كم كان وضع مرسي مبتذلا وسخريا، وهو يلقي آخر خطابه حول الشرعية، فبين كل كلمة وكلمة لم يجد مرسي ما به ينطق سوى كلمات الشرعية كأن مرسي كاد يموت وفي نفسه شيء من "الشرعية". في هذه اللحظة التاريخية التي ترددت فيها كلمة الشرعية بكل هذه الكثافة اللغوية والإيديولوجية، وهي لحظة مفصلية ليس لها نظير من قبل في حياة مرسي والإخوان المسلمين الذين كانوا يعتقدون أنهم الوحيدون القادرون على تأطير الشعب وتحريكه متى يشاؤون، في هذه اللحظة كان الشعب المصري يقدم للعالم بأسره، وفي أكبر احتشاد تاريخي، رؤيته وتصوره للشرعية من حيث هي مستمدة أولا وأخيرا من الشعب الذي نهض بحزم وعزم تاريخين من أجل حسم واقعي وملموس لالتباسات إيديولوجية كانت قد تفاقمت في ماهية الشرعية منذ أن تحصل الإسلامويون على جزء منها إثر تسويات وصفقات "الربيع العربي" التي بمقتضاها وصلوا إلى السلطة في مصر، تونس والمغرب. نحن هنا إزاء تعنت وتعقد الواقع الاجتماعي، في شرطه التاريخي المميز له، الذي يأبى إلا أن يدحض مفاهيم الإخوان المسلمين بخصوص ماهية الشرعية التي ما إن حازوا شكلا منها، أو قل جزءا منها، هو الشرعية الانتخابية بالذات، حتى صاروا متمسكين بكل أشكال الشرعية من خلال اختزالهم للشرعية، في كليتها وأصلها الشعبي، في الشرعية الانتخابية؛ وهم بهذه الحدة من التمسك بالشرعية يكونون قد برهنوا بشكل لا غبار عليه عن مدى استعدادهم للتضحية بكل ما يخدم الوطن، في توافقاته الكبرى والتاريخية في سياق تعقيدات المراحل الانتقالية، في سبيل بقائهم في السلطة حتى لو خرج الشعب يريد تغيير المسار الانتقالي الذي أطلقه في 25 يناير من 2012 في غياب الإخوان المسلمين الذين فضلوا آنذاك التريث حيث لم يلتحقوا بالحراك الجماهيري إلا وقد تأكدوا من قرب سقوط مبارك. إن ترديد كلمة "الشرعية" بهذا الشكل الجنوني إنما يحيل على تمثلات دفينة لدى قوى الإسلام السياسي لماهية الشرعية التي تدفقت، كالبركان، على لسان مرسي للتعبير عن مدى تمسك هذه القوى الإسلاموية بالشرعية، في صيغتها الانتخابية، متى وصلت إلى الحكم (وصول حماس إلى السلطة وتمسكها بها بدعوى حيازتها للشرعية الانتخابية منذ انتخابات 2006 كان من بين الأسباب التي أدت إلى التقسيم الجغرافي والانقسام المجتمعي لما تبقى من فلسطين). إلا أن الشرعية بهذا المعنى وبهذا الشكل الذي تدفقت به على لسان مرسي جاءت تتجاهل الشعب الذي وحده يظل مصدرا لكل الشرعيات، سواء التاريخية، أو الدينية، أو الديمقراطية أو الدستورية. فالشرعية الانتخابية ليست سوى إحدى تمظهرات اللعبة الديمقراطية، بل هي نتاج تاريخي لسيرورة الصراع السياسي والاجتماعي منذ ظهور الدولة في صيغتها الرأسمالية الحديثة. معنى هذا أن الصراع السياسي الثوري (مرحلة البرجوازية الصاعدة) هو ما أفرز العملية الانتخابية، مصدرا للشرعية الانتخابية، باعتبارها ذلك الشكل التاريخي للتوافق على التمثيلية التي بموجبها تمارس فئات –أغلبها بورجوازية- السلطة داخل الدولة في صيغتها الرأسمالية الحديثة. إن الصراع السياسي، أو قل الحراك الشعبي، هو من يحدد في آخر المطاف ليس فقط الشكل التاريخي للشرعية أو ماهيتها الفلسفية - انتخابية أم ثورية- بل يحدد طبيعة الفاعلين المؤثرين في الصيرورة الديمقراطية، وكذا طبيعة المؤسسات الدستورية المنتخبة؛ هذا يعني أن الشعب متى قرر النهوض، في ثورة أو في حراك جماهيري، فله أن يستبدل شكلا من الشرعية (الشرعية الانتخابية في هذه الحالة) هو مصدرها بشكل آخر منها هو من يحدد مضمونه الاجتماعي والديمقراطي ودلالته التاريخية، لأن الشعب هو من يتحسس مصيره بصدق في لحظات تاريخية معينة، وهو في ذلك صاحب القرار النهائي في تحديد مصيره وفي من يأتمنه على هذا المصير. إن التاريخ لا يرحم، وهو دائما ما يقبض، في لحظات محددة غير منتظرة، على من يتجاهل قوانينه المحركة له، احتمالاته الخاصة به، ومفاجئاته غير المتوقعة، ليجعل من الصورة النهائية للمقبوض عليه صورة درامية وسريالية ومأساوية (هكذا بقيت في الذاكرة الكونية كل من صورة صدام حسين بشعره الأشعث، صورة القذافي المنكل به، صورة علي عبدالله صالح المحروق...). حينما داهم التاريخ مرسي، وهو مزهو بعد سنة من تعيينه، لم يمهله أي فرصة للملمة الأوضاع، لقد تسربت في عروقه سكرات التاريخ التي لا ترحم، حينها فقد مرسي كل قواه التي لم تعد تسعفه، والحال هذه، في التركيز على ما ينطق به، آنذاك لم يجد شيئا آخر به يخاطب مصيره، وليس الشعب في هذه اللحظة، سوى ترديد كلمات "الشرعية" بشكل يوحي بأن كيان مرسي مهزوز وآيل إلى السقوط لا محالة. قبل أيام من خطاب "الشرعية" خرج مرسي يعلن قطع العلاقات المصرية مع سوريا، وهو في ذلك كان يبدو مزهوا كذلك؛ لم يكن مرسي ليعتقد البتة أن النظام –النظام السوري- الذي كان يريده ساقطا صار اليوم يتشفى فيه وفي مصيره. إنها سخرية ومكر التاريخ، تلك لعنة تاريخية أصابت مرسي ومشروع الإخوان المسلمين، في مصر، وفي الإقليم، في مقتل بعد ثمانين عاما من انتظار هذه القوى من الإسلام السياسي الفرصة للوصول إلى السلطة من حيث هي هنا تسلطا واستبدادا ظلاميا لا يمكن القبول به في عصر العولمة. لم يستوعب مرسي والإخوان المسلمون تعقيدات الأزمنة الانتقالية من حيث هي أزمنة لابد لاتقاء شرها من أن يجري فيها التوافق مسنودا بنتائج الانتخابات التي إن اعتمدت لوحدها مصدرا للشرعية –كما يتمثلها مرسي والإخوان المسلمون- كانت نقمة على المجتمع الذي بسبب هذا الاعتماد على الشرعية الانتخابية لوحدها يصير منقسما أفقيا، بحيث أن الصراع الذي من المفروض أن يكون عموديا بين المجتمع والدولة (لتطوير المجتمع والدولة معا) يصير صراعا بين المجتمع المنقسم على نفسه (في هذا تهديد للمجتمع والدولة معا)؛ هذا ما لم يفهمه مرسي جيدا فكان أن أصبح بين عشية وضحاها في مهب الريح. التاريخ مدرسة جهلاء السياسة الذين لا يعتبرون. بصرف النظر عن أن ما وقع هو ثورة شعبية مسنودة بالعسكر أم انقلابا للعسكر على "الشرعية الانتخابية" (ليس هذا ما نحن بصدد مناقشته هنا)، فإن ما صار اليوم مهما هو فتح نقاش معرفي-ابستمولوجي في ماهية هذه الشرعية في علاقتها بالانتخابات بالذات في سياق تاريخي وواقع اجتماعي سمته الأساسية التأخر عن الركب الإنساني الكوني؛ ليست المفاهيم، من قبيل الشرعية، دائما هي هي، في مضامينها الاجتماعية والسياسية والدستورية وفي دلالاتها التاريخية، فهي –أي المفاهيم- دائما ما تخضع لتقلبات الواقع