في حوار هادئ مع زوجتي التي تتهيأ للمشاركة في الانتخابات، ولكنها تعاني أزمة تُدعى: [l'embarras du choix]، حيث لم تحدد موقفها بعد، ولم تقرر لمن ستصوّت، فاستشارتني في الأمر، وهو أمر غير معقول، وغير مقبول، ما دام التصويت حريةً شخصية، يتحمل فيها المواطن كامل المسؤولية.. فهي صوّتت بالأمس لبنكيران وحزبه، وستتحمّل جزءًا أمام الله والأمة والتاريخ من كل ما اقترفته يد بنكيران وحلفاؤه ضد الشعب.. وكجواب على سؤالها، فإني بينتُ لها أن عدم تمكّنها من تحديد الاختيار، هو دليل قاطع على أنه لا فرق بين هذا وذاك؛ بحيث تختلف وسائل العزف، لكنّ القصيدة الرديئة التي يؤدّونها واحدة، نصا ومضمونا ووزنا وقافية موحَّدة، وهذا هو سيدتي سرّ عجزك عن تحديد الاختيار في هذا المضمار؛ ثم إن سوء اختيارك السابق جعلك تشعرين بالذنب، و"أسوأ القتلة جبنا، هو الذي يشعر بالندم" الذُّباب؛ سارتر.. هؤلاء يكذبون، وخطبهم مطلية برقّة معسولة، والكذب يحوّل ضعفَهم وخداعهم إلى مزية.. سيقولون لك وللشعب عامة، إنهم يحبون المغاربة والوطن حبا جما وهذا صحيح بمعنى ما من المعاني: "فحتى الكواسر المفترسة ستقول لكِ إنها لا تكره الحُمْلان الطّيبة، وأنها لا تحقد عليها، بل تحبّها؛ فليس هناك شيء ألذّ وأطيب من لحم الحُملان الطري"؛ هكذا تكلّم "نيتشه" في كتابه "جينْيَالوجْيا الأخلاق" الفصل 13؛ صفحة: 36.. من هذه الناحية، فهم يحبّون لحوم المغاربة، وأموالَهم، وثرواتهم، وعندما يصلون إلى مبتغاهم، ويحقّقون غاياتهم، يصبحون هم العادلين ونحن الصابرون؛ هم الصالحون ونحن الطائعون لظلمهم؛ ويعتبر صمتُنا وضعفنا مزيّةً، فنسمّيه حرية وفضيلة، ضمن حشد هائل من شتى أصناف الخدع النفسية واللغوية؛ وهكذا باسم الشعب يقهرون الشعب؛ ويعيثون فسادا في أمواله ومصالحه، دون أن يتمكن الشعب من محاسبتهم؛ ونتيجةً لهذا العجز، تراهم يعودون كل مرة، ويضحكون على الشعب كل مرة، ثم كل مرة يعيدون الكرّة.. هؤلاء سحرة، يعرفون كيف يحوّلون السواد إلى بياض الحليب.. هؤلاء مكرة، يتقنون فن تصوير الإفساد وكأنه إصلاح.. هؤلاء مردة، يستطيعون جعل الظلم يتأنّق بوشاح العدل.. هؤلاء قردة، لا يتركون غصنا من أغصان شجرة الأمّة إلا بعدما يكونون قد تشبثوا بغصن أكثر ثمارا واخضرارا؛ فاحْذروهم؛ فلا تصدِّقوهم ولا تكذّبوهم؛ ولكن اعرضوا عنهم، وذكِّروا بمساوئهم، واحْثُوا التراب في وجوههم.. ألم تَرَ كيف استحوذوا قبل الحملة على 30 مليارًا من قوت الشعب، في وقت وقّع فيه بنكيران على صكّ الإعدام في حق صندوق المقاصّة؛ والآن يتهيّأ لتنفيذ الإعدام في حق صندوق التقاعد؛ وقبله وقّع على إعدام حقوق معطّلين، بدعوى قلة الموارد، وشُحّ الخزينة، وندرة الأغلفة المالية؛ والآن برزت 30 مليارًا فجأة، ستوزَّع على أحزاب الخيبة والمذلة.. بنكيران وقّع على صكوك كل هذه الإعدامات في وقت لم يوقّع فيه على إعدام واحد في حق قتلة المغاربة، ومغتصبي أطفالهم، وسارقي أموالهم، والمتاجرين بأمراضهم؛ بل أعلن عفوه الشامل، ليغطّي عجزه الكامل، بمقولة عفا الله عما سلف، لكن لا بأس إذا تعرّض قوت المغاربة للاستنزاف والتلف، ولا غرابة في ذلك؛ فتلكم هي "الدعوة إلى الله". فما الذي سيغريني على التصويت لأشباه بنكيران، الذي قال إن "إصلاح" صندوق التقاعد سيتمّ ولو احتجّت الصين كلها؛ وكأن الصينيين أهمُّ لديه من المغاربة الذين يتخوّض في أموالهم بغير حق؟ كيف سأصوت لبنكيران وشيعته والمتحالفين معه ضد الشعب، وهو يقول أمام "الفيسبوكيين" إنه يريد خوصصة التعليم بكامله، وتحويله إلى تجارة تخضع للعرض والطلب؟ وصدق "طه حسين" "حقّ المواطن في التعليم، كحقه في الماء والهواء".. كيف لي أن أراهن على فرس خاسرة، عرجاء، وجرباء، في حلبة السباق نحو المستقبل الأفضل؟ كيف لي أن أستوعب ضرب صندوق المقاصّة، والزيادة في المحروقات، وأسعار المواد، مع الادعاء أن هذا الإجراء وفّر كذا مليونًا للخزينة، وخفّف العبء عن الدولة، في وقت تضاعفت فيه ديون المغرب ثلاث مرات في عهد بنكيران وحكامته؟ كيف سأصوّت لأزلام بنكيران، والجماعات المحلية لا أثر لها في التنمية؟ فالأزبال في كل الطرقات مرمية، وأحوال عمال النظافة مزرية، والاختلاسات في الأموال متفشّية، إلى جانب عدم الكفاءة وغياب الأهلية، ثم لا تسألْ عن الأمية في تدبير الشؤون المحلية، ناهيك عن تعدد "الزوجات" في ميدان المسؤولية: هذا زعيم حزب، ووزير، ورئيس بلدية، وبرلماني، ومسؤول في جمعية، وهكذا دواليك.. فكلّ الإنجازات التي تحققت لا فضل لهم فيها؛ بل هي إنجازات ملَكية صرفة، ولا فضل فيها للمعز الذي تحول إلى زراف في حديقة الأمة... فبماذا سيقنِعوننا هذه المرة، مع العلم أن الكذب لا يعمّر طويلا؟