التفت إلى زوجته وهو يهم بركوب القطار مودعا اياها قائلا: * انت لم تري الضحكة في وجهي . ابداً اخاف اعملها و لا تعرفني. فمن يحمل هم قضية وطنه لا يجب ان يضحك أو ان يبتسم. كما لا يجب أن أودعك بالدموع حتى لا تظنين اني ضعيف فلا تعقدين الامل علي . اجابته : *لكن نحن يجب أن نبتسم ونحن نقبض بالجمر حتى لا نمنح أعدائنا فرصة التمتع بآلامنا. فخسارة الجيب يسترها الغيب حتى لا يفرح بها الغير . مكتوب علينا أن نلعق جراحنا بألسنتنا مثل القطط حتى لا نمد ايدينا ليخيطها لنا طبيب غير رحيم. تمتم مرتبكا وهو ينظر الى أقصى الشارع وكأنه يبحث عن شخص اخر اسمه الثقة بالذات ليأتي ليقف الى جانبه ويمنحه من الجرأة ما قد يساعده على بوح يلخص فيه اسبابه المنطقية ليغادر عشه الدافئ وزوجته وأبنائه في مثل هذه الظروف اعصيبة التي يمر منها وطنه . تخونه الشجاعة من جديد فيتمتم لنفسه ،ثم يستجمع كل ما أوتي من كلماته المبعثرة على شفتيه والمسجونة في حنجرته ليقول : * سيكون ليلي أنا طويل ، مثل شعرك! مثل ليالي وحدتي ! هكذا هي ليالي…… كما أتوقعها الان . نظرت اليه وكأنها تسبر أغوار قلبه العميقة لعلها تستطيع الوصول الى اخر نقطة مظلمة في ذهنه لتنتشل تفكيره من تلك الحجرة المظلمة التي يحاول سجن نفسه فيها .حتى تخرجه منها بسلاسة وحكمة وبأقل الاضرار الممكنة . ثم أجابته بهدوء : *- بل نهارك سيكون أملا فسيحا…. مثل كوكبنا هذا …. مثل بريق عينيك و صفاء روحك…..بل هكذا يجب أن تكون أيامك. فكل الابواب المفتوحة مستوحاة من فتحة شرنقة قلوبنا المتطلعة لفسحة الامل التي نعقدها على ما وراء الابواب .ورحابة المكان تتوقف على رحابة صدورنا التي تستوعب آلامنا وأحزننا . بل أطلق سراح مخيلتك من معتقل الذاكرة وحلق في سماء ابداع لتعود بذهنك لهذا الوطن لتفتح ابواب الامل حين يهاجمك اليأس أو المستحيل ليجتاحك ويسجنك بين احضانه ..، لان الابداع هو تحليق المستحيل نفسه في الفضاء الغير الممكن ….. ثم سكتت وهي تحاول أن تمسك بيده دون النظر الى وجهه. احس بارتباك فسقطت حقيبته الصغيرة من يده لتتناثر مسودات ديوانه الشعر وثيابه بين قدميه . قال لها وهو يحاول أن يضغط بقوة على الحقيبة ليغلقها رغما عنها حتى يتفادى النظر الى عينيها حتى لا يضعف أمامها فيترك العنان لدموعه السجينة بمقلتيه . * حبيبتي كل الاشياء جميلة إلا أنت ،فأنت جمال الابداع الإلهي عينه، وهو لا يقبل المقارنة مع ما هو اقل منه …. والجسد يموت واقفا قبل أن يسقط أرضا حين تخترقه رصاصة الفراق وخيانة الذكريات بتركها ورائه . وأنا كلما دعوت ربي بأن يرزقني أفضل ما عنده من خلق الله ، ازددت انت عشقا لي وزدت أنا هياما بك ،فأدركت أنك هدية الله لي فما أروعك …. أني جملة توقيفية قد يستطيع أعدائي حذفها من جملهم ولكنها ضرورية لفهم مستوى خطابهم ،لا أعرف متى بدأتُ ولكن أعرفُ متى أتوقفُ. إن كل واحد منهم مثلَ الانسانية في نضالها المرير واعتزلَ التمثيل حين وصل لكرسي القرار ، فأصبحَ أكثر واقعية بان اصبح الناطق الرسمي لنفسه …. إن داخل جسدي بالجهة اليسرى فيلق جينات يصرخ قائلا : اننا لا نقبل التهجين ، وبالجهة اليمنى هناك حفنة جينات تقول اننا ضحايا تهجين سابقة ….. إن اصدقائي الذين كانوا فرسان ابداع من العيار الثقيل هجروا الوطن . وهجرتهم كانت اكبر