كل نفوس بني البشر للنفوذ تواقة، وللمناصب المخزنية ميالة، وبالعزة والجاه مغرمة، ونحو النخوة منجذبة، وفي الأبهة والبريستيج راغبة. خلاصة القول: السلطة سلوك لا يعترف بحدود، ولا يقر بقيم، ولا يخضع لانتماء.وهي سحر لا يقاوم، وإغراء لا يواجه. نفوذها وامتيازاتها ومغرياتها، توقع بالصغير قبل الكبير في حبائل التلذذ بوجاهتها، والتمتع بهيبتها وانحناءات عبيدها الموظفين والشواش والسائقين و كافة المواطنين الخانعين لتسلطها، المستكينين لجبروتها، القابلين لظلمها. ولو نظرنا بعمق للسبب الرئيس في وجود العبودية والسلطوية سنجد أنها ليست في وجود فرد/ مؤسسة/ نظام جبار.. بل في وجود من يركن/ يرضخ/ يستكين/ يقبل بهذا الفرد الظالم أو النظام الجبار.. ورغم أنه لا دوام لبريقها، ولا خلود لأحد فيها. لكنها حينما تتمكن من النفوس الضعيفة غير المشذبة ولا المؤدبة، والضمائرالمهزوزة. تُفقد القيم خصائصها، والمبادئ دلالاتها، بما تُأججه من مشاعر الطبيعة البشرية، في صيغتها البدائية، القائمة على الأنانية والرغبة في التمدد والتضخم على حساب الآخرين.. وتدكيه من حمأة التسابق الانتهازي على المواقع المراكز. فكلما عنت فرص التسلط، دارت على الأمة المقهورة مسرحية بائسة، يتبادل أدوارها، بكل عهر مقيت، وتهتك عارم، ووقاحة فادحة، مخلوقات جعلت من السلطة ديدنها، وامتيازا لأبنائها، ومهنة لأحفادها، ومكسبا اجتماعيا متوارثا بين أقربائها، يحكمها -أو تحكمه- قانون المنفعة، ثم المنفعة، ولا شيء غير المنفعة. المنفعة التي تُذهب البصر والبصيرة، وتُبقي المجتمعات الخانعة على الحصيرة؟؟؟؟؟؟، وتُشيع اليأس والإحباط في الناس، وتنشر بينهم الفقر والأمية و العطالة و التهميش، وتزيد الفوارق الطبقية والجهوية، وُتفقد الثقة في المؤسسات العامة والخصوصية، وترفع من منسوب العزوف عن المشاركة في كل الانتخاباتها. فلا غروة أن يكون الخوف من فقدان السلطة ووجاهتها إحساس غريزي كالأمومة.. يتسبب في كثير من الثوتر والقلق، للكثير الكثير ممن استمرؤوا ريع امتيازاتها، وعلى رأسهم بعض منتخبينا المحترمين الذين أكلوها "باردة" في كل الإستحقاقات السابقة التي عرفتها البلاد واستحمرت فيها العباد، والتي كانت "ساهلة ماهلة" أمنت لمن يعرفون كيف تؤكل الكتف، الفوز المريح في أجواء من الاسترخاء والطمأنينة. إنها حقيقة من ألف النعاس فوق المقاعد البرلمانية المخملية، وأرائك المجالس البلدية، الذين يهزم الخوف والرعب قلوبهم كلما تخيلوا أنفسهم ينزلون من على الكراسي المريحة ليتحولوا بعدها إلى مواطنين عادين كباقي البشر الآخرين. لقد أصابهم ذعر شديد، و ارتعدت أوصالهم حين رأوا ملامح التغيير ظاهرة للعيان، جلية الدوافع، لم يتوقعوا مؤشراتها البينة رغم ضآلتها، وهم الذين لم يتعودوا على المنافسة الشريفة في حياتهم "اللاسياسية" المبنية على شعار"المقاعد لنا لا لغيرنا". فنزل عليهم ظهورالوجوه الجديدة كالصاعقة، خاصة تلك التي الوجوه التي نالت من الإلتفاف الجماهيري ما لم يحظوا به هم قط، فارتعب الكثير منهم، لما تصوروا شديد المنافسة وخطورة المزاحمة التي يمكن أن تبعدهم عن تلك الأبهة الزائفة والوجاهة الخادعة التي ألفوها على حساب بؤس الأمة، والجاه المبني على سطوة البرلمان وحصانته، وكل ما يتبعها من مغانم ولذائذ المجالس الجماعية