شكلت بحيرة «مارتشيكا» بالناظور، على مدى سنوات عديدة، قاعدة بحرية (آمنة) لشبكات تهريب المخدرات على الصعيد الدولي، حيث كانت ترسو أعداد كثيرة من الزوارق المطاطية السريعة، التي تستعمل في تهريب شحنات الحشيش، ..إلى حين انطلاقها إلى أوربا عبر هذه البحيرة، ويتم ذلك بالتواطؤ مع بعض العناصر المكلفة بحراسة ممر «وادي بوقانا» (يبلغ عرضه مابين 80 و100 متر)، وهو الممر الوحيد لدخول وخروج هذه الزوارق من وإلى بحيرة «مارتشيكا». اعتبر هذا الممر المائي دائما، «نقطة سوداء» فيما يخص النشاط الكثيف للتهريب الدولي للمخدرات، ولم يكن ممكنا وقف تهريب شحنات الحشيش منه إلى أوربا، في غياب إعلان مواجهة حقيقية مع الأجهزة المكلفة بالحراسة، التي طالما أغمضت عينيها مقابل الاستفادة من عمولات مالية مغرية عن كل عملية تهريب تقوم بها الشبكات المختصة ذات الامتدادات الأخطبوطية. وقد انتظرت السلطات الأمنية المختصة في مكافحة تهريب المخدرات، طويلا قبل أن تبدأ حملاتها الواسعة النطاق ضد هذا النشاط، الذي أساء كثيرا لسمعة المغرب في المحافل الدولية. حملة مارتشيكا: يجمع المراقبون في هذا المجال، على أن أقوى حملات مكافحة التهريب الدولي للمخدرات، انطلاقا من سواحل الناظور، هي تلك التي انطلقت بتاريخ 21 نوفمبر 2006، واستمر مفعولها المتفاوت إلى حدود شتاء 2009، حيث جندت الأجهزة الأمنية جميع إمكاناتها لتطهير بحيرة «مارتشيكا»، على أساس أنه قاعدة شحن وتهريب المخدرات إلى أوربا. بالتركيز على الحملة الأولى (نوفمبر 2006)، نلاحظ، انطلاقا من الرصد الواسع الذي قامت به جريدة «الشمال»، أنها أسفرت عن حجز 163 زورقا مطاطيا سريعا من مختلف الأحجام، أغلبها تخلى عنها مستخدموها بعد محاصرة السلطات الأمنية لهم، وكذلك حجز كمية من الحشيش تفوق 7 أطنان. الملفت للانتباه، أن هذه الحملة، المعروفة في الريف ب«حملة مارتشيكا»، أدت إلى اعتقال عدد من الحمالين وحراس الزوارق المطاطية، وبعض المشتبه فيهم، لكنها لم تطح برؤوس شبكات التهريب الكبيرة، حيث ظل الأباطرة في منأى عن هذه القضية الأمنية إلى غاية أن هربوا إلى بعض الدول الأوربية، كإسبانيا، وفرنسا، وهولندا... وعكس الحملات الأوربية التي شنتها السلطات الأمنية في مدن الشمال ضد شبكات التهريب الدولي للمخدرات، مثل شبكة منير الرماش في تطوان، وشبكة بين الويدان في طنجة، لم تطح حملة مارتشيكا بالناظور بأي مسؤولين أمنيين من المكلفين بمراقبة الممر البحري لوادي بوقانا، وحراسة سواحل الإقليم، وهذا ماجعل بعض المتتبعين يطرحون تساؤلات حول الطريقة التي تمت بها هذه الحملة، ونتائجها المفترضة، كما تطرح فرضية وجوب تدخل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية لمباشرة التحقيقات والاعتقالات في حق من تبقى من أباطرة المخدرات قيد مذكرات البحث. يعزى سبب انطلاق حملة مارتشيكا إلى عاملين إثنين: أولهما: مطالبة جمعية الريف لحقوق الإنسان، في شخص رئيسها شكيب الخياري، بوضع حد لأنشطة شبكات التهريب الدولي للمخدرات انطلاقا من بحيرة مارتشيكا، وفضح صمت الأجهزة إزاء ذلك، عبر رسالة موجهة إلى الديوان الملكي. ثانيهما: صدور تحقيق مفصل في جريدة إسبانية، قبل الحملة بأسبوع، تطرق