الهجرة نحو اروبا، ارتبطت بالهجرة نحو الموت. تناقلت وسائل الاعلام، غرق قارب مطاطي، كان يقل ثلاثون شابا في مقتبل العمر . مهاجرون عبر المحيط نحو جزر الكناري . قضى سبعة منهم ..انتهوا الى الموت. شيء مفجع ومؤلم . كثيرون الهاربون من الرمضاء الى النار . هاربون من جحيم واقع لايرحم .مغلق. واقع قاسي صلد، افقه مسدود . مما يجعل الهجرة ، حلما مغري. لا نستطيع أن نلوم من يعيش في واقع مر، فيصبح ويُمسي على المرارة ،و على لاشيء..لاشيء كالموت إذا فكر فيه. لانستطيع لوم المتألم من واقع مثقل بالصدأ . الشباب تتأكله الايام والسنين ، ولاشيء يغري في الافق ، لا نستطيع ان نلوم الشباب الهارب نحو البحث ، لا نلومهم على الهجرة والفرار. ليس لومُ أولئك المعذَّبين ، حقاً لنا. انهم مأساتنا. الرحلة أو المغامرة المحسومة في ذهن الشاب – والغير محسوبة في ذهنه تماما. لأن القدر وحده يعلم ما ستؤول إليه الأمور – هي رحلة العمر ومشروع الحياة، يسعى من ورائها لتحسين الوضع المادي له ولأسرته ,لكن ، قد لا تنتهي في أحيان كثيرة بالعبور إلى بر الأمان والحلم المنشود . وإنما تنتهي بالموت...فالبحر لايذكر الموتى، و لا يأبه بالاحياء. كثيرون انتهوا غرقا. ولا زالت عوائلهم و وذويهم ، يرفضون الاعتراف بموتهم . لازالوا ينتظرون ، عودتهم ، او عودة الروح ، مجرد كلمة "موت" مؤلمة بالنسبة لهم . اما الاعتراف فاشد ألم واقسى. إن الأسباب التى تدفع بالشباب إلى الهجرة كثيرة. ولكن الأسباب العامة للهجرة السرية ،هي الظروف الصعبة التى يعيشها الشباب. إنعدام وانسداد الأفاق،وغموض المستقبل ، التى تلبى الطموح الذى يسكن هذه الفئة العمرية.الرغبة في الخروج من القعر ، مواجهة الضرورة ، وتغذى كل ذلك الروايات الجاهزة عن أوروبا ونعيمها ورخاءها. ليست الرحلة في قوارب الموت مغامرة كأي مغامرة، إنها مخاطرة بالنفس ، إنها مقامرة بالأرواح . أيقامر عاقلٌ بنفسه على طاولة قِمار؟..حين لا تتعدد الخيارات .وحين يكون الاكراه والاجبار. وحين لا يكون مفر، ولا بد. الإجبار ما بين الضرورة وما بين الأشد ضرورة، ما بين الرغبة في الحياة بشكل طموح وآمن.ومابين الاشد ضراوة .مابين الانصياع لوضع مقلق حتى الانهيار . او الهروب بحثا عن بديل ، حتى لو تطلب الامر المغامرة ، او المقامرة . تفقد الحياة معناها في لحظة متمزقة .انها مواجهة الذات والجسد والموت . انها الخسارة . نحسها ونحن نفقد شباب ابرياء. ذنبهم أولدوا في زمن الرداءة والشدة والخرف.لاتنفع الكلمات مهما حملت من عزاء، لان الزمن عموما يحتوي مستويات عديدة ، يشكل اليومي عباءة الالم، فما يتحكم اليوم هو بالفعل زمن الامبالاة والمنافسة ، ورائحة الموت، وسرعة النسيان . لن تنفع امام هول الفاجعة ، للقلوب المكلومة من اهل واقارب الموتى ، كلمات السياسة وابتهالات الموت، لن نملأ فراغ الوجع ، بالتمتمات. ولا بالدموع ان وجدت.لااحد يستطيع ان يهتم بالحل العجيب للملهاة. من يفسر الامر الشاذ والغير منحقق ، امام عنف الحياة ، ومجتمع محكوم بالزبونية الى حد الخضوع . محكوم بالتراتبية بحسب الشرائح والطبقات ، لن نستطيع منح الصبر لهؤلاء الشباب القابعون على الهامش .انها عزلة المواطن تسقط امام هول الفاجعة ، ونستفيق امام الاستحواذ بوصفه عنصرا جماعيا ، في مجتمع توزيعي .يباح فيه الكلام بعد الصمت . وشهوة الحكي بعد الفجيعة ..وقد لانختلف،انها مأساتنا ، مأساة انسانية . متاهات، حكايات ، مقالات ، سجالات، قرارات ، وتقارير ، حتى الاشعار . عن البحر ، عن الهجرة وعن الموت .وكأننا نتحدث عن كائنات خيالية . طير الرخ والعنقاء والعقاب ..عن السندباد وجزيرة العجائب .وجبال الياقوت ، وجزر الواق واق..عن البراق والاساطير ..عن قصص الاطفال وحكايات العجائز...لكن الاحباط يحرق. تتقد ناره وتتشكل لعنته..الاحباط المؤدي الى الموت المجاني. الاحباط المؤدي الى المحيطات والمياه العميقة.ولاشي يوقف الحكي والسرد . "يروي ديكارت ان بامكان القردة ان تتكلم لوشاءت ، الا انها قررت الالتزام بالصمت " يقال ،جاء في الأثر ،عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل).وهناك من يقول انه حديث...ومايهمنا، ونحن في قلب المعيش، نستلهم الفكرة بفرضيتها . فمن بين الحلول التي تبدو ، اكثر فاعلية ، امام ظاهرة الهجرة ، ان نعلم ابنائنا السباحة ، ولاشيء غير السباحة ..فانهم سيقبلون يوما ما على المغامرة ، انهم سيندفعون نحو المحيط هربا من واقعهم . فنحن نتحدث عن ضيافة البحر قبل ضيافة اروبا...ونقول صدق عمر .