أدرك الإخوان المسلمون في البلاد العربية بأنّ معضلة أخرى أضيفت لمعضلة شكل الحكومات التي يتوخّونها. فبينما كانوا مطالبين بإلحاح ليكشفوا عن ملامح دولتهم المنشودة، وهو ما لم يكونوا مهتمّين به في العقود السّابقة، يوم كان سيد قطب يرى أنّ التفصيل في شكل الحكومة سابق لأوانه وهو سيأتي ويتحقق مع استلام السلطة، فقد وجدوا أنفسهم ملزمين اليوم بتطمين الرأي العام بأنهم لا يطلبون غير ما يطلب النّاس. لكن القضية اليوم باتت أبعد من مجرّد إعطاء ملامح عن الحكومة المنشودة بل المطلوب اليوم هو الإقناع بشرعية ومشروعية الحكم. ولقد عرفت بنية القيم السياسية في المجتمعات العربية تحوّلا كبيرا، غيّر من تصوّرها لمفهوم الشّرعية والمشروعية. فبقدر ما كشفت الجماعات المذكورة عن وجهها السياسي وتراجع في اهتماماتها الدّعوية، وجدت نفسها ملزمة بتبني شروط اللعبة السياسية والبحث عن حيثيات أخرى للشرعية والمشروعية خارج الخطاب السياسي الديني. فلقد بات السباق والتنافس على إقناع المجتمع بالبرامج السياسية والاجتماعية وليس بالشرعية الدينية والمشروعية التاريخية. ولقد أظهر الإسلاميون في كلّ هذا عجزا ملفتا في برامجهم السياسية والاجتماعية. وبرز ذلك بوضوح أثناء تولّيهم التسيير الحكومي. ولقد أظهرت هذه الجماعات الكثير من المرونة والبراغماتية في تعويض شرعيتها ومشروعيتها بعد سنوات استعملت فيها السلطة وسائل تحجيم نفوذ هذه الجماعات في الانتخابات الجماعية والتشريعية. فقد بات التركيز في موضوع كسر الطوق عن الجماعة الإسلامية للوصول إلى السّلطة بدل اعتماد قوة الشرعية والمشروعية على أمرين: 1 الاستغلال الذّكي للانسدادات السياسية سبقت أحداث الربيع العربي انسدادات سياسية فقد معها الأحزاب مصداقيتها والانتخابات نجاعتها وعمّ الفساد في سائر المؤسّسات. وفي تلك الأثناء بلع منسوب العزوف السياسي منتهاه، وبات الوضع ينذر بموت السياسة. وفي هذا السّياق صعد نجم الجماعات الإسلامية لأسباب ثلاثة: أ التعاطف العقابي، باعتبارهم الجماعة التي لم تعط لها فرصة. وباعتبارها الفئة التي واجهت سياسة استئصالية حادّة من خصومها. فلقد أظهر المجتمع مستوى من التّعاطف مع هذه الجماعة التي يستطيع أن يصادفها في معاقل السياسية كما يستطيع أن يصادفها في المساجد ومراكز الوعظ والإرشاد. وهؤلاء هم القوة الناخبة التي مكّنت لهؤلاء في جوّ من اليأس من سائر الأحزاب السياسية. حدث هذا في سائر البلاد التي فاز فيها الإسلاميون في الانتخابات. وفي المغرب، ازداد الصّدمة بعد صدمة الحصيلة التي أسفرت عنها تجربة حكومة التّناوب. أو على الأقل عدم القدرة على تسويق هذه الحصيلة بخطاب سياسي مقنع للكتلة النّاخبة. ب نجاحهم في التدبير تجربة الإسلاميين في التدبير الجماعي أعطى صورة للكتلة النّاخبة بإمكان نجاحهم في التدبير الحكومي. ولهذا عرفت الانتخابات قفزات كبيرة على مستوى عدد الأصوات المحصّل عليها تباعا. وكانت الدراسات الأجنبية تؤكّد على حتمية اكتساح الإسلاميين للانتخابات التشريعية بناء على هذه الحقائق. ج استعمال خطاب النزاهة كانت المجتمعات العربية قد كشفت بحدسها السياسي فظاعة الفساد السياسي والنهب الممنهج للمال العام. وتداول الإعلام جوانب خطيرة من ذلك. وبات الهدف الرئيسي في كل برنامج يحظى بالشرعية، هو مدى قدرته على إيجاد آليات مقنعة لمواجهة الفساد. ولم يستثن الفساد أحدا من كل الذين ساهموا في التسيير الحكومي. وقد سجّلت في تجربة الإسلاميين أمثلة في مجال التسيير الجماعي لكنها لم تكن كافية لتحويل أظار الكتلة الناخبة عنهم. فلقد وثقت هذه الأخير في الإسلاميين. ومن شدّة التّدهور والفساد في الشّأن العام، تم اختزال البديل في نظر الناخب، هو النزاهة. وسوف تبدأ صدمة الناخم المذكور، حينما يكتشف بأنّ ثمة فرق كبير بين النزاهة الأخلاقية وبين أهلية التدبير الحكومي. 