سعد الدين العثماني، رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، الذي عينه جلالة الملك زوال الجمعة (17 مارس 2017) رئيسا للحكومة وكلفه بتشكيلها، خلفا لعبد الإله بنكيران، ليس فقط طبيبا نفسيا على خبرة بالطبائع والأمزجة.. ليس فقط هادئا ومتزنا ورزينا، ورجل توافقات، كما يحلو لعدد من المتتبعين أن ينعتوه..ليس فقط أحد حكماء حزب العدالة والتنمية وأحد رموزه الذين قادوا “عبور الصحراء” إبان تداعيات الأحداث الإرهابية التي ضربت الدارالبيضاء في سنة 2003.. ونجح، وهو يتولى منصب الأمين العام للحزب في هذه المرحلة الحرجة، في إيصال “المصباح” إلى بر الأمان، في سياق ووجه فيه بانتقادات حادة من قبل مكونات سياسية وفكرية وإعلامية طالبته، حينذاك، بضرورة القيام بمراجعات جوهرية في توجهات وتصورات ومقاربات قدمت على أنها ساهمت في تغذية التطرف والتشدد؛ قبل أن يسلم المشعل لعبد الإله بنكيران، بما يمثله من مقاربات أخرى لطرق الحضور الحزبي، وبما تشكله شخصيته من طباع أخرى مغايرة تماما لتوجه الهدوء والرزانة والتكتم التي تلتصق بشخصية سعد الدين العثماني. العثماني ليس كل هذا فقط.. إنه أيضا أحد أبناء ثقافة سوس، والإنسان كما يقال ابن بيئته؛ بل إنه يعتبر من الشخصيات القليلة في “البيجيدي” التي راكمت تصورا ناضجا وإيجابيا بخصوص إدماج الثقافة واللغة الأمازيغية في الحياة العامة ببلادنا، بغض النظر عن التوجه المحافظ الذي يغلف به هذه المقاربة الإدماجية للأمازيغية. ويتقاسم رئيس الحكومة الجديد هذا الانتماء الجغرافي والثقافي مع عدد من زعماء الأحزاب التي تعتبر بمثابة أطراف مؤثرة في تشكيل الحكومة. فعزيز أخنوش، الرئيس الجديد لحزب التجمع الوطني للأحرار، والذي اختار شعار “أغراس..أغراس” كشعار جديد لحزب التجمع الوطني للأحرار، يتحدر بدوره من الثقافة ذاتها، وبالتحديد من بلدة تافراوت، ضواحي تيزنيت. وباختياره لشعار “أغراس..أغراس”، فإن الزعيم الجديد للتجمعيين، والذي دخل في شد الحبل مع بنكيران الرئيس المعين المعفى، اختار أن يشهر مرتكزا من المرتكزات القيمية لهذا الانتماء الثقافي، في محاولة منه لرد الاعتبار للفعل السياسي الذي فقد الكثير من بريقه في تراكم الممارسة الحزبية في المغرب، إلى درجة أدى معها إلى عزوف واسع ومتنامي لفئات واسعة من المجتمع في النشاط الحزبي المؤسساتي. وأظهرت تصريحات عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المعفى بعد فشله في تشكيل أغلبيته، أنه لم يكن على وئام مع عزيز أخنوش، رئيس “حزب الحمامة”، بل وحاول صقور “حزب المصباح” ومعهم “جيشه” الإلكتروني أن يربطوا بين زعيم التجمعيين وبين ما سموه “البلوكاج” الحكومي، بعدما قدم شروطا لمشاركته في الحكومة، ومن أبرزها ضرورة التخلي عن حزب الاستقلال، وإشراك حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في هذه التشكيلة. ولم يخف أخنوش على أن تصريحات رئيس الحكومة المعفى، ودخوله في مناوشات مع عدد من مكونات الحقل الحزبي، وتسريبات مقربين منه لوسائل الإعلام، قد ساهمت بشكل كبير في صنع أزمة مفاوضاته لتشكيل الحكومة. ويتقاسم ادريس لشكر، الكاتب الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي، مع العثماني وأخنوش الانتماء الثقافي والجغرافي ذاته، رغم أنه ليس من الشخصيات السياسية التي تصر على إبراز هذا الانتماء، ربما تأثرا بثقافة سادت لوقت طويل في صفوف اليسار تعتبر بأن الأهم في العمل السياسي هو الدفع بعجلة الإصلاح والدمقرطة نحو الأمام، وما