تمرّ الأيام كهبوب الريح السريع على مروج وهضاب الأمس الفسيح… فتتعثر خطوات الساعات المتسابقة أمام الذاكرة كلما أطلّت الأحلام الجميلة من نافذة الأجفان أو حركت المشاعر الحزينة وسادة الآلام وسقطت دموع الحسرة الخجولة على خذ الغرباء تستريح. تأبى أن تجف مع مرور أنامل الريح الجريح. تدق الذكريات قلبي كما يدق الندم قلب الجاني الذي تنتظر رقبته لمسة حبل المشنقة… تتراقص الصور صعودا وهبوطا بسرعة البرق على أجنحة نورانية داخل خيالي مثلما تتراقص الحسناوات في حفلة زفاف بعضهن قبيل الدخلة… مثيرة دموع الشفقة وحسرة الدموع والأحزان في مقلتي على دروب الماضي قبل أن تزل بي القدم في أوحال الهجر والحرمان. ماتت الفرحة في أعماقي… ودفنت حياتي بيدي …يوم صار حاضري جمرة قرح وغدي دمعة جرح …تتقاذفهما رياح الأهوال من ضيق إلى ضيق،ومن شعلة إلى حريق، أوجاع رفيق وصديق وظلم أحباب والبعاد وطول الطريق. لا تكاد تمرّ علي ثانية أنسى فيها أمسي، ولا لحظة تنسيني بأسي… أعيش بين أهلي بدون فكري بلا قلبي… سجين عواطفي ووجع كبدي، أعانق أحبابي بذراع وأخرى تحمل علم وطني الذي أسكنته بالأمس البعيد القريب فؤادي ..وهديته أوتار وجداني فرحة يومي وقرحة غدي. أبكي الديار المهجورة وأبناء الحي وكل جيراني، أشتاق لحارتي كما تشتاق العين لوجه الأنيس في مرآة أجمل مكان…وأكره الحريق في بريق الغربة لما يغيب عني الخليل والصديق والليل والرفيق في طريق الغرباء حيث لا استقرار ولا قرار لا أمن ولا أمان. نعم لما تشتد علي الشجون وتخنقني المحن وتحرك ريح الولع رائحة البلاد اشتاق لعناق هذا الوطن…الذي علمني كيف أحمل ثقله والحنين وأصبر على بعد وعناء السنين …وكيف أحيا تلك الوطنية الخالدة وأنا أودّع أشرطة حدودك وأفارق السكون والسكن يا وطن لمّا أغمض القدر عيني وهزتني زلازل الغربة ورمت بي الرياح في كم من وطن. يوم حملت حقيبة وطني معي عرفت أن الطريق لا ينتهي حيث أسير …وأنا أسير مكبل أتعثر بقيود الأرزاق تدنيني الآلام والمحن من طريق غريب كله انعراج وحفر … لا أنا بالكثير ولا بالقليل ضاع مني كل ثمين جميل ولا أثر… سكتت نغمات الليل العليل ورنة الصبح الجميل وبدا كل شيء مستحيل . أذكر أني كنت يوما ما ذلك الوليد بين أحضان وطني الحبيب ، وكان حبه وعطفه يشملني ، يؤنسني في وحدتي ، يرفع بقدره من معنوياتي ،يعلمني كيف أعيش ذلك الحب الأزلي الذي لا يقاس بقياس ولا يقدر بثمن…لعله الخلود الأبدي لمجد الأوطان في ربوع كل روح سوية في سماء كل وجدان …أو ربما أنها تلك الأحاسيس الجياشة الموشومة على جبين هذا الوطن التي لا تنسيها لمسات الغربة ولا تطمسها عيون الحاقدين ولا تنقطع بانقطاع أو تحد بحدود …إنه تلك الاستمرارية والديمومة اللامنتهية في حياة الأوطان التي تبقى شامخة في الأعالي قمة لا تنحني لجبروت ولا تذبل لاعتداء ولا تهان …حبا وشرفا ووطنية أبدية في عقل وقلب وجوارح كل إنسان. نعم أحبك أيها الوطن العظيم، ذلك الحب المقدس الذي لا يبدأ بحدث ولا ينتهي بسبب ، حب الرضيع السعيد لدفء الأمومة الأزلي… أهواك ولا أرى في الهوى مثل هواك فهو في كل يوم يزيد… كل العواطف الأبوية والأحاسيس الأخوية والجذور الضاربة في القدم تشدني إليك من قريب ومن بعيد… أهواك كما تهوى أفواه الزهور والورود قبلات خيوط الشمس المشرقة على الحقول كل صباح جديد. فأنت جميل وآية في الجمال، وفي جمالك فتحت عيني وسرى نورك الساطع في فؤادي واتخذه أجمل مكان …حركت به مشاعري وأحاسيسي فشعرت وأحسست بالدفء والحنان والأمان …وأنت الذي أطلقت سراح لساني لما اشتقت لك وبكيت فأعتقت أغلال سكوتي ومسحت دموع شجوني فابتسمت وتكلمت وشدوت… وأنت الذي علمتني كيف أشعر وكيف أشدو ولولاك ما شدوت وما شعرت … وما قيمة الوطن والوطنية في قلب لا يشعر ولسان لا يشدو؟ . أحببتك يا وطني ذلك الحب الطاهر الذي وضعته في قلبي زهرة أسقيها بماء طهرك وندى دفئك كلما مررت على بالي أو طرقت باب أشواقي … وكلما رأيت وجهك تتسارع أمام عيني صور أحبّائي واشتياقي وحب قديم حي باقي… ففيك ترسم ملامح أصدقائي ، وخيال خلاّني وكل عشاقي . لقد كنت يا وطني كل شيء في دنياي وحلمي ويقظتي وآفاقي…وأنا متيّم أغرق في هيامك لا تفارق ذاكرتي تربة أرضك ولا تغرب شمس الذكريات عن سمائك …عن عذوبة مياه أنهارك وبحارك …عن تخومك هضابك وجبالك …عن جمال أخلاق أبنائك وعطر بناتك الفائح في كل بقاعك وخارج حدودك. بالرغم من قساوة سيف البعد وشدة حرارة الفراق ، وطول مسافات القهر وعناء المشاق… ما زلت أحمل بين جوانحي حقيبتي التي أحمل فيها وطني …ذكرياتي …درب أحلام الأمس وحمامة العشق وجمال طفولتي . حظي أن أعيش مقسم لنصفين …أعيش بين قلبين وبين بلدين محروما كالعصفور، نصف لك يا غالي يا وطني والباقي أليّن به قسوة شجوني وأوجاع وحدتي وأحزاني … يواسيني في مباتي وآلام غربتي و مآسي …كما تواسي الطيور المهاجرة مرارة الأرزاق في غير الأوطان.