يلعب التواصل أهمية قصوى في كل مناحي الحياة, و لربما تكتسي محوريته في الحياة السياسية مكانة حيوية ليس فقط في ربط العلاقات بين الهيئات السياسية و أعضاءها, و لكن – و بصورة أكثر إلحاحا من ذي قبل – في سن سياسة للقرب بين مختلف الفاعلين السياسيين و عموم المواطنين في إطار ديموقراطية تشاركية أكد عليها دستور المملكة تكريسا لمفهوم المواطنة الفاعلة. لن نركز هنا في حقيقة الأمر على تقنيات و أشكال التسويق السياسي لأن ما يهمنا في هذا المقام هو آثاره على الحياة السياسية و تأثيراته على المواطن بما يخلقه لديه من ردود أفعال شخصية و انتظارات مثالية. إن التواصل لا يقتضي منا فقط الاتصال و الإخبار و الإبلاغ, فهذه خطوات لا ترقى إلى مستوى التواصل الذي يجب أن ينبني على أسس التشارك و التفاعل من أجل بناء مجتمعي يقبل فيه أحدنا الآخر و يتعايش معه من دون انتقاص و لا إقصاء. لقد فرض اتساع رقعة المجال السياسي و تزايد عدد الأطراف الفاعلة و المؤثرة فيه ارتباط تواصلنا السياسي الوثيق بمختلف وسائط الاتصال و ما تحبل به من خطابات الدعاية و الإشهار. فكل دعاية سياسية تستهدف بالأساس الترويج لأفكار و توجهات يتم إعدادها شكلا و مضمونا لأجل التأثير بأكبر قدر ممكن على المتلقي / المواطن, و من تم كان لزاما على الهيئات السياسية و في كل ديموقراطيات العالم التركيز على إنتاج حلول لواقع مشلول بالمشاكل و رفع سقف الإنتظارات, علما أن سقف الإكراهات و العوائق لا يمكن التنبؤ به و إن كانت بوادره بادية كقمة جبل الجليد. و إذا كان التسويق التجاري يعمد إلى دراسة السوق و تقييم حاجيات المستهلك, فإن التسويق السياسي يركن أساسا إلى التماهي مع متطلبات الناخب التي لا يستطيع دائما تحقيقها على أرض الواقع لارتباط السياسي بما هو سوسيو-اقتصادي, ناهيك عن صعوبة استصدار القرارات السياسية في بنية تتداخل فيها مؤسسات و مصالح, و يتأثر فيها القرار المحلي بالسياقات الإقليمية و الدولية. فلا هولاند يستطيع أجرأة برنامجه الانتخابي كما يحلو له – و لكم في انتخابات فرنسا البلدية عبرة – و لا أوباما يجرؤ على تجاوز خطوط حمراء داخليا و خارجيا, و لا حتى أردوغان بما فعله من أجل تركيا بمقدوره نيل الإجماع . و من هذا المنطلق, فإن انتظارات الناخبين ستكون دائما عالية, و هذا حقهم الطبيعي الذي لا جدال حوله, غير أن تفعيل كل مضامين الدعاية السياسية هو أمر في غاية التعقيد خاصة إذا اصطدمت نية الإصلاح بإشهار مضاد يشتت الجهود و يهدر الزمن و يشوش على المسارات. أن نمارس إشهارا تصحيحيا و دعاية بديلة من أجل تجويد العمل السياسي فرض عين على كل الهيئات و النخب, أما نشخصن التدافع و نسلع الوطن من أجل مصالح ضيقة و حسابات " رد الحساب ", كما يقال, و في إطار معارضة كل شيء من أجل لا شيء, فذلك خط أحمر احمرار علم وطننا الحبيب, خاصة إذا كان المنتقدون هم أول العارفين بتعقيدات متاهة الإصلاح, بل و يتحملون جزءا من المسؤولية فيما وقع. إن ما يميز هيئة سياسية عن غيرها ليست برامجها المتقاطعة و المتقاربة, و إنما هو ثباتها عند تولي المسؤولية على نية الاستصلاح و رغبتها العنيدة في اقتحام قلاع الإفساد و إلحاحها في أجرأة إصلاحات مستدامة و محافظتها على نقاء يديها من التلاعب بالمال العام و استمراريتها في التواصل مع قواعدها و مع المواطنين و رزانتها السياسية في تجاوز فقاعات الدعاية المضادة المروجة لخطابات التيئيس و التبخيس , بما يخدم استقرار البلاد و العباد أولا و أخيرا. فكثرة الانتقاد لكل شيء كما لو أن الوضع كان مثاليا من ذي قبل إنما تعني أمرين أولهما أنك بدأت في مسار إصلاحي لا يروق للبعض, و ثانيهما أن البعض الآخر ما يزال يتوسم فيك الأمل و يرى فيك المصداقية. يجب أن نتيقن أن مصلحة الوطن العليا تقتضي منا جميعا و بدون استثناء تغيير نوعية العلاقة القائمة بين الافكار و التيارات و تحويلها من مشادات و عداء الى حوار بناء و مواطن, خاصة و أن اللحظة سياسية بامتياز إذ تؤسس لمرحلة انتقالية تستدعي مواقف و توافقات تاريخية مغايرة تماما لما ساد قبلها. الإصلاح تراكمات و مدخلاته متشابكة حد التيه مما يستوجب بديهيا تكامل الجهود و التنسيق بين القوى آنيا, في أفق إعداد الذهنيات و الأجيال لتحمل تبعاته و الانخراط في ممارساته بما يتطلبه ذلك من ثورة تعليمية و تنوير إعلامي لا زلنا للأسف نفتقدهما, فالأزمة أخلاقية في عمقها قبل أي شيء آخر. إلى ذلكم الحين, وجب أن نفكر بالأجيال القادمة كوطنيين لا في الانتخابات المقبلة كسياسيين كما قال شكيب أرسلان, كما وجب الانخراط و بحس وطني لا لقتل البعوض – كما صدح بها عزت بيغوفيتش – بل لتجفيف المستنقعات, و كفانا من شخصنة الانتقادات و إشهار الإشاعات و إجهاض المقاربات و تسويق المغالطات و مرحبا بالانتقادات البناءة الواضحة و البدائل الجاهزة … فالوطن ليس سلعة تباع و تشترى.