ثلاثة وثلاثون طفلاً إستسلمت أجسادهم الغضة للنيّران فشوّتْهُم كأنها إستلذت طعم لحمهم الطرّي. كانوا ثلاثة وثلاثون بُراعماً يغالبون نوم الصباح منتظرين الإرتماء في حضن أمّهاتهم و سردَ وقائع ما حدث لهم طيلة مدة الغياب، متعبيّن و مستلمين لفرح طفولي راسميّن بسمة الشوق للأهل. هم صبيّة ذهبوا وما عادوا.. بل عادوا لكن في طرف ثوبٍ أبيض داخل نعشٍ مُشمع بشريّط النهاية. نهاية حلم الكثيرين منهم كانت بسبب تهورّ. إنعدام مسؤولية و طرقات تحصدُ يوميا أكثر مما تحصده الحروبُ في مناطق متفرقة من هذا العالم المُدمى. كانوا ينطُّون في "بوزنيقة" مثل سرب نحل إكتشف مرج أزهار، يشاغبون بعضهم البعض و يلتقطون صوراً للذكرى. إلتقطو صورا كثيرة تؤرخ للحظات أمل يحدوهم في أن يصيّروا أبطالاً مستقبلاً. لكن تلك الصوّر لم يكتب لها أن تُفرح عائلاتهم التي كانت ستحمّصُها و تضعها في إطار تعلّقه في بهو منازلها كشهادة فخر لها ببراعمها، بل صارت مؤثثة لمشهد دراماتيكي ما توقعه أحداً. فكان مآل تلك الصوّر هو تقاسم "الفايسبوكيّن" لها مع بعضهم البعض، و تلقفتها الجرائد لتضعها بجانب عناويّن خبرها الفاجعة فتاهت تلك الصوّر عن جذران غُرفهم. هم من تأهلوا للمشاركة في المنافسة الوطنية للألعاب المدرسية عن جهة العيونالسمارة وادي الذهب. خاضوا إقصائيات و معهم يعدو الحلم خلف الكرة أو يقاسمهم المضمار، كانوا يفعلون ذلك وهم مطمئنيّن وديعيّن كحِملان بيضاء تجهل أن عيون ذئب تتربص بها. لنعد للمأساة… الساعة السادسة صباحاً بقرب جماعة الشبيكة" بمدينة طانطان، حافلة تقلُّ أطفالا عائدين من "بوزنيقة" على إثر مشاركتهم في النسخة السادسة للألعاب المدرسية الوطنية. بعضهم نائم والبعض الآخر مستيقظ به لهفة لقاء أهله و يدردش معهم في الهاتف. كتب طفل رسالة هاتفية أرسلها لأمه و هو يرى جسد صديقه "هيثم" تلتهمه النيران: " مَامَا أجِيّ عَتْقِينِي الكَار تْقْلّبِ بِنَا و "هَيثم" ها هو حْداَيا كَيْتْحْرَقْ". الحافلة تمضي بهم لمدينتهم وهم يحلمون و يتقون لحكيّ سفرهم ذاك لزملائهم بالدراسة. كانت الأمهات مستيقظات يترقبن وصول الأبناء لعناقهم، فالأمّ بقدر ما إبتعدت عنها فرّوحَها ترفرف معك و إذا ما وقع لك مكروه تعوّد تلك الرّوح لتخبرها. شاحنة بسائق متهور قادمة من الإتجاه المعاكس يستعجل أن يفرخ حمّولة بنزينه المهّرب.. زاغ عن الطريق و إصطدم بالحافلة….. و بقيّة المأساة تعرفونها.. المسؤولون أرجعوها قضاءاً وقدراً. كل شيئ في البلاد قضاء وقدر. الفيضانات قدر و ضحايا طريق "تيشكا" قدر، الموت في أسرّة مصحات فارغة قدر، سجن أصوات حرة قدر. وفاة شابة وهي تضع جنينها و لا تجد ممرضة قدر، موت أطفال بأمراض حسبنا أنّها إنقرضت قدر…. كلّ هذه الفواجع قدر ومكتوب على جبين ضحاياها.