الإنسان كائنٌ مُنتمٍ بطبعه.. مجبول على الميل للأشياء، والتعلق بالأشخاص والتعصب للعادات والسلوكات... وهو محب ولوع بالتمييز والمفاضلة بين الأشياء، حريص على المماثلة وإظهار أوجه الخلاف بين كل ما يحيط به؛ وقد وجد الكثيرون في أندية كرة القدم ومدارسها، ثنائيات جديدة أضيفت إلى قائمة الثنائيات المعهودة. فمال هذا الفريق إلى هذا النادي دون غيره، وعشقت تلك الفئة أندية غيرها حد الجنون، وتعصبت مجموعة ثالثة إلى فرق كروية أخرى في تنافسية هستيرية خرجت بها من آداب الرياضة المحمودة إلى دائرة الشذوذ غير السوي الذي يجعلها ترتكب حماقات ربما تكلف الكثير.. ما ذكرت أعلاه كان مقدمة أحببت أن تكون مدخلا للخوض في خصوصيات ظاهرة التعصب في الانتماء الرياضي التي أخذت في السنوات الأخيرة حجما كبيرا في شوارعنا وبين شبابنا وحتى شيبنا ذكورنا وإناثنا. كالذي حدث هذا السبوع مع مباراة مصر الجزائر من تعصب الجهلاء والحمقى، الذي فاق كل التصورات والتوقعات، في إثارة الفتنة وزرع بذور البغض والمرارة بسبب منافسة كروية،كان يمكن أن تمر في جو أخوي عادي بين شعبين شقيقين، لولا ومزايداتهم عمليات الشحن المريض التي مارستها الأبواق الإعلامية وغياب الحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والمهنية. فقبل مدة وبالضبط بمناسبة عيد الفطر، زرت أحد الأصدقاء في منزله للمعايدة وصلة الرحم المفروض دينيا بين المسلمين؛ وبعد الترحاب والقيام بواجب الضيافة وكرمها المعروف لدا المغاربة، لاحظت تخلف طفلي صديقي اللطيفين لبنى وأسامة عن الحضور للسلام علي كعادتهما. أحجمت عن السؤال برهة ظنا مني أنهما في زيارة لجدتهما بهذه المناسبة الدينية، لكن اشتياقي لشغبهما الظريف دفعني لأستطلع أمر غيابهما، والتأكيدا على فراغ البيت بدونهما. ضحك الأب قائلا إنهما ممنوعان من الخروج من غرفتيهما عقابا على مشاجراتهما المتكررة، وما يحدثانه من ضجيج وٍ صياح ومشادات، وتكسير وبعثرة لأشيائهما هنا وهناك، إلى جانب الملاسنات الانفعالية غير المعهودة والمتعصبة بسبب كرة القدم الأسبانية، و ناديي البارصا والريال..
ظاهرة غريبة فعلا تلك التي أصبح يعيشها الشباب المغربي عامة والفاسي خاصة، تلك التي نقلت عدوى ما تشهده وتعيشه الملاعب الرياضي من شغب ومنافسات بين مشجعي الفرق، إلى البيوت والأسر، وجعلت أكثرية الشباب المغربي حتى صغار السن منهم،- لبنى وأسامة مثالا- يتفرقون في حب الأندية الأجنبية وخاصة منها: "البارصا" نادي برشلونة، و"الريال" نادي مدريد، والذي يظهر جليا في الحماسة والتحيز السافر للفرق الأجنبية على حساب الوطنية، بارتدائهم للأقمصة والبدل والقبعات ومناديل العنق التي تحمل أرقام و أسماء مشاهير فرق الريال و البارصا ورموزهما الرياضية. حتى أن بعض المقاهي عُرفت بميول روادها للبارصا، وأخرى خصصت لأنصارالريال. فهل يمكن اعتبار ما يحدث مع البارصا والريال، ظاهرة صحية، أم هي نوع من الإستيلاب؟؟ أم هي مجرد تعويض عن النقص وتعبير صريح عن الاستياء الرياضي؟ وكيف تمكنت هذه الأندية الأسبانية من تكوين قاعدة جد عريضة من الأنصار بين الشباب المغربي في الوقت الذي أصبحت فيه فرقنا وأنديتنا الوطنية لا تحرك سواكن وعواطف هؤلاء الشباب. قبل الجواب ينبغي النظر إلى هذه الظاهرة بعين السوسيولوجية، لأن الأمر لا يتعلق بتشجيعات رياضية عادية ومعتادة، بل هو بحث مستمر عن فريق/ وطن آخر، بانتماء جديد و هوية أخرى، والذي يمكن نسميه بالحريك الرياضي نحو البارصا و الريال أو غيرها من الفرق الأخرى التي تقدم الفرجة والفرحة، بدل الانتصار للبطولة الوطنية التي اصبحت لا تحرك في الجماهير الرياضية المغربية ، وخصوصا الشباب أي تعاطف أو انتماء، كما نلاحظ ذلك بقوة في مدن الشمال، حيث نكتشف أن هجاسا بالانتماء إلى زمن/وطن آخر يقدم الفرجة التي تفرض هذا الانتماء و الهوية. و بما أن الوطن لا يقدم الحد الأدنى مما هو مطلوب منه، فإن الحريك الرياضي و العنف المضاد الذي يرافقه يظل جوابا محتملا ذاك السؤال وعلى قلق الهوية و الانتماء. على العموم وفي كل الأحوال فهي ظاهرة غير طبيعية لشباب فقد بوصلة الانتماء إلى هذا الوطن و تعبير عن فراغ يشكوه الكيان المغربي و هجرة شرعية بعيدا عن الكساد الذي يعم الملاعب الوطنية وتمردا على الواقع المأساوي الذي تعرفه الكرة المغربية بكل أنديتها و هروبا من قبح الواقع المتردي الذي تعيشه تتعرض له من إخفاقات متتالية ونتائج هزيلة ومستويات جد متواضعة. والتي خبا فيها الحماس وفتر بها كل الذي عرفته الرياضة في سنواتها الزاهية من انتصارات كانت تبعث روح التعاطف والانتماء للفريق الوطنية؛ وتجعل المغاربة يحبون نوادي أحيائهم وفرق مدنهم، ويشجعونها، فلا يقتصرون على حضور المقابلات المحلية الوطنية فقط. بل كانت الحصص التدريبية لفرق الأحياء، تعرف هي أيضا إقبالا جماهيريا منقطع النظير. طبعا هو إستيلاب ما في ذلك من شك، استيلاب وجد الشباب المغربي نفسه مرغما على الإنسياق معه، بعد أن ولى الزمان الجميل الذي كانت فيه الأندية الكروية تعيش والنتافس الجميل من أجل الإبداع والتميز، قبل أن تطغى المصلحة الشخصية على المبادئ والقيم الكروية تارك, وراءها أندية فارغة من الروح الرياضية تقدم مباريات تفتقد إلى النكهة، وإلى الحماس، وإلى ابسط تقنيات كرة القدم. ما جعل الشباب المغربي يجد في اسبانيا ما يروي عطشه الكروي ريثما تتحسن الأوضاع الكروية وتعود الى الملاعب تلك الفرجة التي افتقدناها لعدة سنوات..فهل ستعود تلك المرحلة الرياضية ام اننا سنبقى غرباء عن أنديتنا الرياضية الوطنية. [email protected]