دعوة الملك محمد السادس لإحداث آلية للحوار السياسي بين المغرب والجزائر لها وجاهتها وواقعيتها، وتكتسي طابعا استعجاليا بالنسبة للطرفين وبالنسبة للقوى العالمية ذات التأثير في الإقليم في هذا الوقت بالذات لدرء الأخطار المترتبة عن تنامي العدائية في العلاقة بين البلدين المغاربيين الجارين وتحاشي أي انزلاقات يمكن أن تقود شمال غرب إفريقيا إلى وضعيات غير محسوبة. المغرب والجزائر لم يعد بينهما حوار، ولا يوجد بالجزائر محاورون للمغرب كما لا يوجد بالمغرب محاورون للجزائر، هذا الوضع غير طبيعي وغير معقول وغير مقبول بين بلدين جارين، وبغض النظر عن مختلف الروابط البشرية والثقافية والسياسية والتاريخية بينهما، في منطق العلاقات الدولية كما تطورت وتحضرت وارتقت لتتجاوز منطق الجماعات القبلية والقومية المتناحرة مند زمن بعيد، وبالأخص مند اتفاقية وستفاليا، لأن الجغرافية بقدر ما تمثل مصدرا للمشاكل، إذ الجوار صعب دائما ومصدر احتكاك وخلاف بين الجيران، فإنها توفر أيضا فرصا متى تغلب التعقل والتحضر على الحسابات الضيقة والميل الهيمني، بل وتسمح بالتطلع لتعاون مفتوح على المستقبل يذوب المشاكل، كما حدث في عدد من مناطق العالم التي عاشت ويلات الحروب وخرابها، وفي مقدمتها أوروبا القريبة منا، والتي تجمعنا معها علاقات متعددة الأصعدة والمستويات. إن العالم يريد لمنطقتنا أن تكون منطقة استقرار وتعاون واتخذ مبادرات في هذا الإطار بعد نهاية الحرب الباردة، ومنها تشجيع التعاون الأفقي من طرف الاتحاد الأوروبي وإحداث مجموعة 5+5 ومبادرة إزنشتات الأمريكية وغيرها، لكنها لم تفد، وعدم نجاحها يؤكد أن الحل للمشاكل القائمة بين المغرب والجزائر يمر عبر الحوار بينهما دون انتظار تدخل طرف ثالث، وإذا كان واجبا، وبالأولوية، أن يجري هذا الحوار بين الدولتين ومؤسساتهما الرسمية حول القضايا الخلافية وغير الخلافية بحسن نية ومراعاة للمصالح المشتركة التي يمكن تطويرها وللتحديات الكبرى المشتركة الواجب رفعها بشكل مشترك، ومنها الإرهاب الذي يتجه للاستقرار في منطقة الساحل والصحراء بعد هزيمته في سوريا والهجرة الكثيفة المرشحة للتدفق في ظل استمرار الفقر في إفريقيا جنوب الصحراء وجاذبية أوروبا بل وحتى صعود التيارات الفاشية والعنصرية في البلدان الأوروبية، فإنه يجب أن يجري باستمرار بين المجتمعات المدنية والشخصيات العمومية وأن تخلق فرصا له، على قاعدة التاريخ المشترك والشعور بالانتماء للمنطقة المغاربية كشعور راسخ رغم كل ما حدث ويحدث. لقد ترك رحيل جيل الوطنيين، الذين أسسوا لثقافة الوحدة المغاربية في إطار النضال المشترك ضد الاستعمار وبالأخص ضد "فكرة الجزائر الفرنسية"، فراغا يجب السعي إلى ملئه من طرف الأجيال التالية من السياسيين والمثقفين والفنانين والرياضيين والمهنيين ورجال الأعمال عبر خلق والإكثار من فرص الحوار والتبادل للتخفيف من العدائية التي تسم العلاقة بين البلدين، والتي تصل إلى حد العدوانية والحرب المفتوحة في ساحات متعددة، وتتحمل فيها الجزائر من دون شك مسؤولية كبرى. ومما لاشك فيه أنه يجب في هذا الإطار الحذر من مناورات أطراف خارجية لها مصلحة في استغلال الخلافات المغربية-الجزائرية وتأجيجها كي تضعف المغرب والجزائر معا، وتحد من ثقل شمال إفريقيا في القارة السمراء بحسابات اقتصادية واستراتيجية وجيوسياسية لا تخفى على أحد. فالتحالف الجزائري-الجنوب إفريقي، إذا ما أزيلت عنه أصباغ الأوهام المرتبطة بزمن آخر، هش ولا يخدم على المدى البعيد مصالح الجيران كما تخدمها علاقات تعاون متينة ومتطورة مع المغرب وباقي البلدان المغاربية التي تقوم بينها وبين الجزائر مشاكل في الوقت الحالي بسبب نهج جزائري غير واقعي وغير سليم في العلاقة مع الجوار، موروث في العمق عن "الجزائر الفرنسية" التي لم تتحرر منها كثير من الأذهان بعد تحرر الأرض. ولعل أسوأ ما يمكن أن يستمر، وما هو واقع حاليا، هو أن تتحول الجزائر إلى تابعة لمن خلقتهم وضمنت لهم البقاء وأن يستعمل هؤلاء شبكات لممارسة الضغط على القرار الجزائري وإبقائه رهينة لهم، كي يخدم وهمهم الزائل لا محالة، فالبيّن اليوم أن البوليساريو تستعمل علاقاتها مع دول جنوب القارة الإفريقية وبعض بلدان أمريكا اللاتينية وبعض المنظمات في أوروبا كي تمارس ضغطا معنويا ونفسيا على القيادة الجزائرية غايته الحيلولة دون وقوع أي تحسن ممكن في العلاقات المغربية الجزائرية أو أي حوار بين المغاربة والجزائريين، وهذا فخ يجب الانتباه إليه من كل الأطراف دولتية أو مدنية. من الصعب دائما تجاوز الحواجز النفسية، لكنه من الممكن دائما هدمها بسرعة في اللحظة التي يتغلب فيها العقل على الضغينة والعقلانية على اللاعقلانية وحساب المصالح الاستراتيجية على الحسابات القاصرة والضيقة الأفق والوزن بميزان الأخوة والمشترك الذي يجمع ويوحد على ما يفرق وما يفسد ويسمم العلاقات والتحضر على التخلف والانفتاح على الانغلاق. نعم هناك مشاكل في الجزائر تجعلها اليوم تغرق في الجمود على كافة المستويات، لكن ذلك لا يمنع مختلف المقررين من التعبير عن اختيار الخروج من الجمود في العلاقة مع المغرب، ولربما ساهم ذلك في التحرير من الجمود الداخلي الخطير على الشقيقة الجزائر وعلى المغرب والمنطقة.