الاجتماعي والشرط التاريخي اللذين وحدهما يعطيان هذه المفاهيم مضامينها المعرفية ودلالاتها الديمقراطية المتجددة. لا توجد هناك مماثلة بين الشرعيات الانتخابية في الدول الديمقراطية والشرعيات الانتخابية في الدول المتأخرة غير الديمقراطية وغير الحداثية. في الدول الديمقراطية الحداثية العلاقة بين السياسي والديني واضحة، محسومة، متوافق عليها تاريخيا، وبالتالي فهي ممأسسة لا خوف عليها من هذا الذي قد تأتي به الشرعية الانتخابية ليعيد النظر فيها بما يتلاءم والمنظومة الايديولوجية التسلطية المستبدة لجماعته. في الدول المتأخرة حيث حدود التداخل بين السياسي والديني ليس واضحة، غير محسومة، غير متوافق بشأنها بالرغم من "مأسسة" العلاقة بين السياسي والديني دستوريا أحيانا، في هذه الدول تشكل العلاقة بين السياسي والديني قطب الرحى في السيرورة التاريخية لتطور الدولة والمجتمع معا، فقد تكون الوحدة الدينية من بين أسباب الوحدة السياسية والوطنية (إمارة المؤمنين بالمغرب نموذجا) وقد تكون التفرقة الدينية والمذهبية سببا للفتنة والاحتراب وضياع الوحدة السياسية والوطنية (حال مجموعة من بلدان الشرق الأوسط)؛ ما يؤدي إلى خراب الدولة من حيث هي مشروع وطني تاريخي لم يتم بعد استكمال بناءه بناءا ديمقراطيا وحداثيا، وفي هذا رجوع بالشعب إلى البدائية في شتى تلاوينها السياسية، الدينية والاجتماعية. في هذه الحالة من التفرقة الدينية التي تنهجها جماعات الإسلام السياسي ضد الإسلام الرسمي التاريخي، لكل دولة، فإن الشرعية الانتخابية لوحدها غير كافية للحفاظ على الوحدة السياسية والدينية للمجتمع والدولة، وهذا ما تحقق بوصول مرسي إلى موقع الرئاسة في مصر، فعوض أن يكون مرسي رئيسا للمصريين صار رئيسا للجماعة، سياسيا ودينيا وحتى مذهبيا، أي أنه بمنهجه الهرطقي هذا في السياسة والدين إنما جاء يعلي من شأن الجماعة على حساب الوطن الذي بالتأكيد فيه من الجماعات الأخرى ما قد يفجر حربا مذهبية وأهلية إن استمر هذا النهج الإخواني (سحل الشيعة المصريين وقتل الأقباط في الفترة الرئاسية لمرسي). إنه –أي الرئيس المخلوع- بهذا العمل إنما اصطف إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين (جزء من الوطن) في معاركها الدينية والمذهبية والسياسية ضد الشعب المصري، أي ضد الوطن ككل؛ في هذه الحالة غير المقبولة باسم الديمقراطية تصبح الشرعية الانتخابية التي ظل يرددها مرسي إلى آخر دقائق حكمه محل تساؤلات مشروعة، خاصة حينما نهض الشعب المصري في مسيرة الثلاثين مليونا يريد استرجاع ما منحه لمرسي من شرعية انتخابية. تلك الشرعية التي يمنحها الشعب لمن أراد خلال فترة زمنية محدودة على عكس الشرعية الشعبية التي تشكل أصل الشرعيات في كليتها، في ديمومتها الزمنية وفي سيرورتها التاريخية. لذا فإن تدخل العسكر، ليس سوى النقطة التي أفاضت الكأس باعتبار أن الكأس كان مملوءا وكان من الممكن أن يفيض حتى من دون تدخل العسكر؛ فما جرى كان ولا يزال حراكا شعبيا، وهو في جديده -أي في تعداده - جاء بأكثر ممن خرجوا إلى الشارع يبتغون إسقاط مبارك. ألم يتدخل الجيش المصري بمباركة أمريكا في خلع مبارك؟ لماذا قبلت جماعة الإخوان المسلمين بتدخل الجيش وأمريكا لعزل مبارك في حينه ولم تقبل بنفس الإجراء اليوم لم تقبل جماعة الإخوان المسلمين تدخل الجيش لعزل مبارك فقط، بل إنها قبلت آنذاك بتسلم الجيش، في شخص المجلس العسكري، مقاليد السلطة؛ اليوم على الأقل ظاهريا لم يتسلم الجيش السلطة، بل وضعها في يد المحكمة الدستورية العليا إلى حين. في حالة مبارك استحسن الإسلامويون وممثليهم –في الداخل والخارج- ذلك التدخل، أما اليوم فلم يتدخل لصالح الشعب سوى الجيش في حين كانت أمريكا مع مرسي. ورغم ذلك ترى الاسلامويين يبكون ويتباكون على "الشرعية الانتخابية" التي هي في جميع الأحوال جزء من الشرعية الشعبية التي هي مصدر كل الشرعيات. في متابعتنا للتعليقات التي صدرت لتوها، من طرف العديد من ممثلي التيارات السياسية والفكرية الإسلاموية، سواء في المغرب أم في بلدان أخرى، وجدنا أن التعليقات جاءت تستبطن فزعا وهولا وارتباكا وصدمة أمام ما حمله التاريخ لهذه القوى الإسلاموية من مصير غير منتظر على الأقل في المدى المنظور. كان ممثلو التيارات الإسلاموية، وهم كثر في المغرب، منتشين بما حمله "الربيع العربي" من وصول قوى الإسلام السياسي إلى السلطة. كان يغيظهم أن يسمعوا من أي كان أن وصول الإسلامويين إلى السلطة إنما جاء في إطار تسوية إقليمية بمباركة أمريكية ودعم خليجي (إخواني)، وأحيانا بتدخل أجنبي استعماري مباشر (ليبيا) وغير مباشر (سوريا). كانوا لا يرون في فتاوي "الجهاد" في سوريا أية مشكلة أخلاقية، دينية أو وطنية، بل منهم من دعموا هذه الفتاوي عوضا عن دعم "الجهاد" في فلسطين التي كانت مرفوعة في شعاراتهم سابقا ك"قضية مركزية". هذه التسوية الإقليمية المدعومة أمريكيا بدأت في الانهيار بسبب من عدم قدرة المشروع الإخواني الخليجي التركي الأمريكي في تحقيق أهدافه المعلنة في إسقاط نظام بشار الأسد المسنود بدعم إيراني (حزب الله) روسي صيني، فارتدت بذلك التسوية الإقليمية المطبوخة على أطرافها بدءا بتركيا (احتجاجات ميدان التقسيم) مرورا بقطر (حكاية تخلي أمير قطر لابنه عن الحكم) ووصولا إلى مصر حيث الزلزال كان قويا وأصاب في مقتل عصب مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة. نحن هنا لسنا مع أو ضد تدخل الجيش المصري للحفاظ على الدولة من الانهيار والذي كانت معالمه تلوح في الأفق (انقسام المجتمع في ظل اصطفاف مرسي إلى جانب جماعته ضد الوطن، تفاقم مشكل النيل مع العديد من الدول الإفريقية والذي يعتبر حيويا لديمومة الدولة المصرية، الانهيار الاقتصادي، نذر الحرب الأهلية...). فلكل دولة قوامها، بل قل نواتها الصلبة، التي تتخذ من الشرعيات، في أشكالها المتعددة، ما به يمكنها تدبير كل مرحلة تاريخية معينة. إن الشرعية، أو قل الشرعيات، ليست هي قوام الدولة ونواتها الصلبة، بل هي رمزيات، شعبية، ديمقراطية، تاريخية، دينية، ودستورية تلجأ إليها النواة الصلبة (الفئة المهيمنة بالتعبير الماركسي الكلاسيكي) من أجل إضفاء المشروعية السياسية والإيديولوجية والاجتماعية للفئة المهيمنة في علاقتها بالطبقة المسيطرة حتى تتمكن من الحفاظ على السلطة، ومن خلالها على الدولة الاستبدادية، وإعادة إنتاجها في أشكال أخرى، بحسب كل مرحلة تاريخية، هي في جوهرها واحد. في