خسارة …إن الفرسان تسقط تباعا وينمو مكانها عشب طفيلي لا يصلح لأي شيء يستحق الذكر أو الاحترام . احبتنا لا يموتون في قلوبنا حتى ولو دفناهم بأيدينا وحبهم عرق نابض مادمنا على قيد الحياة …. وإن لم نهاجر فإن القلوب تهاجر لتعيش حيث تحب وتتمنى حتى ولو سجنا اجسادها بين اربعة جدران وأرواح المبدعين صقور تحلق في انحاء العالم لتحط رحالها بقصيدة شعرية او لوحة تشكيلية ليبقى الحب ذلك العش الذي نبنيه مع احبتنا بكلمات طيبة وإحساس راقي يخلد كل ذكرى جميلة بالقلب والذهن.أما الجحيم فهو احساس نبنيه بكرهنا للآخر وتزداد ناره الحارقة كلما كرهنا عددا أكبر من الاشخاص … وأروع احساس هو ما يصدر عنك حين تلتزم الحياد في تعاملك مع الاخر بحيث لا تظلمه بأحكام مسبقة ولا تكرهه بتصرف طائش ولا تعاقبه بإبعاد جائر ولا تقربه بتملق مستفز. لان الافكار الجميلة والطيبة كقطرات الغيث الرحيمة ، تزيدك رحمة بنفسك وبغيرك كلما تزايدت كميتها ؛ فتحتضنها ارضية النفوس الطيبة الاخرى لتزهر علاقات انسانية طيبة راقية. وأنا أتوق للهجرة بعيدا ليس هروبا من حيث أنا وإنما عناقيد الافكار تزيد نضجا كلما عشنا حياة حقيقية وعانقنا حضارات اخرى لنحكي خبرة حياة حقيقية. فلا احد يمكن أن يكون كاملا ولكن يمكن أن يكون انسانيا وراقيا . ربما نحن نلوم الاخرين عن اشياء خارجة عن ارادتهم ؛ ونحن لم نقف ولو لمرة واحد لنلوم انفسنا عن اشياء ورطنا فيها انفسنا عن قصد. فعلا كم احترقنا شوقا لأشياء لم ننالها ،و لو تحققت لاحترقنا أسفا على تحقيقها.ولكن حين يضيق ثوب الزمان يتمزق ليكشف عورة قوم استباحوا عرض الكلمات .أننا نحاكي ظلالنا ونسينا اننا مجرد تماثيل تتحرك رغما عنها .قد نكون اليوم …وقد نكون غدا ….الى ان لا نكون أبدا ، لكن المشكل ليس في كينونتنا . المشكل في ماذا تركنا بعدنا ؟ فأنا لم أعشق يوما أن أكون باب حمام شعبي الخارج يدفعه برجله والداخل يدفع برجله ولكن عشقت ان أكون ثريا الجميع يرفع اليها عينيه حتى وان لم يكن معجبا بها كشيء ولكن سيعجب بضوئها وجمالها . لا شيء سهل ولا شيء صعب ولا مكان للمستحيل ، إنما الحياة فرص والذكي من يستطيع اقتناص الفرصة المناسبة في اللحظة المناسبة و تصبح الحياة مهزلة ان لم نكتب لها سيناريو دقيق بحبكة… سأهاجر لبعض الوقت لكن ثقي بي إني سأضعك بين الرموش لأحميك من دمعتي. سأحبك حب الام والأخت والزوجة وكل النساء……. سكتَ فجأة لأنه لم يمتلك القوة ليتمم كلماته واختنق صوته من انفعاله . انحنت تساعده على إغلاق الحقيبة وهي تبتسم قائلة لتخفف عنه وقع اللحظة … * حتى وإن وثقت بك فإني لا أثق بالحياة لأنها هي من تجبر البشر على سلخ جلودهم مثل الثعابين وتغير لونهم كالحرباء .أحبني فقط حب الزوجة ، فإنك ستكون قد أجزيت وأوفيت …فلو دام حبك لكل هذه النساء لما اخترتني أنا لأقسمك حياتك . من باب الحكمة حين أغضب من أقرب الناس الي فإني أحب ان اركب قطارا ألتقي فيه غريبا لا أعرفه ولا يعرفني فاشكي له كل همي لينزل كل واحد منا ويمضي الى عالمه . فأتخلص من ثقل الامي لغريب حتى لا يقذفه في وجهي يوما ما في لحظة غضب. ولكن أنت لست بغريب عني ،إنك توأمي الروحي. كثيرا ما يسألونني صديقاتي عن الابناء .فأقول : هم الذين نسمح لهم بأكل أكبادنا أمام أم أعيننا ولا نرفض أو نقاوم.