2 استراتيجيا التمكين قبل الحديث عن خيارات الإخوان السياسية، كان لا بدّ من التّذكير بالتّحوّل الذي طرأ على الموقف الجيوستراتيجي للولايات المتّحدة الأمريكية من تيّار الإخوان المسلمين. فلقد خلّفت ثماني سنوات من حكم اليمين المسيحي المناهض للتيار الإسلامي بالجملة أثرا كبيرا على الإدارة الأمريكية، لا سيما بعد أن فقد الكثير من قدرتها على التّواصل مع القوى الشّعبية الأكثر نفوذا في المجتمعات العربية. وكانت الحصيلة أنّ فقد النّاخب الأمريكي الممتعض من سياسات جورج دابليو بوش التي عسكرة الخارجية الأمريكية وأدّت إلى غزو كلّ من أفغانستان والعراق. وهو ما أنهك الاقتصاد الأمريكي وأظهر عجز واشنطن عن الاستمرار في تدبير شؤونها الخارجية على أساس الحرب. فلقد صوّتت شريحة كبيرة من الشعب الأمريكي على باراك أوباما لأنّه كان الرّجل المناسب في اعتقادهم. بينما كان قد أجاد إدارة حملته الانتخابية بمستوى آخر من الإقناع، والذي ركّز على أمرين يهمّان آنئذ الناخب الأمريكي: الاهتمام بالملفات الاجتماعية وإصلاح الوضعية الاقتصادية الأمريكية وتغيير مفهوم عسكرة الشؤون الخارجية الأمريكية لقد كان أوباما مطلوبا أمريكيا سواء من قبل صانع القرار الحقيقي في الدّولة الأمريكية أو الشّعب. بتعبير أحد المصوّتين لصالح أوباما في رسالة وجّهها إلى هذا الأخير يقول له فيها:"وأعرف أنّك كنت صوت من لا صوت له" . وعلى الرغم من أنّ جورج بوش كان أكثر تديّنا من أوباما، إلاّ أنّه كانا تديّنا طائفيا لا يعترف بالأديان الأخرى. لذا طالما وصفت كما وصف هو بنفسه حملته على الشّرق الأوسط بأنها حملة صليبية. غير أنّ الفهم الديني عند أوباما سيكون له أثر على السياسة الخارجية. ويبدو التّحوّل في موقف الإدارة الأمريكية من الدّين بشكل عام، ناتج عن حيثيتين: الحيثية الموضوعية، وتتعلّق بنتائج الدراسات الاستراتيجية التي أعدّتها مراكز الأبحاث الأمريكية بخصوص ظاهرة التّديّن في العالم، وتحديدا في كلّ من الشّرق الأوسط وأمريكا.حيث أكّدت على المنظور الويبري نفسه المتعلّق بطبيعة التّديّن في المجتمع الأمريكي، حيث لا يوجد الدّين فقط في الكنيسة بل خارجها. ومدى مساهمته في التّقدم والحداثة. لقد أدرك أوباما هذه الحقيقة بقوله:" من القضايا المسلّم بها أنّنا نحن الأمريكيون شعب متديّن، ووفقا لآخر استطلاعات الرأي تبين أن 95 في المائة من الأمريكيين لايؤمنون بالله وأكثر من الثلثين ينتمون إلى إحدى الكنائس و37 في المائة يعدون أنفسهم مسيحيين ملتزمين دينهم وعدد الذين يؤمنون بالملائكة يفوقون كثيرا عدد المعتقدين بالإرتقاء والنشوء" .أمّا من جهة أخرى، فلقد أكّدت مراكز الأبحاث والدراسات عن أهمية القوة الإسلامية في البلاد العربية. وعن تنوّعها، وإمكانية التحالف معها في إطار ما يعتبر توصيات استشارية تحت عنوان: من العسكرة إلى الاندماج والتحالف .