر عند هذا الحد لكون الزيادة ستزيد وطأتها على القدرة الشرائية كلما زادت أثمان المواد الأساسية التي قررت حكومة سحبها من الدعم الحكومي مع إسقاط صندوق المقاصة. أولم تتذكر حكومة بنكيران الضجة والمشاورات التي قامت في عهد حكومة جطو عند محاولة زيادة 10 سنتيمات فقط في سعر الخبزة الواحدة ؟ والزيادة كذلك في سعر قنينات الغاز ؟ ثانيا: على أي أساس علمي وبالخصوص على أية رؤى مستقبلية ارتكز كل من باها وبوليف في تحديدهما لمبلغ 600 درهم كانعكاس إسقاط صندوق المقاصة على القدرة الشرائية للمواطن المغربي ؟ وعن أي مواطن مغربي يتحدثان؟ فإذا كان التعميم فهذا لن يكون عادلا لكون بنية المجتمع المغربي غير منسجمة من حيث الدخل وبالتالي من حيث القدرة الشرائية، ناهيك عن اختلافها بين جهات المغرب. فإذا كانت بنية المجتمع المغربي تغلب عليها شريحة ذوي الدخل الهزيل والغير قار وذوي الدخل المحدود والدخل المتوسط فهذه الشرائح هن من سيكتوين من انعكاسات الزيادات المرتقبة في المواد الأساسية للعيش البسيط وبالتالي فبنكيران برضاه وبتزكية ما يقترحه وزيره بوليف، فهو يستهدف الشريحة المجتمعية ذات القدرة الشرائية الدنيا والمتوسطة عوض الشريحة المجتمعية الميسورة التي عجزت حكومته على إخضاعها للضريبة على الثروة والضريبة على ذوي الأجور والامتيازات الخيالية. ثالثا : إذا كان إسقاط صندوق المقاصة أي توقف الحكومة عن دعم المواد الاستهلاكية الأساسية هو التوجه الذي ستتخذه حكومة بنكيران سبيلا، فوجب على هذه الحكومة العمل على تواجد سوق تسودها المنافسة الحرة عوض الاحتكار السائد وقلة المنتجين الذي يتناقض شكلا ومضمونا مع إحدى أسس الليبرالية الاقتصادية. ففي غياب سوق بمواصفات الليبرالية الاقتصادية الحقيقة والملموسة، لن يوصف إسقاط صندوق المقاصة وما سيعقبه من ارتفاع في المواد الاستهلاكية للمواطن المغربي إلا كتلك “نقطة الماء التي ستفيض الكأس. رابعا : ففي الوقت الذي نجد فيه الدول المتقدمة وفق النظريات الاقتصادية تسعى إلى إنعاش الطلب أي القدرة الشرائية للمواطن وكذا الطلب العام كمحرك أساسي لإنعاش العرض وبالتالي تنشيط الاقتصاد الوطني، ذلك أن إنعاش الطلب من خلال إنعاش القدرة الشرائية يعتبر من إحدى ضمانات استقطاب وتحفيز ألاستثمارات نجد أن حكومة بنكيران تسلك اتجاها معاكسا مضادا لتحفيز الطلب وبالتالي نجدها تتساءل عن ضعف الاستثمارات أو تعليل العجز عن استقطابها بانعكاسات الأزمة العالمية. خامسا : وفي غياب آليات ضبط أسعار المواد الاستهلاكية تشهد سوق المواد الاستهلاكية حركية استثنائية مشحونة بسؤال واحد : ماذا بعد رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية ؟ تجعل من المستهلك (الطلب) عرضة لسلوكيات غير مسبوقة من طرف البائع (العرض) كما لو أن صندوق المقاصة قد تمت فعلا إزاحته.. فسلوكيات العرض والطلب فد بدأت تسبق إلغاء دعم المواد. “فالمستهلك بدأ يقتصد والبائع بدأ يخزن قصد البيع بثمن أكبر”. وليس هذا بغريب عن النظرية الاقتصادية التي اهتمت ب les anticipations rationnelles des agents économiques إلا أن هذه النظرية تصطدم بتوجه اقتصادي مبهم وسلبي لا يمكن من جعل سلوكيات الفاعلين الاقتصاديين سلوكيات عقلانية. وهذا مسار قد يخلق متاعب لا يمكن التنبؤ بعواقبها في مجال تدبير الشأن العام. 