في بعض الأحيان تلعب الأقدار دورها الحاسم في تغيير ما يبدو أنه مسار طبيعي يخضع لمشيئة البشر لدرجة تجعل الإنسان يقسم بالله جهد أيمانه بأنه من المستحيل حدوث أيّ تغيّر. يمكن أن نذكر هنا الاندحار المثير الذي عصف بإمبراطورية الاتحاد السوفياتي التي لم ينفع في تفاديه لا الجيش الأحمر، ولا المليشيات الثورية، ولا ال"ك.ج.ب" ذلك الجهاز المخابراتي المرعب الذي كان مجرد الحديث عنه يصيب الجسد بالارتعاش والمفاصل بالتجمّد، وكذلك السقوط المتتابع، على شاكلة "الدومينو"، لأنظمة الدول التي كانت تدور في فلك روسيا، ثم سقوط جدار برلين الذي كان بداية التغيّر الكبير الذي عرفه العالم من دون أن يشعر الكثيرون بالرّجة التي أحدثها على مستوى العلاقات الدولية والروابط الإنسانية. الآن، نحن أمام اندحار جديد، لا شك أنه سيكون له ما بعده، يتمثّل في هذا التراجع الكبير المتوالي لأسعار النفط، وهو تراجع بدأت مؤشّراته الأولى تظهر على الأرض بالرغم من الإجراءات الترقيعية لحصر امتداد الاندحار وتداعياته سواء على البرامج الحكومية أو على ظروف العيش في البلدان المعنية. في الجزائر، التي لم يكن نظامها يضرب حسابا لتقلّبات "الزمن الغادر"، لم تجد بدّا من دعوة المواطنين إلى الصوم الاضطراري، ومزيد من التقشف، استعدادا لسنوات عجاف لا يعلم أحد متى ولا كيف تنتهي، لتنتقل إلى إلغاء أو تأجيل الكثير من المشاريع، وتجميد التوظيف والتشغيل. لكن كل هذه الإجراءات، بالرغم من خطورتها، لا ولن تنفع في الحدّ فبالأحرى مجابهة الموج العاتي للاندحار المتزايد لأسعار النفط، فكان القرار الذي لا بدّ منه: تخفيض أو إلغاء المساعدات السنوية التي كانت تدخل في إطار ما يسمّى "المساعدات الخارجية للدول الصديقة الفقيرة". وبما أن هذه الدول "الصديقة" تعرف مصاعب اقتصادية، فقد ارتأت الجزائر أن الفرصة مواتية جدّا استغلالها بما يخدم أجندتها الأمنية والعسكرية والجيو استراتيجيبة، وتطلعاتها التوسعيّة في المنطقة. وبناء على هذا لم يتردد النظام الجزائري لحظة في جعل تلك المساعدات مطيّة لشراء المواقف خاصة بعد تمكّنه من خلق كيان "البوليساريو" من أجل خلق كلّ المتاعب لجاره المباشر، المغرب. لكن هذا النظام كان يزعم أن ما يقدّمه من مساعدات يأتي في سياق تنفيذ "التزاماته" ل"دعم التنمية في إفريقيا". وفي هذا الإطار، عمدت الجزائر إلى مسح ديون 14 دولة إفريقية، ناهزت مليار دولار أمريكي. والغبيّ وحده الذي يمكن أن يصدّق أن كل هذا الخير لوجه الله ولا نريد منكم جزاءً ولا شكورا. على سبيل الذكر، ظلت الجزائر تصرف ثمانين مليون دولار لهذه الدول. هذا الحساب الظاهر أمّا ما خفي فأعظم، من قبيل المساعدات والهبات المتعلقة ببرامج التدريب العسكري والأمني لعدد من البلدان، وكذا المنح الدراسية المخصصة لطلبة تلك الدول في الجامعات والمدارس الجزائرية. كل هذه المساعدات والدعم تقوم على مدى تجاوب عواصم هذه الدول مع التوجّهات والتطلّعات الإقليمية، والأجندة الدبلوماسية والسياسية والعسكرية والأمنية للجزائر، بمعنى دفع الدول إلى تبنّي كل ما تطرحه الجزائر وما يخدم مصالحها، والسير في ركابها بعيون مغمضة. فالرأي رأي الجزائر ما دامت هي القوة المانحة. الأهم أن يكون الدعم الموجّه ل"الدول الإفريقية الفقيرة الصديقة" في مقابل الدعم الدبلوماسي لسياسة الجزائر، على وجه الخصوص بالنسبة لشراء الاعتراف ب"جمهورية البوليساريو الجزائرية". هذه "الجمهورية" التي يخصّص لها حكّام الجزائر عشرين مليار دولار، سنويا، من أجل مدّها بأسباب الحياة والاستمرار، إلى جانب المصاريف طبعا من بيت مال الشعب الجزائري المتعلقة بتجهيز ما يسمّى "الجيش الصحراوي"، وأجور "الدبلوماسيين الصحراويين"، حيث إن "دبلوماسيا" انفصاليا يتقاضى ضعفي أجر دبلوماسي جزائري؛ وتعويضات تحركّات عناصر "البوليساريو" داخل الجزائر وخارجها وإقامتهم في الفنادق والمجمّعات الفخمة، وتنظيم دورات التكوين والتدريب... وغيرها من وسائل الدعم الذي يمكّن "البوليساريو" من التنفّس بفضل ملايير البترودولار التي تعادل 42 ,6% من الناتج الداخلي الخام للجزائر، أي ما يوازي 141 مليار دولار. هذا بدون أن ننسى الملايير الأخرى من الدولارات التي خصّصها النظام الجزائري لما سمّاه "سنة الحسم" بالنسبة لقضية الصحراء في سنة 2015، ولم يدر في خلده أنّّ هناك أمورا تَفصل بقدرة القادر. اندحار في أسعار النفط يوازيه اندحار "البوليساريو".