و يسألونني عن الحياة . فأجيب : هي المدرسة التي تدخلها مرغما والذكي من يتخرج منها بشهادة التفوق في التواصل الفعال دون خسارة الاخر لان الاعتذار لا يعيد كرامة الفرد . فبدل أن نفكر في الاعتذار اليه نفكر في أن لا تخطأ في حقه فبكاء الميت مجرد خسارة للدموع . لقد كنت أتمنى أن أقول أشياء جميلة وكثيرة لأبي ، وكنت أحيانا أخجل أن أعبر له عن ذلك و لكن الموت أخذته مني . فتعلمت درسا أن أقول إلا الاشياء الجميلة لمن أحب قدر المستطاع وأكثر. وإن أغضبتني أنت بتصرف ألتزمت بالصمت حتى لا أندم يوما حيث لا ينفع الندم .لكن كل الاشياء لها ثمن إلا الكرامة لأننا لا نجدها في سوق الخردة حين نحتاج إليها ..كل الاشياء لها عتبة اشباع إلا قلبي فكلما أحبك ارتفعت طاقته الاستيعابية ليعشقك أكثر فأكثر وأكبر فأكبر فتدلل وتبختر فلك كل العمر. أحيانا أحس أني ذاهبة الى حيث لا أريد وعائدة من حيث لا أعلم ،وفي كلا الحالتين لا زلت اسكن قوقعتي بدون ملل لاني عالقة في نفق زمن اصبح فيه ابتزاز الابناء للإباء والأزواج لبعضهما نوعا من الدبلوماسية العائلية للحفاظ على ماء الوجه . ولكن … ثم سكتت وأمعنت النظر الى وجه زوجها لتضيف بنبرة حسرة . * تبا لك ايها الزمان حيث كل من ركب قصب خيزران أصبح يسمى فارسا بدون منافس .قالت لي أمي يوما : " ان قدمت جل وسائل الراحة والنصيحة والمساعدة للأخر لكنه اختار أفكارا لن تقوده إلا الى الموت البطيء فتمني له حسن الخاتمة وابتعدي عنه دون ان تكلفي نفسك عناء الالتفات اليه لأنه من فصيلة النعام " . وأنت يا حبيبي لست أخرا . لقد كرهت مجاملة الغير فجاملت نفسي بأن قلت لها : انك طيبة وهم السيئون،ولأني ملكة بكرامتي سأعتلي عرش نفسي بأن لا أنافق أحدا . وأصارح نفسي وأصارحك أنت لاني حين عشقتك كنت انت الاصل وأنا الصورة ، وحين تزوجتك اصبحت روحك المرآة وروحي الانعكاس لأننا نحن الاثنين أصبحنا زجاج مرآة مقدسة تتأمل فيها آلهة الحب وجهها بزهو… لكن حين يصل آلآلام الى اقصى ذروته يفقد قيمته ويخف وزنه لأنه أصبحت لي قدرة هائلة للتصدي له لأني بجانب من أحب وأعشق . كثيرة هي المواقف التي أصبح فيها لست أنا لأتفادى جرح نفسي او احراج غيري . فأصاب بالزهايمر متى أشاء لتفادي اي ردة فعل غير محمودة اتجاه الاخر الذي لا يرحمنا ، ومع ذلك أجد خدوشا غائرة بقلبي حين أعود لواقعي ولا أستطيع الصفح ابدا لأنه كثيرا ما نتحمل فوق طاقتنا من اجل اشخاص يغادرون حياتنا دون ان يعتذروا على الازعاج وأنت لست كأي شخص التقيت به في طريقي ، بل انت تقاسمني أحداث حياتي. لا تصارع الاوهام في ذهنك انها مرهقة وستهزمك ،ولكن حارب الصعاب في واقعك فهي ملموسة وهزيمتها ستفرحك بنجاحك . هذه كلماتي اليك و الكلمات تتحدى الحدود التي نبنيها ،والحب الحقيقي يتحدى العواصف التي تواجهه …لكن الكرامة التي تتكسر يصعب اعادة بنائها لأنها حب للذات الانسانية و هذا من أرقى انواع الحب …. حلق مع فراش الابداع لتعانق الحياة حتى ولو كان لساعة واحد فخلود الكلمات تحرر الاجساد من عبودية الخنوع . فلتكون ثابتا على الارض يجب أن تحفر قدماك حفرة لهما بها. وأنا لا أقبل هجرتك للوطن من أجل المال ، لان لا أحد يهين المرأة أكثر من نفسها حين تقدم أول تنازل لها عن كرامتها مقابل المال . تبقى الهجرة مغرية بالرحيل النهائي ولكنها تسرق منا العمر حتى وإن زدنا نضجا . فكلما نضجت الكلمات والأفكار ،اصبحت قصبة الخيزران أكثر هشاشة في جعبة ا لعمر. عش بوطنك ولا تتقبل الفشل لان كثرة السقوط تعلم الانبطاح .