2 - ماذا عن “هبة” 1000 درهم: لفائدة من؟ وإلى متى؟ أولا: حقيقة وتناقضات 1000 درهم عجيب أن الشريحة المجتمعية التي كانت مسنودة عن أحقية من خدمات صندوق المقاصة ستجد نفسها محرومة منه مقابل منحها 1000 درهم شهريا. إلا أن هذه الشريحة وجب أن يخبرها بنكيران بأن 1000 درهم ليست بمنحة حقيقية بل مجرد إسمية. ذلك أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة التضخم إضافة إلى 600 درهم التي ستثقل قفة المستهلك بعد إزاحة صندوق المقاصة، فالقيمة الحقيقة ستتراوح بين 350 و400 درهم شهريا فقط هذا إذا ما استقرت أسعار المواد الأساسية التي تدعمها الحكومة على حالها وهذا أمر جد مستبعد. وفي واقع الأمر فالمستهدف الحقيقي للإنعاش من إسقاط صندوق المقاصة هي ميزانية الدولة وليس هاته الشريحة المجتمعية المستضعفة. فما ستمنحه حكومة بنكيران باليمين سأتخذه بالشمال مضيفة إليه الضريبة على القيمة المضافة عند الاقتناء. وإذا كان التخفيف من عجز ميزانية الدولة يمكنه أن يمر عبر إسقاط صندوق المقاصة، فهذا أمر لن يستساغ من طرف المواطن المغربي الذي بات على بينة من كون من يثقل ميزانية الدولة هي نفقات لا علاقة لها بتاتا بدعم المواد الأساسية للمواطن المغربي بل بات متيقنا أيضا بكون حكومة بنكيران تسير في الاتجاه المعاكس للخطاب أو البرنامج الذي دشنت به ولوجها حقل تدبير الشأن العام. كل ما أفلحت فيه هو إبقاء الحال على ما هو عليه بالنسبة للطبقة الميسورة من امتيازات وأجور عليا وعلاوات والسكن الفاخر الوظيفي (وما خفي كان أعظم وأشد وطأة على ميزانية الدولة)، متوجة هذا التوجه بعفا الله عما سلف جاعلة من الطبقة الدنيا والطبقة المتوسطة ورشا لتفعيل ما لم تستطع تفعيله اتجاه الطبقة الميسورة وجاعلة إياها تتيه في شعارات محاربة الفساد والريع والمساواة والعدالة بل جعلت من هذه الطبقات “تغوص في مستنقعات الضفادع وعالم الجن والعفاريت والتماسيح”. إنها سذاجة الخطاب السياسي في أبهى حلله. ثانيا: 1000 درهم غير ضامنة لولاية ثانية من سيصدق المواطن المغربي هل باها وبجواره بوليف الذي صرح بكون الالغاء التدريجي للمواد المدعمة سيترجم بزيادة مبلغ 600 درهم شهريا في النفقات الاستهلاكية للمواطن المغربي، أما تصريح البركة وبجواره الأزمي الذي أكد أن أسعار المواد المدعمة لن تعرف زيادة. أما أوزين فقد حذر من الكف عن دعم المواد الأساسية ؟ تصريحات متناقضة ومبهمة لا تطمئن بقدر ما تزكي فرضية كون قطار حكومة بنكيران ربما قد بدأ يزيغ عن سكته. وبالفعل فهل نحن أمام تصريح حكومي موحد أم أمام تصريحات مختلفة لوزراء تنتمي لنفس الحكومة ؟ وأيهم الأصح ؟ والغريب أن الأحزاب المتبقية والمشكلة للمشهد السياسي وكذا الفعاليات النقابية، فلم تصدر عنها أية ردة فعل !! فمبلغ 1000 درهم التي ابتدعها وزراء العدالة والتنمية لن تكون كافية لضمان ولاية ثانية لكون المواطن المغربي بات يطالب بعدالة في توزيع ثروات بلاده وهو ليس بطالب لمساعدة ولا بصدقة بل بحقه في التمتع بما يتمتع به الآخرون. ما الذي يصلح في العدالة التي هي مرآة المساواة إذا لم تتجه نحو إرساء عدالة في العيش الكريم ؟ ليس هذا بابتداع ولكنه وبكل بساطة تجسيد لروح الدستور المغربي. لقد صدق القول من سبق وأكد أن مضمون مقتضيات دستور 2011 تعلو بكثير عن ما اقترحته جل الأحزاب. ثالثا: إلى متى ستدوم هذه المساعدة المالية؟ يطرح هذا التساؤل نفسه لكونها ستصبح تقليدا ترهن به كل الحكومات المقبلة لكون المساعدة ستصبح مكتسبا وإرثا من الصعب الاستغناء عته. وماذا إن اتسعت رقعة المستضعفين ؟ وماذا إذا توفي المستضعف المستفيد وترك وراءه درية ؟ لن يكون بوسع الحكومة إيقاف المساعدة لليتامى ؟ وماذا بعد (…)؟ وكالعادة، سيعهد للحكومة المقبلة فيما بعد التفكير في كيفية التعامل مع هذه التركة. ألا تعتبر هذه المساعدة نوعا من الريع السياسي أو بداية لحملة انتخابية قبل الأوان ؟ كل التفسيرات واردة. عجيب أن تنغمس بعض الحكومات في محاولة إيجاد حلول لإشكاليات متشعبة عوض الانكباب على معالجة إشكاليات أقل تشعبا وحساسية وقد يكون حل هذه الأخير ممهدا الطريق لمعالجة الإشكالية المتشعبة. الخلاصة: التفكير في إزاحة صندوق المقاصة بغية تقويم ميزانية الدولة إنما هو تفكير مجانب للتدبير العقلاني للموارد المالية للدولة ونفقاتها خصوصا وأن آليات اشتغال الاقتصاد المغربي لم تتمكن بعد من إرساء أسس اقتصاد ليبرالي خاضع في توازناته لآليات السوق أي العرض والطلب. لا أحد يعارض الاصلاح والتقويم ولكن ليس حساب الأغلبية المنهكة لفائدة الأقلية الميسورة بسبب سوء اختيارات تدبير مختلف قطاعات الشأن العام. فإذا كانت الدول المتقدمة تكون إصلاحاتها تتسم بالشمولية ابتداء من الطبقات الميسورة كي تكون نموذجا في اتجاه تنازلي نحو الطبقات الدنيا لتتحمل ولتستفيد كل الشرائح الاجتماعية دون استثناء من انعكاسات وإيجابيات كل مبادرة إصلاح. أما الحكومة الحالية، فنراها تبدأ الاصلاح على حساب الطبقات الدنيا والمتوسطة دون المساس بالطبقات الميسورة التي في واقع الأمر تعتبر امتيازاتها ومكتسباتها أصل ومصدر الاختلالات التي يعرفها الاقتصاد المغربي. وهذا التوجه لا يتناغم ومصطلحي العدالة والتنمية التي اتخذهما حزب الأغلبية الذي يترأس الحكومة تسمية له. فمكامن الخلل بات معروفة لدى الكل والتدابير الملازمة للإصلاح هي كذلك معروفة لدى الكل ولم يعد هناك أي مجال لا لاستيعاب المزيد من الخطابات التمويهية ولا لتحمل المزيد من التدابير الترقيعية التي من شأنها المساس سلبا بالمستوى المعيشي المتدهور أصلا للمواطن المغربي. فأي محاولة لإسقاط صندوق المقاصة في الظروف الراهنة ستجعل حزب الأغلبية في موقع ذاك الرجل “الأسود اللون والقبيح المنظر” الذي لاقاه المتنبي يوما فخاطبه قائلا: ما اسمك يا رجل ؟ فأجاب الرجل اسمي زيتونا. فرد عليه المتنبي بهذه الابيات: سموك زيتونا وما انصفوا لو انصفوا سموك زعرورا لان في الزيتون نورا يضيئ وانت لا زيتا ولا نورا