الدكتور أحمد الريسوني بقلم: الدكتور حسن خطابي، أستاذ القانون العام (جامعة الحسن الأول) هل يمكن الحديث عن “دولة متعجرفة”؟ مناسبة هذا التساؤل هو المقال المنشور في جريدة المساء للأستاذ أحمد الريسوني تحت عنوان ” الدولة المتعجرفة…إلى أين؟ “. إذ من المعروف في الأدبيات القانونية وعلم السياسة أن الدولة شخص معنوي، وأن نعث العجرفة يصدق على الشخص الطبيعي وليس على الشخص المعنوي. وعليه، فالدولة لا يمكن أن “تتعجرف”، ولا يمكن أن “تغصب”، ولا يمكن أن “تضحك أو تبكي” أو “تتناول طعام الغذاء مع السيد أحمد الريسوني !!! فقد تناول هذا الأخير في مقالته “السلوك الفض لبعض موظفي إدارة الدولة وأعوانها المدنيين والعسكريين” بالرغم أنه يتحدث عن الدولة !!، وفي هذه الحالة يستقيم استعمال العجرفة على اعتبار أن هذا النوع من الموظفين وأعوان الدولة متعجرفين. غير أن الأمر يتعلق بحالات معزولة يمكن أن نصادفها في أي مكان من المجال الاجتماعي وليس بالضرورة في إدارات الدولة. مع أن الكاتب تحدث عنها وكأنها القاعدة العامة معززا رأيه بنص المادة 263 من القانون الجنائي الذي اعتبره قانونا يعكس عجرفة الدولة ويحميها !! وينص هذا الفصل على أنه ” يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة، وغرامة من 250 إلى 5000 درهم من أهان رجال القضاء أو الموظفين العموميين أو رؤساء أو رجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها…” فهو يعاقب إذن على إهانة بعض الموظفين وأعوان الدولة، والإهانة في الفقه هي ” كل عبارة مهينة، أو قذف موجه لممثل السلطة العامة أثناء قيامه بواجبه بشيء ينقص من الهيبة التي يتمتع بها، ويكون مساسا بالاحترام الواجب بالوظيفة التي يمارسها وإنقاصا للسلطة المعنوية للشخص المهان “. وهو نص قانوني أخذ حرفيا تقريبا من القانون الجنائي الفرنسي، والذي سوف نعود إليه لاحقا !!!!! فإهانة الموظف العمومي تعتبر من الجرائم التي تعاقب جميع التشريعات عبر العالم المتحضر إذ لا يستقيم عمل الدولة دون الحماية القانونية لممثليها. ومن الأمثلة على ذلك المادة 133 من قانون العقوبات المصري التي تنص على أن ” من أهان بالإشارة أو القول أو التهديد موظفا عموميا أو أحد رجال الضبط أو أي إنسان مكلف بخدمة عمومية أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز 200 جنيه . وإذا وقعت الإهانة على محكمة قضائية أو إدارية أو مجلس أو على أحد أعضائها وكان ذلك أثناء انعقاد الجلسة تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تتجاوز 500 جنيه “. وهناك أيضاالمادة 173 من قانون العقوبات العماني التي تنص على أن ” كل من أهان موظفاً بالكلام أو بالحركات، علانية أو بالنشر، أثناء قيامه بوظيفته أو بمناسبة قيامه بها، يعاقب بالسجن من عشرة أيام إلى ستة أشهر. وإذا وقعت الإهانة على قاضي في منصة الحكم يحكم القاضي على الفاعل في نفس جلسة المحاكمة بالسجن من ستة أشهر إلى سنتين.” وحتى لا يقال بأن هذه الدول لا تختلف عن الدولة المغربية في ” عجرفتها ” نعود مرة ثانية لفرنسا حتى نذكر صاحب المقال بأنه جانب الصواب في كلامه نظرا لأنه خرج عن نطاق اختصاصه وهو العارف بأنه لايجوز للمرء الخوض إلا في الأمور التي تدخل في مجال اختصاصه العلمي. فالقانون الجنائي الفرنسي يعاقب على إهانة ممثلي السلطة العمومية، بل وكل من يساهم في تسيير أو إدارة مرفق من المرافق العامة للدولة، وهو ما لا نجده في القانون المغربي على الإطلاق !! فبموجب المادة 433-5 من هذا القانون الجنائي الفرنسي، “يعاقب بغرامة مالية محددة في 7500 أورو كل من أهان شخصا مكلفا بمهمة عمومية سواء بالكلام أو بالإشارات أو بالتهديد أو بصور أو كتابات من شأنها المس بكرامة الشخص العمومي المذكور أو المس بالاحترام الواجب للمهمة التي يضطلع بها. وحينما تكون هذه الإهانة موجهة لشخص يمثل السلطة العمومية فالعقوبة تتحدد في 6 أشهر سجنا و7500 أورو غرامة” !!! وبالرجوع إلى القانون المغربي نجد أن جريمة الإهانة لا تطبق بإطلاق على كل الموظفين العموميين كما هو مبين في