اعتبر تقرير السيد شكيب بنموسى حول النموذج التنموي أن الرقميات تشكل عاملا حاسما في تحقيق مغرب الغد. وقد احتلت الرقميات حيزا مهما في هذا التقرير الذي ركز على ضرورة إسراع المغرب في تنزيل المخطط الرقمي وتحقيق التحول الرقمي. فلماذا هذا الاهتمام بالتحول الرقمي؟ وما هي أسباب التنزيل؟ منذ إنشائها في 1983، استطاعت شبكة الأنترنيت أن تصل إلى أرقام فلكية حيث أن بعض التطبيقات تجمع أكثر من مليار شخص يمكن أن يجتمعوا في شبكة اجتماعية ويتواصلوا بينهم بكل حرية أو يشكلوا سوقا تجارية لم تشهد له البشرية مثيلا. كما أن خدمات الأنترنيت، تتوسع بشكل كبير، وأصبحت حاضرة في كل مجالات الحياة كالإدارة والمقاولة والمهن الحرة والمعاملات المالية والتجارية إلى غير ذلك. بل أكثر من ذلك أصبحت هذه الخدمات تدخل في عداد المؤشرات المتعلقة بالموارد البشرية والاستثمارات والاندماج الاقتصادي وغيرها من المجالات. بعد الجيل الرابع للهاتف النقال، شرعت بعض الدول في تعميم الجيل الخامس من الهاتف النقال. هذه النسخة الجديدة من الهاتف النقال سينتج عنها ثورة تكنولوجية غير مسبوقة، ذات بعد اجتماعي واقتصادي عنوانها ثورة " الكل متصل " (Tout Connecté). إلى حدود الجيل الرابع لم يكن الحديث سوى عن الربط بشبكة الأنترنيت من خلال الهاتف النقال أو الكومبيوتر وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالربط أو الأنترنيت الافتراضي الذي تحتل فيه مواقع التواصل الاجتماعي مكانة مهيمنة. لكن مع الجيل الخامس ستطرح شبكة الأنترنيت مفهوما جديدا سيغير ملامح العالم ليس الافتراضي وإنما العالم الذي نلمسه ونعيشه. مفهوم عنوانه "أنترنيت الأشياء". ثورة "الكل متصل" تعني أن كل ما يتحرك في اليابسة سيصبح مرتبطا بالأنترنيت كالسيارة والمنزل والبضائع والماشية، بل يمكن أن يشمل هذا المفهوم الإنسان كذلك. وتفيد بعض الدراسات أن الجيل الخامس سيسمح بربط 50 مليارا من الأشياء بالأنترنيت. أما الشبكة العنكبوتية فستشهد تطورا موازيا لما ستشهده شبكة النقال حيث سيظهر للوجود مفهوم "أنترنيت الأشياء" (Internet des Objets) وهو ما يعني أن خدمات الأنترنيت ستخرج من الفضاء الافتراضي لتشمل فضاء الواقع البشري. هذا التطور سيكون متكاملا مع مفهوم "الكل متصل" الذي سيطرحه الجيل الخامس. ثورة " الكل متصل " ومفهوم "أنترنيت الأشياء" ستشكل المفاهيم المستقبلية التي ستحكم العالم بأسره، لأنها ستصبح حاضرة وبقوة في جميع مناحي الحياة البشرية. لكن الأخطر في الموضوع هو موقع الدول النامية ودول العالم الثالث التي ستجد الهوة التكنولوجية تتعمق بينها وبين الدول الصناعية. هذه الهوة سوف لن تبقى تقاس بالسنوات أو العقود كما هو الحال في وقتنا الحاضر، وإنما ستصبح تقاس بدون مبالغة بسنوات ضوئية. هذا المعطى سيعمق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين العالم المتقدم والعالم الثالث، كما سيجعل محاولات التنمية والتطور التكنولوجي الذي تنشده بعض البلدان العالمثالثية لتقليص الهوة التكنولوجية مع العالم المتقدم، ستتراجع بشكل كبير إن لم تقم هذه الدول باستثمارات كبرى في تكنولوجيا الغد التي تتطلب إعادة هيكلة النسيج الاقتصادي والتنموي. وفي المجال الاقتصادي يكفي أن نشير إلى دراسة نشرها مؤخرا معهد ماكينزي العالمي يشير فيها إلى أن تكنولوجيا "أنترنيت الأشياء" ستضيف ما قيمته 11 تريليون دولار للاقتصاد العالمي كل عام مع حلول 2025. هذه القيمة الاقتصادية التي ستتيحها التكنولوجيا الجديدة، لن تستفيد منها إلا الدول التي استثمرت فيها بكثافة. وإذا علمنا أن دولا متقدمة أضحت تجد صعوبة في مواكبة ما يشهده العالم الصناعي من تطور تكنولوجي، وتجد موقعها بين نادي الدول المتقدمة مهددا بالتراجع كما هو حال فرنسا وألمانيا مثلا، ندرك مدى الخطر الذي يتهدد بلدان العالم الثالث والبلدان المصنفة "في طريق النمو" ومنها المغرب، وندرك كذلك الهوة التكنولوجية التي ستتسع بشكل غير مسبوق بين العالم الصناعي والعالم الثالث. لكن هذا لن يمنع بعض الدول التي أدركت مبكرا أهمية التقنيات الرقمية واستثمرت فيها كل طاقتها وأموالها، من اللحاق بركب الدول الصناعية ونذكر هنا الهند والبرازيل وتركيا على سبيل المثال لا الحصر. أما الدول النامية فهي مطالبة بالاستثمار بكثافة وبدون تأخير، في تكنولوجيا الغد لتفادي تعميق الهوة التكنولوجية مع العالم المتقدم. والدول التي تبحث على استراتيجية ذكية تسمح بحرق مراحل اللحاق بنادي الدول المتقدمة كما فعلت الصينوالهند، بإمكانها استغلال فرصة الثورة التكنولوجية القادمة كرافعة لتطوير نسيجها الاقتصادي وفرصة لتقليص الهوة التكنولوجية مع العالم المتقدم ولما لا اللحاق بالدول المصنعة. بلدنا المغرب الذي يبحث عن نموذجه التنموي لتقوية موقعه في خارطة الدول النامية، مطالب هو الآخر بالاستثمار المكثف في العالم الرقمي إن أراد تحقيق الأهداف التنموية وضمان نجاحه في النسخة الثانية من نموذجه التنموي. لذلك نجد تقرير السيد بنموسى يتحدث عن ضرورة الاهتمام بالرقميات والتسريع في التحول الرقمي. د. سعيد الغماز/ باحث في التنمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصال