الحياة لغز .. قد يبدو بسيطاً لمن اختار أن يعيش على هامشها أو يطفو على سطح أحداثها، ولكنه معضل – بلا شكّ - للمنخرطين في تفاصيل وقائعها، والعاملين على فكّ عقده لاكتشاف سرّها الدفين، وبين هذه الأصناف أطياف من الناس تتدرّج بين من لا تعدو أن تكون الحياة بالنسبة لهم أكثر من متعة عابرة لا يحملون فيها همّاً سوى أنفسهم وتحقيق رغباتها فتكون ذواتهم هي الأول والآخر، وهي المبدأ والمنتهى فيعيشون الحياة طولاً وعرضاً، شهيقاً وزفيراً، إلى أن يُودَعوا باطنها، فقد خرجوا منها بلا أثر يُذكر، بل بأثرٍ سلبيّ لأنهم شغلوا فيها موقع (إنسان) كان العالم بحاجة إلى وجوده وتصرّفوا بنقيض ذلك .. وبين نماذج أخرى تتفاوت بين مصلحين تجلّت فيهم أسمى معاني الخير، وأشرار تمرّغوا في وحل شرورهم. لغز الحياة معقّد الحبكة؛ يتداخل فيه الرياضي بالفلسفي، المادي بالمعنوي، الحقيقي بالزائف، فلا يستوعب مستوى صعوبته إلاّ الواعون لدهاليز النفس البشرية، والمطّلعون على أعماق لاوعيهم وخفاياه، والعاكفون على فهم الحياة وتفسيرها وتحليلها، كما لا يستمتع بحلّ هذا اللغز إلاّ (الأذكياء) في فن الحياة، المتحدّون لصعابها، الأقوياء، ذوو البصيرة النافذة، وأصحاب النَفَس الطويل، لا يقعدهم الفشل بل يحفّزهم لمزيد من المحاولة، فيجعلون من كل صخرة في الطريق عتبةً للصعود نحو الهدف ليزدادوا حكمة مع تخطّي كل عقبة كأداء في محاولة فهم الحياة وسرّ الوجود. لن نتمكن من حلّ لغز حياتنا (الخاصّ) إذا لم نُثقّف عقلنا ونشحذه لقراءة أحداث حياتنا الشخصية والحوادث العامة المرتبطة بها، وما وراءها، ودورنا فيها، وموقعنا منها بالتأمّل فيها وسبرها عميقاً، وإذا لم نُتح لأشرف عضو فينا – العقل - أن يمارس دوره بطرح الأسئلة الوجودية الكبيرة بجرأة دون أن يُقمع بإجابة (معلّبة)، أو يُخوَّف، أو يُسفَّه من طرح أسئلة تبحث عن الهدف من وجوده، وكأي لغز رياضي أو غيره لن نتمكن من حلّه إلاّ ببذل الجهد، فمن الأولى أن لا يُرضي فضولنا أية إجابة سريعة وجاهزة لما يقلقنا من أمور ديننا ودنيانا حتى تتأتى لنا الحكمة التي قد تنبع من داخلنا بعد طول بحث وسؤال، أو قد تُساق إلينا في حادثة فريدة على لسان حكيم ضليع في فهم أسرار الحياة فيبسّط أعقد الأمور بمثال من الطبيعة - كما في الحكاية أدناه – ليحوّل قلق سائله سلاماً واضطرابه اطمئناناً. يُذكر أنه مرّ شيخ كبير بشاب يجلس على ضفة النهر وتبدو عليه علامات الحيرة والحزن وهو يحدّق النظر في ماء النهر الرقراق الذي يمرّ أمامه، فجلس بجانبه فابتدره الشاب قائلاً: أشعر باضطراب شديد، وأنا بأمس الحاجة لأعيش حالة من السلام الداخلي ولا أدري كيف أحظى بذلك .. فقطف الشيخ ورقة من الشجرة التي كانت تعلوهما وألقى بها في النهر، وقال له: انظر إلى ورقة الشجرة هذه كيف سلّمتْ نفسها لمياه النهر تأخذها حيث تشاء، ثم أخذ حصاة كبيرة وألقى بها في النهر، فاستقرّت في القاع، فقال له: انظر، لقد استطاعت هذه الحصاة بسبب ثقل وزنها أن تتغلب على دفع مياه النهر وتستقر في القاع، كما استطاعت أن تحدث أثراً في حركة مياهه .. والآن قل لي يا بني، أي سلام تريد، سلام الحصوة التي استقرت في القاع، أو سلام ورقة الشجرة التي سلّمت نفسها لمياه النهر؟ فنظر إليه الشاب بإعجاب وقال بلا تردّد: أما ورقة الشجرة فلم تحظى بالسلام، فهي تعلو وتهبط مع كل حركة في مياه النهر، ولا ندري إلى ما انتهى مصيرها، بينما الحصاة فقد استقرت في مكانها، ورغم أن المياه تجري من حولها إلا أنها بقيت ثابتة ولا يمكن لشيء أن يزحزحها من مكانها .. أنا إذاً أفضّل سلام الحصاة .. فابتسم الشيخ وسأله، ما دمت قد اخترت لنفسك هذا السبيل، فلماذا تشكو من تقلّبات الدنيا وقسوة الحياة؟ عليك أن تحافظ على هدوئك واستقرارك النفسي، وكن سعيداً لأنك تمسك بزمام حياتك وتقرّر مصيرك بنفسك. شعر الشاب بالارتياح وتنفّس الصعداء، ولكن قبل أن يترك الشيخ سأله فضولاً: لو كنت مكاني هل ستختار سلام الحصاة أو ورقة الشجرة؟ فابتسم الشيخ وردّ عليه قائلا: أنا طوال حياتي سلّمت أمري لخالق نهر الوجود الأعظم، وركنت إليه، واطمأننت له، ولأني أعلم أنني في أحضان نهر كل ذرّة من ذرّاته تذكّرني بحضور المحبوب – الله – فأنا لا أخشى تقلّباته ولا أضطرب منها .. أنا أحب سلام ورقة الشجر وتسليمها، وأعلم كذلك أن الربّ الذي أعطى للحصوة القدرة على البقاء والثبات، زوّد ورقة الشجرة بالقدرة على مسايرة تقلّبات الحياة في صعودها وهبوطها .. يا بني أن تكون ورقة شجرة على سطح نهر الحياة أو حصاة في قاعه فهذا خيارك .. ولكن لا تنسَ أنك قد تحتاج أحياناً أن تكون كورقة الشجرة وأخرى كما الحصاة .. المهم أن تكون حكيماً في اختيارك لما تريد أن تكون ..