ولا تكن مغرورا لان قاهر الاوز يموت غرقا …إن البعد هو الجلاد الذي يوسم أجسدنا بسياطه برضانا وإن كنت تظن أن هذا الجلاد عادلا ، فليأخذ جلدي ليصنع منهم طبلا ليزفك الى حيث تريد ان تطير. إن بالوطن كل شيء ممكن ، فحتى احلام النوم يمكننا ان نتفنن في اختيارها ،فيكفي ان يكون لنا فراش وثير ومرشوش بعطر جميل ، وأن ننام بجانب بمن نحب فليس هناك أي حلم مستحيل حتى في هذه الحياة. اعلم فقط أن كل الاشياء ان تراكمت في حياتك أصبحت خبرة في الحياة إلا الهم فانه يفجر القلب. فقد تتعب الأرواح من مغازلة الأشباح وتتعب الأشباح من مطاردة الأرواح …واللعبة أصلها صراع ابدي . وكل ما ابتلاك الله به هو نعمة لا يعلم سرها إلا هو. وإن كنت فنانا حتى النخاع اغتل القبح الذي يداهم مزاجك وقلبك بين الفينة والأخرى …فالإبداع رياضة روحية لتصفية الروح وتهذيب الذوق قبل ان يكون خلقا لشيء جميل .و الذين يتمتعون في حياتهم بأشياء مميزة ليسوا مضطرين لقول ذلك …الاشياء على مظاهر اصحابها تظهر ، بل كن كائنا نبت وسط خراب ليعيد ترتيبه ليصبح شيئا جميلا اسمه الابداع .. إن الحقيقة دائما يتيمة والحق دائما عاري لا يحتاج لمن يلبسه لباسا ليرضي الاخرين . إني ارفض الشفقة لأنها تجلب معها الموجات السالبة وتجعل حالة الفرد مرتبطة بالأخر وهذا شيء يفقده الثقة بنفسه . اني أقول لأحبتي ، تبقى القلوب مرايا شفافة …فلا تتعمدوا اللعب بها لأن كل واحد منا يسكنه عدوه اللذوذ …انه نفسه الامارة بالسوء ، و ما يهمني اليوم قد لا يهمني غدا لان اهتمامات الافراد تتعدد بهموم الحياة …..لكن تعجبني سيمفونية عشقك لان المايسترو كان هو قلبي …. و نبقى كلنا هبة الهية تمشي على قدميها ،و لكل واحد منا سبب لوجوده على هذه الارض لا يعلمه إلا خالقه والشيء الاكيد ان لا أحدا خلق عبثا. إني أبوح لك بأني انانية في عشق الوطن فليغفر لي نرجسيتي لأنه وجهي الذي انظر اليه في المرآة فيقولون : ماذا وهبك هذا الوطن ؟ أغبياء … لكل واحد أقول : الوطن هو أحبتك وعائلتك وعشيرتك وقبيلتك ..حتى وإن كنت جاحدا في حقه ، الوطن وهبك الآمان وحق الانتماء ولتحس انه وهبك شيئا ، هبه فقط حبك واحترامك وستحس انه وهبك الكثير وغادره ليوم فقط حتى تحس بقيمته في حياتك.إن لكل ارض نصيب مما غرس عليها ؛ فهناك ارض غرس عليها الزعفران وهناك أخرى غرست عليها الأشواك.فكن أنت زعفران وطنك وياسمينه .وأنا لن أثنيك عن قرار اتخذته عن قناعة ،ولكن أدعوك لمراجعة قرارك مادمت الفرصة بين يديك و لديك البديل عن ما بين يديك . سوف أعود الى بيتي وبعدها سأذهب الى أول مكان التقينا فيه قبل عشرين سنة حتى أداعب الذكريات .وحيث تكون الذكريات الجميلة ويكون الاشخاص الذين تقاسمناها معهم،يكون ذلك هو الوطن …. تركت يده وأغلقت أزرار معطفها الرمادي لتحمي نفسها من رياح هذا الصباح الشتوي البارد التي تتلاعب بخصلات شعرها الطويل الذي بدأ الشيب يغزوه بدون تردد. وابتعدت عنه وهي تدرك أن القرار الذي سيتخذه سيحسم مستقبل حياتهما الزوجية والى الأبد ، ولا يجب عليها أن تضغط عليه ليتراجع عن الرحيل فيكون قراره شفقة بها . ….