جاء في تفسير القرطبي أن قوله تعالى «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً» فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو الرياء، والمراد هنا الكفر. روى البخاري عن مصعب قال: سألت أبي عن «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً» أهم الحَرُوريّة؟ قال: لا؛ هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبّوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه؛ وكان سعد يسميهم الفاسقين. والآية معناها التوبيخ؛ أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غداً؛ فهم الأخسرون أعمالاً، وهم «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» في عبادة من سواي. قال ابن عباس: يريد كفار أهل مكة وقال عليّ: هم الخوارج أهل حروراء. وقال مَرَّة: هم الرهبان أصحاب الصوامع. وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالاً فقال له: أنت وأصحابك. قال ابن عطية: ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك: «أُولَئِكَ 0لَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ» وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور، وإنما هذه صفة مشركي مكة عبدة الأوثان. وعليّ وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواماً أخذوا بحظهم من هذه الآية. وذكر أبو السعود أن «أُولَئِكَ» كلامٌ مستأنفٌ من جنابه تعالى مَسوقٌ لتكميل تعريفِ الأخسرين وتبيينِ سبب خسرانِهم وضلالِ سعيهم وتعيينِهم، بحيث ينطبق التعريفُ على المخاطبين غير داخلٍ تحت الأمر، أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي مع الحسبان «0لَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبّهِمْ» بدلائله الداعيةِ إلى التوحيد عقلاً ونقلاً، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ لزيادة تقبيحِ حالِهم في الكفر المذكور «وَلِقَائِهِ» بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هي عليه. «فَحَبِطَتْ» لذلك «أَعْمَٰلهُمْ» المعهودةُ حبوطاً كلياً «فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ» أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمالِ، وقرئ بالياء «يَوْمَ 0لْقِيَاٰمَةِ وَزْناً» أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً، لأن مدارَه الأعمالُ الصالحة وقد حبِطت بالمرة، وحيث كان هذا الازدراءُ من عواقب حبوطِ الأعمال عُطف عليه بطريق التفريعِ. وأما ما هو من أجزية الكفرِ فسيجيء بعد ذلك، أو لا نضع لأجل وزنِ أعمالِهم ميزاناً، لأنه إنما يوضع لأهل الحسناتِ والسيئاتِ من الموحّدين ليتمَّمَ به مقادير الطاعات والمعاصي ليترتب عليه التكفير أو عدمُه، لأن ذلك في الموحدين بطريق الكمية، وأما الكفرُ فإحباطه للحسنات بحسب الكيفيةِ دون الكمية فلا يوضع لهم الميزانُ قطعاً. ومن روائع إشارات الآية عند ابن عجيبة: كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع، فتنسحب الآية على طوائف، منها: منْ عَبَدَ اللهَ لطلب المنزلة عند الناس، وهذا عين الرياء؛ رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر: (الرياء سبعون بابًا، أهونها مثل نكاح الرجل أمه). ومنها: من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ، ومنها: من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات، ومنها: من عبد الله بالجوارح الظاهرة، وحجب عن الجوارح الباطنة، وهي عبادة القلوب، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح، ومنها: من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم، وغفل عن علم القلوب، وهو بطالة وغفلة عند المحققين، ومنها من قنع بعبادة القلوب، كالتفكر والاعتبار، وغفل عن عبادة الأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار، والحاصل: أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال، وإنْ كان لا يشعر، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده، كما في قوله تعالى في الزمر: «وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ 0للَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ». فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند آخرين؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار.