الذي رحل عنا بالأمس إلى جوار ربه ليس فقط مرشد جمعية الجماعة الخيرية التي عرفت باسم جماعة العدل والإحسان منذ أن رفعت شعار العدل والإحسان في نهاية الثمانينيات.. الذي التحق بالرفيق الأعلى هو رجل ولد في العام نفسه الذي أسس فيه الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين بمصر بعد أربع سنوات فقط من إعلان كمال أتاتورك عن سقوط الخلافة العثمانية عام 1924..هو رجل بدأ حياته معلما وانتهى به المطاف مفتشا في التعليم بعد أن تدرج في وظائفه لعدة سنوات.. هو رجل تاهت نفسه في بحر الضيق والحيرة وأصابته أزمة روحية جد في البحث لها عن مخرج لم يهتد إليه إلا في ظل الزاوية القادرية البوتشيشية التي التحق بها، في عز الأزمة السياسية المغربية بعد إعلان حالة الاستثناء سنة 1965، والتي استراحت فيها نفسه ووجدت ملاذها على يد الشيخ العباس الذي أخد بيده ليسلك طريق العارفين بالله ويتقلب بين أشواق الصوفية وأذواقها.. هو رجل خرج من هدوء الصوفية وسكينتها إلى ضجيج السياسة وصراعاتها فاختار في أول مبارياته أن يدخل ملعب السياسة مهاجما يلعب في المنطقة المحرمة التي لا يغفر النظام ذنب من يحاول الوصول إليها أو اختراقها فتلك كبيرة من الكبائر عقوبتها السجن والحصار والإقصاء والتهميش ما لم يعلن المذنب توبته منها.. هو رجل قرر منذ الفصول الأولى لتشكيل لبنات الجماعة أن يمارس عمله الدعوي والسياسي في العلن نابذا كل أشكال السرية وأن يبلغ رسالته وينشر دعوته بالسلم رافضا كل أدوات العنف.. هو رجل في الفكر والتنظير ساد القوم وتزعمهم فألف بكثرة وكتب بغزارة وإن كان فكره لا يغادر دار الخلافة على منهاج النبوة وقلمه لا يتنكر لإرثه الصوفي الذي انعكس على نهجه التربوي أول الدعامات التي قام عليها تنظيم جماعة العدل والإحسان والذي يمثل محور تماسكه وقوته.. هو رجل ظل وفيا لما يدعو إليه، اختلف معه من اختلف واتفق معه من اتفق، لم يخذل قناعاته وأفكاره وأسلوبه ونهجه في أي لحظة من لحظات صراعه وصدامه مع السلطة الحاكمة، فحتى وهو يرمى به في مستشفى الأمراض العقلية ويزج به في السجن لعدة سنوات ثم يفرض عليه الحصار في بيته لعشرة أعوام، لم يقدم تنازلات أو يتاجر بالجماعة والمحن التي تعرض لها أعضاءها في السجون ليحصل على ما يتهافت عليه القادة والزعماء السياسيون عادة. فلو كانت السلطة غاية في ذاتها لدى الأستاذ عبد السلام ياسين لفعل مثلما فعلت الحركات والتنظيمات الإسلامية واليسارية في المغرب عندما أقدمت على إجراء مراجعات وإدخال تغييرات جذرية في أفكارها وأيديولوجياتها وخاصة موقفها من الملكية فلما أحست منهم السلطة الصدق منحتهم صكوك الغفران وجازتهم بأحسن الذي عملوا وقلدتهم من المناصب فوق ما كانوا يتصورون وأكبر مما يخطر لهم على بال. لو أراد الأستاذ عبد السلام ياسين السلطة لنفسه لأسس جناحا عسكريا وهو يعلم أكثر من غيره أن بقاء جماعته خارج المشروعية القانونية وبأساليب سلمية لن يحقق له مراده. لو أراد السلطة لنفسه وفي حياته لفعل مثلما فعلت أحزاب وتنظيمات راديكالية كانت لها ميليشيات وأجنحة عسكرية ولما أبقى على طابع جماعته المحلي والقطري والمستقل عن كل مد أو ارتباط خارجي. لو أن السلطة كانت وحدها مسعاه، كما سعى إليها غيره حبوا، كانت رسالة واحدة منه تحوز رضا وموافقة البصري كافية ليحصل على حزب سياسي وعلى مقاعد برلمانية وكيف لا على حكومة فيما بعد طالما أن هناك من سبق وجرب هذا المسار وأفلح في نيل ما كان يرجوه. الذي رحل عنا بالأمس رجل يستحق منا، رحمه الله وتغمده بواسع رحمته، كل الاحترام والتقدير، مهما كان موقفنا من نظريته السياسية في الحكم المتمثلة في الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، لأنه رجل لا يمكن اختزاله في صوفيته فقط ورميه بالشطحات والبدع فقد كان مفكرا طبع الحركة الفكرية المغربية بكتبه ومؤلفاته وأدخل إلى الساحة المغربية نموذجا إسلاميا فريدا في طبعه المحلي محتفظا باستقلاليته، عكس الشبيبة الإسلامية والتيارات السلفية التي كانت رهينة الفكر والدعم المشرقيين، ومميزا بنبذه للعنف ومتفوقا في تربية أعضاءه الإيمانية. نموذج أفاد المشهد السياسي المغربي في خلق التوازنات بعد المد الجارف للأفكار والتيارات اليسارية وخطورة الفكر المرجعي الراديكالي الذي اتسم به التيار الإسلامي حينها.