حركة القمصان الصفراء التي اجتاحت فرنسا نهاية شهر نونبر 2018، احتجاجا على عزم الحكومة الزيادة في الضرائب على المحروقات، انطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دون تأطير من النقابات والأحزاب، بمعنى أنها تأكيد على دخول جماهير الهامش إلى منطقة صنع القرار كما يقول عبدالله الغذامي، حيث أكد أن ثقافة الصورة حدت من سلطة النخبة وأسقطت الرموز: « إننا اليوم أمام غالبية شعبية كانت في السابق لا تملك وسيلة للتعبير عن ذاتها (…) وهي الآن وضعت يدها على الوسيلة التي تعبر بها عن نفسها وهذا كسر العقدة المألوفة حيث كانت الثقافة والمعرفة من خصائص النخب دون الجماهير ». هذه التغيرات أدت إلى ظهور رأي عام غير محكوم بزعامة أو قيادة معينة وهو عبارة عن أصوات ظلت لعقود مغيبة في الهامش، واليوم صار بإمكانها المطالبة بالاعتراف بفضلها وإرضائها واحترامها والتشاور معها، فهذه الجماهير صورة عن الجمهور المعارض الذي يحس أنه مهمش وأقل تمثيلا كما يؤكد ستيف كولمان، وقد وجدت اليوم ذاتها في وسائل التواصل الاجتماعي وبالتالي تمكنت من وسيلة تمكين ووجود. إن عدم وجود قادة وزعماء لهذه الحركة يؤكد ما ذهب إليه الغذامي حين قال: « لأول مرة في تاريخ البشرية نجد أنفسنا عاجزين عن رؤية أو تسمية قادة حقيقيين يقودون الناس ويؤثرون عليهم ،ومع ذلك نجد الناس يتأثرون بشكل جماعي وبتوقيت واحد (…) مما يعني أننا أمام تغيير لا يمكن أن نقول إنه فوضوي بل انتظامي ومحكم وشمولي ». ثقافة الاحتجاج وإن أججتها ثقافة الصورة التي هي ثقافة المهمشين وثقافة الرفض، تجد لها في فرنسا إرثا طويلا من الاحتجاج بدءا بالثورة الفرنسية 1798 وثورة الطلبة 1967 ، كما تجد لها إرثا ثقيلا من التنظير السياسي والثقافي بدءا بمونتيسكيو وروسو وانتهاء بسارتر وكامي وبورديو الذي ولو وضعنا هذه الحركة في ظل فكره، لتأكدنا أنها مطالب احتجاجية اجتماعية طبقية وأنها نتيجة عادية للتحكم في وسائل الإنتاج، ورد فعل طبيعي على الاستبعاد الليبرالي ورفض لأنماط إعادة الإنتاج .بمعنى أنها استمرار لصراع طبقي بين الهامش والمركز، وهو ما ذهبت إليه عالمة الاجتماع الفرنسية مونيك بانسون شارلو في فيديو منتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، حين قالت: » إن الفرنسيين يساندون حركة السترات الصفراء لأنها تكونت على أساس طبقي، إنهم من الطبقات الفقيرة التي همشتها الدولة (…). السترات الصفراء فكرة جيدة طالما الفرنسيين يملكون سترات صفراء في سياراتهم، إنهم ليسوا في الضواحي، بل قرب الاليزيه. الشعب الفرنسي في حاجة الى ديمقراطية تشاركية وعدالة اجتماعية تلغي الفوارق الطبقية وتجعل وسائل الانتاج التي تملكها الشركات الخاصة في يد الجميع ». صحيح ما قامت حركة القمصان الصفر من تخريب وتدمير وحرق للممتلكات العمومية، يؤكد أنها لم تكن حركة استثنائية، وبالتالي لم تخرج عن الحركات الجماهيرية عبر التاريخ، مما يجعلها تدخل ضمن جماهير غوستاف لوبون، الذي قال إن الجماهير دائما جماهير نفسية، نزقة، لاعقلانية ولا واعية وأحيانا مجرمة وهمجية، وذلك لأنها تخضع لنفس المحرضات وتقع تحت نفس التأثيرات وتوحد بينهما نفس الانفعالات، وهوما يطلق عليه لوبون الجماهير الخاضعة لقانون الوحدة العقلية او التي تمتلك وحدة ذهنية. والتي تسير وفق الوهم ووفق غرائزها الثورية. لكن ما يشفع لها أنها نجحت في تحقيق مطالبها حيث اضطرت الحكومة إلى التراجع عن فرض الضرائب، كما اضطر الرئيس الفرنسي إلى الاعتذار للشعب وإعلان الزيادة في الأجور وإعلان حالة طوارئ اقتصادية في البلاد. وهي نتائج قد لا ترضي المحتجين الدين يطالبون باستقالة الرئيس. لكن ماذا لو وضعنا هذه الحركة افتراضيا في عالمنا العربي ؟ كيف كانت ستوصف. علما أنه رشحت أنباء عن اعتقال حقوقي مصري لارتدائه قميصا أصفر، ومنع محلات البيع من ترويجها. فلو وقعت في ليبيا القدافي مثلا لاتهمهم القائد بالجرذان وتساءل: من أنتم؟ ولو وقعت في اليمن السعيد لقال لهم الرئيس السابق قولته الشهيرة: فاتكم القطار. ولو وقعت في سوريا لأخرج الرئيس الذبابات واعتبرهم إرهابيون من النصرة وداعش. ولو ظهروا في تركيا لسجنوا جميعا بدعوى انتمائهم لجماعة غولن. لكن لو ظهر أصحاب السترات الصفراء في المغرب لاجتمعت الأحزاب ووقعت بيانا تتهمهم بالانفصال، ثم يخرج من يتهمهم بالتنسيق مع الخارج وخاصة حزب الله، في حين سيصفهم رئيس الحكومة السابق بالمداويخ والطبالة والغياطة، على أن يتكلف حامي الدين بوصفهم بعبدة الشيطان كما وصف الأساتذة المتدربين، أما لشكر فسيعتبر أن الضرائب لصالهم مثل الساعة الإضافية ،في حين سيرد السلفيون بأن هذه فتنة والفتنة أشد من القتل. وذلك كله في انتظار أن تأتي فتوى من أكادير تعلن أن احتجاجات أصحاب السترة الصفراء يفسدون على المواطنين لذة ووقت الجماع ….