التي غرقوا في عسلها حتى الثمالة. فبريق الكراسي عندنا يخطف الأنظار ويعمي الأبصار، ويدفع إلى حروب تباح فيها كل الأسلحة حتى غير المشروعة منها. ، والتي نحمد الله أن عيون لم تُغمض علنها في انتخابات تجديد الثلث السابقة، حيث قُدم بعض المزورين للعدالة التي قالت كلمتها فيهم( على علاتها) ليكونوا عبرة أثناء الإنتخابات القادمة. وحتى تكون الانتخابات نزيهة كما يرغب فيها المغاربة ويريدها ملكهم الذي يؤكد دوما على التخليق والنزاهة. لا كما يريدها الذين أرعبهم التغيير، وأفزعتهم فكرة زوال السلطة وما إستمرؤوه من إمتيازات بلا جهد ولا كفاءة. فجاهدوا للحفاظ عليها بالعنف والإكراه وكل الوسائل المخالفة للشرع والقانون، فكابروا وعاندوا وتصدوا للتغيير كسنة للحياة، وقانونها الأزلي الذي لا يقبل المتخلفين عن مسايرة تواتر تحولاته، وتوالي انقلابات الجدة والتجديد، التي تؤثر في الإنسان و في محيطه الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والسياسي، والتي أكدت الشواهد التاريخية أن كل الخلق في تجدد مستمر، وأن الجديد لا يلغي القديم إلغاءا تاما إلا إذا تقوقع ذاك القديم على ذاته وتقاعس عن التعايش مع المتغير ورفض مسايرته، عندها ينهار ويتفسخ ويندثر. كما جاء في مقدمة إبن خلدون التي قال فيها(( إن الأمم وعوائدها لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، و إنتقال من حال إلى حال، يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله خلت )).. فالتغيير إذا فرصة نستطيع من خلاله الاحتكام إلى كل ما هو جديد ومقارنته بكل قديم من أفكار ونظريات و سلوكات.. بدلا من إجترار نفس التجارب المملة لمدد طويلة نكتشف بعد فوات الأوان عقمها وإفلاسها. لقد أثبتت التجارب أنه من دون المقارنة بين الأضداد لا يمكن التعرف على الفروق بين الرجال والأشياء والأعمال والسياسات والنتائج والألوان، كما أنه من دونه لن نتمكن من اكتشاف الكفاءات والقدرات التي تحبل بها البلاد، و بدونه كذلك لا يمكن أن نحكم ونقيم التجارب والرجال الأفضل من الأسوأ. فلماذا يخشى هؤلاء ركوب موجة التغيير؟؟ و كأنهم بُرمجوا على نمط وحيد ونسق أوحد لا شريك له، حتى باتوا كالإنسان الآلي في كل الأمور الحياتية، وماتت في نفوسهم روح المغامرة، وحب التجديد، وأغلقوا نوافذهم في وجه رياح التغيير.. بل خاصموا حتى نسائمه التي تمكن من استنشاق روائح الجدة، وتجريب السياسات والتكتيكات والممارسات والوجوه الجديدة في كل المجالات، وعلى رأسها العمل البرلماني والتمثيل الجماعي. و مع انطلاق الحملات الانتخابية الجماعية، وبعد انتهاء فترة مجالسها، التي حددت في ست سنوات، والتي كانت بدون شك كافية ليثبت فيها المنتخب لناخبيه أنه كان على قدر من الكفاءة والثقة وأنه أدى المطلوب منه غير منقوص..نجد الهم والغم والحزن يفسد على بعضهم ما كانوا فيه ينعمون من غبطة وفرح، خاصة عندما أحسوا برغبة وجدية تفكير المغاربة في تغيير الوجوه. بصرف النظر عما يمكن أن يأتي به من نتائج وبصرف النظر كذلك عن طبيعة تلك النتائج، فهي في النهاية ستكون نتائج مقبولة حتى و لو لم تختلف كثيرا عن المنتهية، فهي ولا شك فرصة لإنتاج مجالس جماعية بوجوه جديدة. يمكن أن يقول قائل: إنه لا يمكن أن نتعرف على كفاءات وقدرات هؤلاء الجديد. فنقول أنه رغم