الحالة المصرية الجيش هو تاريخيا قوام الدولة، ومن هنا فهو الحاسم في سيرورة الدولة وتطور التلاحم الاجتماعي، بها وفيها، الذي بدأ في الانقسام في مرحلة مرسي بسبب من اصطفاف هذا الأخير، من موقع الرئاسة المفترض أن يكون محايدا وحافظا للدولة، إلى جماعته، وهو في هذا لم يكن يعي أن الجيش من حيث هو قوام الدولة وضامن ديمومتها الزمنية لن يقبل بالانقسام المجتمعي، المتفاقم في ظل صراعات دينية ومذهبية مستفحلة، يتهدد الدولة التي هو –أي الجيش- نواتها الصلبة وقوامها؛ فكل من لا يعي هذه الجدلية التاريخية السياسية والإيديولوجية المميزة لديمومة الدولة المصرية فهو سيصطف بشكل ميكانيكي إلى جانب من يقولون إن ما جرى انقلابا أو مع يعتبرون ما وقع ثورة شعبية. على أي فإن أي اصطفاف، سواء في هذه الجهة أم تلك، لا يعدو أن يكون اصطفافا لا تاريخيا من حيث هو اصطفاف إيديولوجي انفعالي متعالي عن الواقع في سيرورته المعقدة والمفاجئة، وهو بذلك ليس بإمكانه التأثير في صيرورة الأحداث ولا قراءة تلك الصيرورة قراءة عقلانية في واقعيتها الاجتماعية المأزومة وفي شرطها التاريخي المميز بتميز الشروط الجيوستراتيجية المستجدة إقليميا عن شروط "الربيع العربي" الذي ظلت كل قوى الإسلام السياسي، في المنطقة، متمسكة بأدبياته، شرعياته، مآلاته، لأن ذلك يخدم ببساطة مصالحها في السلطة التي جاءها بها "الربيع العربي". لكن الشروط الإقليمية في ارتباط بالقوى الدولية الموجهة لها والمتصارعة من أجل رسم خارطة إقليمية جديدة، وقعت فيها متغيرات إستراتيجية منذ مدة ليست بالقصيرة؛ يمكن أن نرصد بسرعة بعض من ملامح هذا التغير الاستراتيجي الإقليمي: - انهزام استراتيجي لجبهة النصرة طليعة المشروع الاخواني القطري التركي الأمريكي في القصير، وهو مشروع ظلامي مهدد للدولة في كليتها وديمومتها الزمنية والتاريخية، حيث يسعى إلى إقامة "الخلافة". ان انهزام هذا المشروع في القصير كان بداية ارتداد التسوية الإقليمية على أطرافها، أو قل للدقة أدواتها؛ - اهتزاز مدينة تركية بالقرب من الحدود مع سوريا على وقع انفجارات ضخمة أوقعت العديد من القتلى، وهو ما أوحى بقرب انتقال الحراك والفوضى السورية إقليميا؛ - اندلاع احتجاجات ميدان التقسيم في تركيا لم يترك أي مجال للمضي في التنويه بنموذج العدالة والتنمية الاخواني في تركيا، وهو ما كان مقدمة واضحة لاهتزاز المشروع الإخواني في المنطقة؛ - حكاية تخلي أمير قطر على السلطة لإبنه، وهو ما سوق في حينه من طرف بعض ممثلي التيارات الإسلاموية كنموذج للانتقال السلس للسلطة برغم ما شاب ذلك من تحفظ إعلامي خاصة من طرف قناة الجزيرة، الناطق الرسمي باسم جماعات التكفير والإرهاب؛ - قبل كل هذا أدى مقتل شكري بلعيد في تونس إلى انسحاب حمادي الجبالي من رئاسة الوزراء وتعويضه بوزير الداخلية على العريض الذي ترك منصب وزير الداخلية إلى شخصية سياسية "مستقلة" في سيناريو إقليمي مدعوم فرنسيا. الأمر ببساطة كان نزعا لوزارة الداخلية بحساسيتها الأمنية والانتخابية من الإخوان المسلمين في النهضة. وفي الأمر إضعاف لها ورسالة إقليمية واضحة لجماعات الإسلام السياسي في السلطة؛ اليوم المشروع الإخواني الذي بدأ مشواره التاريخي بمحاربة