بالتفصيل لأنشطة تهريب الحشيش عبر سواحل إقليمالناظور. الحرب ضد شبكات التهريب: في سياق عدم تحقيق حملة نوفمبر 2006 لنتائج حاسمة فيما يخص تفكيك شبكات التهريب الدولي للحشيش المغربي إلى أوربا (إسبانيا خاصة)، تم إعطاء نفس قوي للحملة الحالية (شتاء 2009)، عبر تدخل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية على أوسع نطاق، وجرى رسم أهداف في قمة أولوياتها تنفيذ اعتقالات واسعة في صفوف أباطرة المخدرات بإقليمالناظور. واستنادا إلى التحريات الصحافية التي باشرتها جريدة «الشمال» في عين المكان، تعزى الأسباب الكامنة رواء انطلاق الحملة الجارية إلى العوامل التالية: أولا: شريط بثته قناة M6 الفرنسية حول أنشطة تهريب المخدرات انطلاقا من سواحل إقليمالناظور، خصوصا منطقة «بني شيكر»، و«رأس وارش»، حيث تم تصوير عدد من الزوارق المطاطية راسية في إحدى المناطق الساحلية تحت أنظار عناصر مكلفةبخفر السواحل. ثانيا: تنامي الضغوط الأوربية على المغرب من أجل توسيع نطاق محاربته لأنشطة التهريب الدولي للمخدرات، ومصدر هذه الضغوط هي إسبانيا، التي تستغل هذا الوضع لتطالب بالمزيد من الإعانات المالية من المنظمات الدولية التي تمنح مساعدات ضخمة في إطار محاربة المخدرات. ثالثا: تواتر أنباء غير مؤكدة عن اشتباك بالسلاح وقع بين مهربين وعناصر من البحرية الفرنسية التي تقوم بدوريات لاعتراض الزوارق في المياه الإقليمية الإسبانية، أدى إلى مقتل عنصر تابع للبحرية الفرنسية. تواطؤ الأجهزة الأمنية: حملة شتاء 2009 أسفرت عن الإطاحة بالعديد من المسؤولين المكلفين بحراسة سواحل إقليمالناظور، بعد التمكن من تفكيك شبكة قوية تنشط في مجال تهريب المخدرات، يتزعمها (م.ل) الذي نجح في تصدير عشرات الأطنان من الحشيش نحو فرنسا، إسبانيا، بلجيكا، وهولندا، باستخدام زوارق سريعة من نوع (غوفاست)، ووسائل لوجيستيكية وتقنيات حديثة، وقدرت أرباحه من عائدات التهريب لسنة واحدة (2008) بما قدره 4 ملايير أورو. وتبين، بعد الاعتقالات في صفوف عناصر من الدرك الملكي، والبحرية الملكية، والقوات المساعدة، أن الأمر يتعلق بشبكة واحدة لتهريب المخدرات، وإنما شبكات متشعبة ومنظمة، اخترقت مختلف الأجهزة المكلفة بمراقبة السواحل، علما أنه من غير المستبعد تورط عناصر من أجهزة في أخرى، إذا ما تمت الإطاحة بكبار أباطرة الحشيش، مثلما شملت الحملات السابقة في العديد من مدن الشمال تواطؤ مسؤولين أمنيين من العيار الثقيل. وكشفت التحقيقات الأولية، في هذا السياق، عن تورط العديد من المسؤولين من ضمنهم ضباط كبار برتب مختلفة، وبلغ عدد الموقوفين في هذا الملف الملغوم 29 عنصرا من البحرية الملكية، و17 عنصرا من الدرك الملكي، و23 عنصرا من القوات المساعدة، يوجد من بينهم ضابط برتبة ليوطنان كولونيل مسؤول بفرقة البحرية بالناظور، إضافة إلى عنصر واحد من القوات المسلحة الملكية. أباطرة خارج القبضة الأمنية: تميزت الحملة الحالية بتكامل جهود الأجهزة الأمنية المختصة، فبينما باشرت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية اعتقالاتها في صفوف أباطرة المخدرات في الإقليم، شنت مروحيات الدرك الملكي حملات تمشيطية على سواحل الناظور، وبضواحي «رأس الماء»، وطاردت مجموعة من الزوارق المطاطية وحجزت العديد منها. وتبين لجريدة «الشمال» أنه بمجرد انطلاق حملة الاعتقالات في صفوف أباطرة المخدرات ومساعديهم الأقربين في مختلف مناطق إقليمالناظور، قام مجموعة من المهربين الكبار بالفرار إلى مليلية، فيما اختبأ آخرون في أماكن مجهولة. ومن بين هؤلاء الهاربين من العدالة، والذين صدرت في حقهم مذكرات بحث، نذكر الأسماء التالية: (ع.