تعذر التعرف على كفاءات الوجوه الجديدة قبل تجريبها، فإننا على الأقل عرفنا قصور الكثير من السابقين عن القيام بما أنيط بهم من مهام ومسؤوليات، وبشهادة بعضهم (وشهد شاهد من أهلها) أن معظمهم لم يكونوا عند حسن الظن والثقة الموضوعة فيهم، لأن أكثريتهم كانوا "مستشاري صدفة" فقط، وما كان العمل الجماعي قط، ميدانا من ميادينهم ولا بحرا من بحارهم، فهم دخلاء على السياسة والعمل التمثيلي، تعودوا على السباحة في برك الانتهازية وما صادفهم فيها من قضايا وتجارب ناقصة ومحدودة محدودية آفاقهم... فلنجرب الوجوه الجديدة، ولنعمل بالمثل المغربي الدارج "تبدال لمنازل راحة" فربما يحمل الوافد الجديد الكثير من الجدة والتجديد. في الحقيقة لقد إنشرحت الكثير من الصدور لهذه الحركة التصحيحية، رغم التخوف من أن تكون مجرد حدث مؤقت دون نتيجة، أو تجربة معادة مكرورة فرضتها أحداث طارئة تزول بزوالها. وهناك من نظر إليها على أنها استمرار للصراع الأزلي على السلطة و النفوذ بين الأقوياء، ووسيلة لإضعاف ودحر قوى ورؤوس قد أينعت وتعنتت في هذا الحزب أو ذاك وحان قطافها بل وجب. لكن تلك الانتفاصة فرصة جاءت لتدشين انطلاقات تجديدية واعدة، لأنها على الأقل استطاعت أن تطلق شرارة التمرد على الوجوه والسياسات المتكلسة،-التحول من مساندة الحكومة إلى المعارضة- حتى لو لم تكن بنية الخوض في الإصلاحات الرزينة الجدية، لكنها عجلت بتورة لا يقدر عليها إلا الأقوياء الذين يملكون جسارة القول والفعل، فهي كالخميرة تجعل العجين جاهزا للخبز ولو بعد حين. وهنا تتجلى أمامنا تلك المقولة القائلة: "رب ضارة نافعة". لا اعرف أى قدر من الدهشة، بل والحنق، يمكن أن يعتري المواطن الواعي وهو يتعرض للكثير من الانتهاكات المضاعفة في مجتمع كهذا، تارة على يد السياسين الذين لا يعملون إلا لخداعه، وتارة أخرى من الجمهور نفسه الجاهل بكل حقوقه و واجباته غير المدرك لمصالحه، وكأن الوعي شؤم على صاحبه، لا ينقذه من الشرور، بل يزيده من الهموم و الأحزان ما لا يطيقه، مصداقا للمثل الدارج "ما فالهم غير اللي كيفهم" لذلك فهو لا يريد أن يفهم أبدا، رغم وضوح محاولة القفزات البهلوانية التي يقوم بها الكثير ممن أحسوا بالخطر،فتنقلوا بين تيار وآخر، بين نظام وآخر، بين حزب أو تنظيم وآخر. و ربما نتقبل أو نحاول أن نتفهم أن طموح البعض منهم أكبر من أن يستوعبه تنظيم أو ربما هو ذاته الذي جعله يرغب في الإلتحاق بالوافد الجديد، وربما كان السبب واحداً في الحالتين.. وهو البقاء في السلطة ووضع اسمه بين أسماء ما يعرف لدينا بالوجهاء "علية القوم" والإبقاء على الامتيازات المكتسبة. لقد آن الوقت ليدرك المواطن أن الحل في يده، وأن المفتاح مربوط بحبل معلق إلى عنقه، لكنه تدلى على ظهره فما عاد يراه واعتقد أنه أضاعه، فقانون التغيير هو الخيار الوحيد، ولابد من تجريب الوجوه الجديدة حتى نتمكن من المقارنة بين السابق واللاحق القديم والجديد منها، ونستطيع أن نحكم ونقيم ونميز الغث من السمين. ومن دون ذلك التغيير لن نتمكن من اكتشاف الكفاءات والقدرات الجديدة الواعدة التي تحبل بها البلاد، فهناك قدرات قوية جديدة، وهناك رموز سياسية طرية، و كفاءات وتخصصات عالية لابد أن تتاح لها فرصة الوصول لتعطي كل ما عندها لتجديد البلاد وتنميتها.. [email protected]