كل القوى التقدمية والديمقراطية، وقد اغتال فيها ما اغتال، والذي حملته رياح "الربيع العربي" في تسوية خليجية تركية أمريكية إلى السلطة في مصر، تونس، ليبيا، وبنسبة أقل في المغرب، اليوم يوجد هذا المشروع غير الديمقراطي في مفترق الطرق. ينبغي اليوم لأصحاب هذا المشروع أن يوضحوا مواقفهم بشكل صريح من العلاقة بين الديني والسياسي من حيث هي علاقة وحدة دينية وسياسية (لا وحدة سياسية بدون وحدة دينية في المجتمعات والدول المتأخرة) مميزة لكل دولة تاريخيا، وجب تطويرها باعتبارها علاقة تاريخية جدلية عليها يقوم التلاحم الاجتماعي والوحدة السياسية والوطنية للمجتمع والدولة المتأخرين، وليست علاقة تفرد جماعة إسلاموية هرطقية دون غيرها بالديني في محاولة منها لتوظيفه في السياسي أملا في الحصول على السلطة وتعزيز تمسكها بها باسم الشرعية الانتخابية التي لولا هذا التوظيف للديني في السياسي لما حازت القوى الإسلاموية حتى على هذه الشرعية الانتخابية. إن هذه الجماعات بخروجها عن الدين الرسمي الذي يحتضنه المجتمع تاريخيا والذي تمأسسه الدولة للحفاظ على تلاحم المجتمع باعتباره الضامن لديمومة الدولة، إنها بخروجها هذا لا تعمل سوى على تدمير المجتمع والدولة معا، فهي تسعى إلى حيازة الشرعية الدينية ليس لخدمة الدين والحفاظ عليه كما تمثله المجتمع تاريخيا، بل هي تسعى إلى نقل تلك الشرعية الدينية من الحقل الديني إلى الحقل السياسي من أجل السيطرة على السلطة؛ هذا هو سبب دفاع مرسي والإخوان المسلمين عن الشرعية الانتخابية وعدم قدرتهم على رؤية الشعب ينهض لاسترداد تلك الشرعية، وهو صاحبها الشرعي والوحيد الذي يمكنه منحها لمن أراد، وفي أي وقت أراد. كذلك ينبغي عليهم أن يوضحوا مواقفهم من العنف الذي هو لازمتهم الأزلية منذ نشأة الإخوان المسلمين، لقد مارسوا العنف والاغتيال في حق العديد من المناضلين التقدميين، وفي حق العديد من المثقفين العقلانيين، ومن يتابع ما يجري في مصر يتأكد بالملموس مما نقول. لقد كانت النخبة السياسية والثقافية التقدمية هي من تنال نصيبها من عنف الإخوان سابقا ونيابة عن الشعب، أما اليوم فقد صار الشعب، وأيضا الجيش باعتباره نواة وقوام الدولة المصرية في مرمى حجر العنف الإسلاموي. يالها من مأساة فما يجري في سوريا من حرب مدمرة، عدمية، بدون معنى ديمقراطي واجتماعي ولا دلالة تاريخية، بين الجيش قوام النظام السوري الذي هو هو الدولة الاستبدادية هناك وبين الجماعات الإسلاموية التكفيرية والإرهابية، ما يجري في سوريا، من تخريب للدولة والمجتمع، ينتقل الآن إلى مصر حيث بدأت بوادر الصراع بين الجيش المصري وجماعة الإخوان المسلمين (حادث مقر الحرس الجمهوري، أحداث سيناء حيث تنامي أنشطة الجماعات التكفيرية، تنامي حدة الهجمات الإرهابية في سيناء خاصة بعد الإطاحة بمرسي)، وهو ما ينذر بخراب الدولة والمجتمع في مصر تعميما لمخطط أمريكي في التقسيم والتدمير، في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، من خلال أدوات إقليمية (دول الخليج، جماعات الإسلام السياسي وجزء من الحداثويين غير العقلانيين). هذا هو مآل "الربيع العربي"، فاللهم نجي بلدنا من مآلات هذا "الربيع" واهدي من هم به يتشدقون.