أ) متورط في عدد من ملفات التهريب الدولي للمخدرات. (ع.خ) الملقب ب(السبع)، يحمل الجنسية الإسبانية، وسبق أن حررت في حقه مذكرة اعتقال دولية. (ن.ل) مهرب معروف هارب من أحد السجون الإسبانية، حررت في حقه مذكرة بحث وطنية إبان حملة مارتشيكا (نوفمبر 2006). (ح.ط) مبحوث عنه منذ 2006، شوهد مرارا وهو يتجول على متن سيارة ذات الدفع الرباعي وسط مدينة الناظور. تجريد المهربين من ممتلكاتهم: حسب مصادر «الشمال»، فقد أصدر الوكيل العام للملك قرارا بتجميد ممتلكات المتورطين في التهريب الدولي للمخدرات انطلاقا من سواحل إقليمالناظور، وشمل هذا القرار الحسابات البنكية، والممتلكات العقارية والمنقولة لكل المتورطين وزوجاتهم وفروعهم، خاصة الممتلكات التي تكونت من عائدات التهريب الدولي للحشيش. ويشار إلى أن أي قرار مماثل لم يصدربخصوص المتورطين في قضايا التهريب، إبان حملة مارتشيكا (2006)، التي أصبحت معها هذه البحيرة مغلقة تماما في وجه المهربين على مدى 3 سنوات تقريبا. وفي إطار استكمال جهود محاصرة أنشطة تهريب المخدرات من سواحل الشمال إلى الجنوب الإسباني، ومنه إلى الدول الأوربية (فرنسا، بلجيكا، هولندا)، أوفدت وزارة العدل لجنة للتفتيش في مجمل الملفات التي صدرت فيها أحكام قضائية بخصوص قضايا التهريب، من أجل الكشف عن الاختلالات، ومدى ملائمة الأحكام الصادرة في حق الأباطرة، لمعرفة هل كانت (أحكاما عادية)، أم أن المتورطين استفادوا من (معايير تفضيلية). المقاربة الأمنية لا تكفي: كشفت جميع حملات محاربة التهريب الدولي للمخدرات انطلاقا من سواحل المدن الشمالية، بدءآ بحملة 1996، مرورا بحملة 2006، وحملة 2008، وصولا إلى حملة 2009، أن وضع حد لهذه الأنشطة الاخطبوطية لم يكتب له النجاح الكامل عبر الاقتصار على المقاربة الأمنية، والزجر القانوني، وسلطة العدالة. إن استفحال التهريب الدولي للحشيش، الناتج أساسا عن اتساع رقعة زراعة المخدرات في مجموعة من الأقاليم الشمالية، لا يمكن مواجهته إلا باعتماد مقاربات متعددة وذات طابع شمولي، في مقدمة ذلك: تقليص المساحات المزروعة بالقنب الهندي (الكيف) في مدن شفشاون، تاونات، العرائش ومنطقة الريف، عبر إيجاد بدائل حقيقية وذات مردودية للمزارعين الذين يقتاتون على هذا النوع من الزراعة المحظورة. خلق مشاريع تنموية، خاصة في الريف الأوسط، الذي مازال يعاني من نقص في البنيات التحتية، ويعيش على اقتصاد التهريب، ويقاسي مجاله القروي من مختلف أنواع الحرمان والبؤس الاجتماعي، والعزلة القاسية. تشديد المراقبة الأمنية على السواحل الشمالية، وتكليف عناصر موثوق فيها، بعد أن اتضح أن تهريب شحنات المخدرات يتم، في الغالب، بتواطؤ مكشوف مع الأجهزة المكلفة بالحراسة والمراقبة..!!