بعد مقتل الصحافيّين رامي السيد وماري كولفان Marie Colvin وريمي أوشليك Rémi Ochlik أثناء ممارسة عملهم ، ازداد وعيُ مُراقبي المواقع الإعلامية ، ومبعوثي وكالات الأخبار والصحف والقنوات الفضائيات بارتفاع ثمن التضحية الجسدية والنفسية الذي ما زالوا يؤدّونه في تغطية أحداث المواجهة بين النظام والمعارضة في سوريا ... إلى درجة أنّ متابعة ما يحدث في هذا البلد العربي ، من خلال شهادات المراقبين وعدسات الكاميرات أصبح ، في مدينة حمص مثلا من جراء القصف الشديد الذي يتعرّض له حيُّها " بابا عمرو " وانقطاع الاتصالات فيها ، شبه مستحيل اليوم. هكذا، فوجىء فاتحو المواقع الإخبارية بعنوانين من مثل " عندما توَقّف مراقبونا في حمص عن التوثيق " ( فرانس 24 بتاريخ 24-02-2012 ) ، وكان السبب في ذلك ، حسب هذا المصدر ، واضحًا جدّا : " إنّ الناشطين الذين اعتادوا تصويرَ ما يحدث في المدينة لم يتجرؤوا على الخروج من منازلهم ...، وكل المشاهد اقتصرت على بعض الجرحى صُوِّروا داخل إحدى مباني الحي ". وفي خِضِمّ هذه الأحداث المأساوية ، وبعد أن بدأ الخوفُ ينال من شجاعة عددٍ من متابعي المشكلة السورية من صحافيين ومراقبين ومبعوثي الوكالات الإعلامية والقنوات الفضائية ... ترَكّزَ النقاشُ مباشرة حول عمل الصحافيين ، وخاصة مصوّري الروبورتاجات الذين يضطرّون للذهاب إلى قلب الأحداث ( الاختلاط بالناس في المظاهرات والالتقاء بالمعارضين أثناء قصف النظام لهم... ) فيعرّضون أنفسَهم للخطر ... خطر الإصابة بالجراح ! خطر الخطف والسجن والتعذيب ! خطر الموت الذي يطوف حولهم في كلّ لحظة ! وهذا ما عالجه برنامجُ " أسرار المصادر " في القسم الأوّل منه ، بتاريخ 25-02-2012 ، على إذاعة راديو فرانس كولتور France Culture ، حيث تناول مُنَظّمُ البرنامج ، جان مارك فور ، موضوعَ " سوريا : الموت من أجل الشهادة الإخبارية " من خلال مثال مدينة حمص التي أصبحت شبيهة ، في مأساتها وما تتعرّض له من حصار وقصف مدفعي ورصاص قناصي النظام ، ببعض المدن الأوربية في فترات تاريخية دموية كستالينغراد وسراييفو ... وكان الضيفان المَدْعُوّان لمناقشة هذا الموضوع هما باطريك شوفِل Patrick Chauvel وباطريك باز Patrick Baz ، باعتبارهما يعملان في ميدان الصحافة المتخصّصة في هذا الميدان ، إذ أنّ باطريك شوفل هو مراسل الحروب ومصور الروبورتاجات التي غطّت عدداً كبيراً من الأحداث والخلافات في العالم منذ أربعين سنة ، أمّا باطريك باز فهو الرئيس المسؤول عن قسم الصور في مكتب الشرق الأوسط لوكالة فرانس بريس... وجاء نقاشُ إشكالية الموضوع ، في أوجهه المختلفة ونقطه المتشابكة ، متقاطعًا مع الواجب المهني الذي يهدف إلى " الإخبار والإعلام " من جهة ، والخوف من الموت كشعور إنساني يكمن في الحرص على الحياة من جهة أخرى . وكان السؤالُ الرئيسي المطروح بهذا الصدد هو التالي : هل تستحق الصورة الإعلامية ( أكانت فوطوغرافية أم فيديوها مباشرا ... ) أن نخاطر بحياتنا من أجل التقاطها أو تسجيلها ؟ أمّا الأسئلة المتفرّعة عنه ، فقد كُرّس َالجزءُ الأكبر منها للتّفكير حول قيمة الصورة الإعلامية وثقلها وأهميتها على المستوى المهني والسياسي والإنساني والتاريخي : أين تكمن هذه القيمة ، هل في أنها تستجيب للشروط التقنية والموضوعية التي تجعل منها أن تكون صالحة لأن تنشر في صحيفة أو على موقع ... وكفى ؟ أم لأنها تُلتَقَط في قلب الأحداث الساخنة وتطلع شاهدة بما يقترفه النظام من جرائم ضدّ المدنيّين وتكون عندئذ كمُندّدة واقفة تُحاول قطع الطريق أمام من لا يريدون أن تصل أصواتُ المحاصَرين إلى العالم طالبة المساعدة والنجدة ؟ أم في كونها نتيجة فعل ثنائي متماسك ومتزامن تقوم به عينُ الصحافي والعدسة بدرجة عالية من الفطنة والتركيز وقوة الحضور ، حيث لا تكتفي بتسجيل الحدث بل تُوَثّق مرئيا وسمعيا بدايةَ تغيّرٍ ما أو تحوّلٍ مُفاجِىء في الحياة السياسية وطبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع ؟ أوَ لا يُمكن تلخيص القيمة الحقيقية للصورة الإعلامية التي تشتغل في إطار تغطية الثورات والاحتجاحات في أنّها قد تُخلّد لحظة حاسمة في قدر أُمّة وتاريخ شعب ؟ مهما كان الجواب ، فإنّ هذه الأسئلة تحيل ، في رأيي ، إلى بعض الوظائف التي تؤدّيها الصورة الإعلامية ، والغالب أنّها قادرةٌ في مجموعها أن تشرحَ بعض الجوانب المهمة في الدور التوثيقي لهذه الأخيرة... إلا أنّ القيمة الكبرى للصورة التي لا يُحفّزها شيءٌ آخر غير السعي إلى نقل ما يحدث في مكان ما وإخبار الناس به ، أنّها توثق الوقائعَ انطلاقا من وجهة نظر تنبثق - قبل كلّ اعتبارٍ مسبّق وموقفٍ مُتّخَذ - من داخل الحدث وقلب المواجهة دون أن تهمل السياق العام الذي يُوَلِّدُ الأحداث ... إنها الصورة التي تساعد كل من يراها على فهم الواقع الذي تحيل إليه والعناصر المكونة له والمحيطة به أيضاً... من هنا ، كما يقول باطريك شوفل ، يتحوّل الصحافيُ المصور من مجرّد شاهد على ما يحدث إلى مصدر الخبر ... وهذا ما يفسّر في رأيه كراهية الأنظمة الديكتاتورية لعمل الصحافيين والنظر إليهم كأعداء لها ... ولهذا السبب يعتقد أنّ النظام السوري يمنع خروج العاملين على تغطية الأحداث في حمص من الخروج من المدينة... وإذا كان النظامُ يخاف من الصحافيين والصورة الإعلامية الشاهدة والموثقة فإنّ الوعي بالخطر والموت المحتمل أو الممكن في أية لحظة هو حاضر دائما في عمل هؤلاء الصحافيين الذين يقبلون بهذا الواقع الممقوت ويؤكّدون ، عكس ما يظنّه الكثيرُ من الناس ، أنّ مُهمّتهم ليست نزهة أو جولة سياحية... صحيح أنّ الخوف من الموت لا يفارق مصوّري الحروب والخلافات بين الجهات المتصارعة ، لكن خوفا من نوع آخر ، يخصّ عدم التقاط الصورة المناسبة في الوقت المناسب ، يبقى هو أيضاً حاضرًا بقوّة ، بالإضافة إلى الخوف من السقوط في مصائد الخدع والمناورات وتزوير الحقائق... هنا يذكّرُ باطريك شوفل بضرورة الحفاظ على " المسافة اللازمة " بين الصحافي والأفراد والجماعات التي تستجيب لأسئلته أو تسمح له بالدخول إلى ميدان أنشطتها ومرافقتها في تحرّكاتها ... حتى يتسنى لعمله أن يتحقق في الشروط الموضوعية المنشودة ويوفّرَ لأبحاثه واستفساراته ما يحتاج إليه من حيطة وحذر ، كأن يتجنّب السقوطَ في شباك مُقلّبي الحقائق وألاعيب من يُتْقِنون التمثيليات العاطفية مِمّن يحبّون الظهورَ أمام عيون الكاميرات وعدسات المصوّرات ويريدون الإدلاء بشهاداتهم بخصوص ما يزعمون أنهم عاشوه بأنفسهم أو رأوه بأعينهم أو سمعوه من أشخاص موثوقين ... وأجدُني في هذا السياق حريصاً ومشدوداً إلى إثارة نقطة من الأهمية بمكان تتعلّق بتحذيرٍ وجّهَه باطريك شوفل إلى زملائه الصحافيين من ظاهرة خطيرة سمّاها " السرعة " في التعامل مع الصور الملتقطة أو المسجلة ... ولتوضيح موطن الخطر في الصور التي تنشر بسرعة فائقة اليوم ، قام في عُجالة بتقديم حكاية بليغة المعاني وقعتْ له ( لم يذكر تاريخَها ) لما كان في جنوب لبنان ( ربما أيام الحرب الأهلية ) لتغطية الأحداث آنذاك هناك... لنتركه إذن يروي هذه الحكاية ( التي تصرّفنا في أسلوبها ) ولنستمع إليه باهتمام كبير لعلنا نستفيد من الرسالة التي تحملها تجربتُه الطويلة : كنت برفقة مسيحيين فبدأ حريقٌ يأخذ في كنيسة كان وراءه جماعةٌ من المسلمين ... لم يتحمّل رجلُ دين ماروني كان يلبس جُبّة الكاهن - السوطان - رؤية هذا ، فأخذ رشاشةَ وشرع يطلق الرصاص ( في الهواء ؟ صوب أحد ؟ لا يحدّد شوفل هذه النقطة ) ... اغتنمتُ هذه الفرصة والتقطت صورةً للرجل وهو في حالة يطبعها تواجدُ عنصريْن نقيضيْن أي زيّ الصلاة والعبادة والسلام ، وسلاح الرشاش الدال على العنف والموت والحرب... فكانت الصورة " ممتازة " ... قمت توّا بعد ذلك بإرسالها إلى وكالة الصحيفة التي كنت أعمل لها قصد النشر في فرنسا... لكن ، بعد أربع ساعات ، جاءني الراهبُ الذي يظهر على الصورة ليفاجئني بطلب عدم نشر الصورة وتمزيقها... فلما استفسرتُه عن سبب هذا الطلب مع العلم أنها تعكس في نظري ما حدث في الواقع ، أجاب أنها لا تعكس إلا موقفه هو حين " استسلم لحالة جنون أخذه " ... وقال لي : " إنها لا تعكس الحقيقة ! " . فلما سألته عن هذه الحقيقة التي لا أعرفها أجابني بأنّ المسلمين في المنطقة يحترمون رجال الكنائس ولم يقتلوا راهبا واحدا على الرغم من الخلاف بينهم ... وأضاف قائلا في قلق : " ماذا ستكون ردودُ أفعالهم لمّا يروا هذه الصورة ؟ " يقول باطريك شوفل في هذه اللحظة أنّه أدْرَك الخطأَ الكبير الذي وقع فيه لما " أسرع " في الحكم على الصورة الملتقطة باعتبارها تنقل خبرا يقينيا وسليما ، فاتصل بعد ذلك بمكتب صور الجريدة التي يعمل لها وطلب من المسؤولين فيه أن لا يَعْرضوا الصورة للنشر ... لكنهم اعترضوا على طلبه ، وعبّروا عن دهشتهم من موقفه حيث ذّكروه بأنّ هذه الصورة هي حقاً " سوبليم " أي عظيمة وجليلة ! واعترف باطريك شوفل بما قالوه وأنّها من جنس الصور التي يجري وراءها المصورون لأنها مثيرة للانفعالات والمشاعر وتُتوّج عادة الصفحاتِ الرئيسية للصحف العالمية الكبرى... لكنّه أعاد على مسامعهم أنها مخالفة للحقيقة ولا يحق للصحيفة أن تنشرها لأنها إنْ فعلتْ ستقع في تعارض صارخ مع أخلاقيات مهنة الصحافة... وبعد أخذٍ وردّ ، نال في النهاية ما كان يطلبه ، ولم تُنْشر الصورة ! ماذا يمكن أن نقول بعد قراءة هذه الحكاية ، وما الذي يمكن أن نستنتجه من خيوطها ؟ أوّلا ، لو كانت صورة الرجل الديني الماروني - وهو في لباسه الكنائسي ويحمل رشاشة - قد التُقِطَتْ في زمننا هذا - زمن الإنترنت والسرعة المذهلة - وأُرسِلت للنشر لاستحال بعد ذلك سحبُها أو تمزيقُها ، ولكانت فعلتْ من دون شك فعلَ الأسلحة الفتاكة في صفوف اللبنانيين وغيرهم من العرب والمسلمين في البلدان الأخرى ، بل وحتى خارج العالم العربي ! ثانيا ، أنّ هذه الحكاية هي فريدة وقيّمة لأنها مليئة بالمعاني والدروس لكلّ من يسكنه هاجسُ الحقيقة من الصحافيين والمثقفين ونشطاء الإنترنت – الفيسبوكيين والمغرّدين التويتريّين وغيرهم... بطريقة أخرى ، المطلوب هنا من كلّ صحافي له وعيٌ مهني بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه ، لا يتعلق فقط بالحذر اللازم عند التقاط الصور وتسجيلها، بل كيف يتعامل معها بحكمة وتعقّل أي لابُدّ من التأنّي والفحص الشامل لسياقها وحيثياتها قبل أن يأخذ قرارَه بعرضها على الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية من أجل النشر. وعليه أنْ يبقى متمسكا بالقاعدة الذهبية رقم واحد في ممارسة عمله : لا بُدّ مِن تبنّى الحذر والاحتياط اللازميْن فيما يخصّ الواقعَ الذي تحيل إليه هذه الصورُ ، وطبيعةَ العلاقة الموجودة بين هذا الواقع وعناصر الحقيقة التي تحيط به . وهنا تكمن – فيما يبدو لي - الرسالةُ المركزية التي تنطق بها حكايةُ باطريك شوفل. إنّها تقول بكلّ بساطة أنّ الصورة الإعلامية التي قد تسْتحقّ من الصحافي أن يخاطر بحياته من أجلها هي التي تنطلق من قناعة متينة بشرف المهنة ومسؤولية الصحافي ، وتنشأ من رغبة عميقة في الشهادة بالحقيقة... وهي تبعاً لذلك الصورة التي لا تُنشَر إلا بعد التأنّي وإعمالِ النظر والفحص الموضوعي لكلّ العناصر المكوّنة لمضمونها المرئي و / أو السمعي ، والتي تدخل في روابط تكاملية مع عناصر أخرى سياقية لا تظهر فيها ولا نسمعها لكنّ الإحاطة بها شيءٌ ضروري لفهم ما يحدث بالفعل ، وتجنّب الوقوع في الخطأ وكلّ ما يترتب عن هذا من تبعاتٍ قد تؤدّي إلى إحداث أو تعميق الكراهية والحقد والرفض بين الأفراد والمجتمعات والدول ، وربما اندلاع العنف والمواجهات بينها...