القانون الفرنسي، بل فقط على الموظفين الذين يتمتعون بسلطة إصدار الأوامر وهي صفة لا يمتلكها كل الموظفين العاديين، فمثلا رجال التعليم لا تدخل مهنتهم في إطار مفهوم موظفي السلطة. والدليل أن وزارة التربية الوطنية اضطرت إلى إصدار بيان يوم 12 أكتوبر 2012 تدين من خلاله الاعتداءات على أسرة التعليم جاء فيه أنه ” على إثر الاعتداءات الجسدية والنفسية التي يتعرض لها من حين لآخر نساء ورجال التربية داخل المؤسسات التعليمية أو في محيطها، فإن الوزارة تدين بشدة مثل هذه السلوكات الدنيئة والتصرفات غير المقبولة والتي من شأنها الإساءة إلى أسرة التربية والتكوين.” قس على ذلك معاناة الممرضات والطبيبات في أقسام المستعجلات، خصوصا في المداومة الليلية، أليس هؤلاء من موظفي الدولة؟ ومع ذلك لا تحميهم المادة 263 من القانون الجنائي المغربي بالرغم من أنهم في حاجة إلى الحماية. على أن الاكتفاء بهذا النص القانوني هو أشبه بالوقوف عند ” ويل للمصلين ” لأن القضاء الإداري يشكل ضمانة للمواطنين لأخذ حقوقهم من الدولة في حالة ما إذا تعرضوا لأي شطط في استعمال السلطة من طرف موظفيها وأعوانها، وفي هذا السياق سنسوق حكمين لمحكمتين إداريتين مختلفتين صدرا في نفس السنة. فاعتمادا على المبدأ الذي يقضي بأن دعاوي المسؤولية الموجهة ضد الدولة عن الأخطاء المرتكبة من موظفيها أثناء تأديتهم لوظائفهم يرجع البت فيها للقضاء الإداري، قضت المحكمة الإدارية في الرباط في الملف رقم 991 66 ش ت بتاريخ 16 يناير 2007 بأنه ” حيث إن المحكمة بعد دراستها لمعطيات النزاع يتضح أن الطلب يرمي إلى مسؤولية الدولة عن الضرر الناتج عن إغفال المحافظ تضمين التقييد الاحتياطي على العقار. وحيث إن المحافظ العام هو موظف عمومي وأن الدولة مسؤولة عن الأخطاء المرتكبة من طرف موظفيها أثناء تأديتهم لوظائفهم فإن المحكمة الإدارية تبقى صاحبة الاختصاص للبت في الطلب. “ ومن المبادئ السائدة أيضا في القضاء الإداري أن تماطل الإدارة في تنفيذ الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به من شأنه أن يثير مسؤولية الدولة والتزامها بالتعويض عن الضرر اللاحق عند الاقتضاء، وقد اعتمد الحكم الصادر بتاريخ 7 يونيو 2007 عن المحكمة الإدارية بأكادير على هذا المبدأ في القضية عدد 215/2007 حيث ورد فيه أنه ” حيث أن المحكمة انطلاقا من سلطتها التقديرية ومراعاة للمدة التي لم يتم فيها تنفيذ الحكم الصادر لفائدة المدعي، ولعلاقة الحكم المذكور بالقضايا الاجتماعية التي تتميز بالطابع لإنساني، فإنها تحدد التعويض المستحق للمدعي في مبلغ 10.000 درهم.” هكذا يظهر على أن الاقتصار على نص قانوني وحيد وحالات معزولة لتعميم حكم قيمة أمر لا يستقيم في المجال القانوني، خصوصا في الدول الديمقراطية كالمغرب، التي تكون فيها سلطة الإدارة محدودة ومراقبة من طرف السلطة القضائية، وخصوصا القضاء الإداري الذي يقدم خدمات جليلة للوطن والمواطنين، وإن كان العديد منا يجهل هذه الخدمات لكونها لا تهتم بالقضاء الجنحي والجنائي بل تنصب على قضايا ذات صبغة اجتماعية محضة. لقد شهدت علاقة الدولة بالفرد بعد الحرب العالمية الثانية تحولا تمثل في كون الإدارة أصبحت أكثر ارتباطا بالأفراد وأكتر احتكاكا بهم، بعد أن كان دورها يقتصر على الوظائف السيادية المتمثلة في الحفاظ على النظام العام. فتوسعت بذلك سلطات واختصاصات الإدارة في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية، مما نجم عنه في الكثير من الأحيان تعسف في استعمالها لهذه السلطة أثناء اتخاذ بعض القرارات. وفي مقابل سلطات الإدارة هناك حقوق مصانة للإفراد بموجب القوانين والتنظيمات، ولأنها أحيانا تتعرض للانتهاك والخرق فقد نشأ عن هذه العلاقة الجدلية ما يسميه علم القانون الإداري بالمنازعات الإدارية التي يعتبر القضاء الإداري أهم وسائلها. وختاما نقول للسيد أحمد الريسوني الدول، كل الدول، لا يستقيم عملها إلا بتوفي الحماية لموظفيها أثناء مزاول مهامهم، ولكن في احترام تام للضوابط والقوانين المعمول بها والتي تضمن حقوق المواطن المرتفق !