تبقى من هوامش يمكن أن يؤدي استحضارها بشكل بارز إلى فرملة هذه العجلة، وربما تحريف التوجه العام للعمل السياسي اليساري؛ ورغم استقراره في الرباط، فإن أسر الجنوب لها ارتباط وثيق بالانتماء اللغوي والثقافي. وقد عاد ادريس لشكر في أكثر من محطة سياسية نحو هذا الانتماء، وترشح في بلدته “تاغجيجت” بنواحي مدينة كلميم. وكان ادريس لشكر، زعيم “حزب الوردة”، قد دخل في ملاسنات طاحنة مع رئيس الحكومة المعفى، عبد الإله بنكيران، بسبب مفاوضات تشكيل الحكومة. فقد تمسك حزب “الوردة”، ومعه المكونات الأخرى للتحالف الرباعي (أخنوش، العنصر، ساجد، لشكر) بأهميته مشاركته في الحكومة، ودافع عن هذا الاختيار، وبرره بحضوره الوازن في المحافل الدولية اليسارية المؤثرة، وما يمكنه أن يقدمه من خدمات دفاعا عن إشعاع المغرب ووحدته الترابية.. لكن بنكيران سخر منه، وعبر رفقة صقور “البيجيدي” عن أنه لا يرغب في انضمام “الوردة” إلى تشكيلته الحكومية. وبرز أن التباعد في المقاربات لم يؤثر لوحده فقط في هذه الأزمة، وإنما أثرت الطباع والأمزجة، إلى درجة اتخذ الخلاف طابعا شخصيا بين الطرفين. أما محمد ساجد، الأمين العام للاتحاد الدستوري، فرغم أن اسم ارتبط بكونه انتخب عمدة للدار البيضاء، أكبر محور اقتصادي مغربي، إلا أنه بدوره يتحدر من نفس الثقافة والانتماء الجغرافي. صحيح أنه عاش وكبر في مدينة سطات، إلا أن أسرته تعود أصولها إلى مدينة تارودانت؛ وقد خاض الانتخابات البرلمانية في هذه المدينة، ومنحه ناخبوها أصواتهم للحصول على مقعد في البرلمان. وكان زعيم “حزب الحصان” دشن تقاربا في الآونة الأخيرة مع حزب التجمع الوطني للأحرار، أسفر عن تكوين فريق برلماني مشترك. وظل أخنوش يتحدث في مفاوضاته مع بنكيران باسم التجمع وباسم الاتحاد الدستوري. ويعرف عن ساجد أنه هادئ الطباع.. رجل يتحدث لغة الاقتصاد؛ وغير بعيد في مقاربته عن مقاربة “أغراس..أغراس” التي يدافع عنه التجمعي أخنوش. أما امحند العنصر، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، فرغم انتمائه الجغرافي إلى منطقة إيموزار مرموشة نواحي بولمان، فإن “حزب السنبلة” الذي يتزعمه ظل يرفع شعار الانتماء إلى هذه الثقافة ويقدم نفسه على أنه الاختيار السياسي المؤسساتي للمدافعين عن المكون الأمازيغي، باعتباره مكونا من المكونات الأساسية للهوية الوطنية. حزب الحركة الشعبية ليس حزبا صداميا، وأمينه العام، شخصية سياسية هادئة، تختلف كثيرا عن طبائع شخصية أخرى من المؤسسين للخطاب الحركي في المغرب، ويتعلق الأمر بالمحجوبي أحرضان.. ظل دوما يقدم نفسه والحزب الذي ينتمي إليه على أنه وفاقي، ووسطي في الخطاب والممارسة.. لم يدخل في ملاسنات مع بنكيران، رغم أن هذا الأخير ظل بين الفينة والأخرى يوجه له انتقادات حادة؛ لكنه، مع ذلك، اختار الاصطفاف إلى جانب مكونات التحالف الرباعي الذي فشل بنكيران، وهو يحاول لمدة تقارب 5 أشهر، في إقناعه بجدوى الانخراط في الحكومة وفق شروطه. وإذا كان انخراط حزب التقدم والاشتراكية في حكومة العثماني أي مشكل، فإن الخلفية القيمية المشتركة والانتماء الجغرافي والثقافي لعدد وازن من المكونات الحزبية المعنية بالمفاوضات يمكنها أن تلعب دورا حاسما في توفير الأجواء المناسبة لإنجاح مهمة الرئيس الجديد للحكومة؛ لكنها بالتأكيد لن تكون حاسمة، لأن الاعتبارات السياسية وشروط الأطراف الحزبية والسياق السياسي الخاص والقواعد الحزبية الضاغطة تشكل عناصر مؤثرة بقوة في هذا الشوط الذي يتابعه المغاربة باهتمام كبير.