بَصَمَ رئيسُ الحكومة، سعد الدين العثماني، على مشهد في غاية البؤس حينما ظهر، على شريط يتداوله رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يُصرًّ على الحديث باللغة الانجليزية رغم أنه لا يعرفها (كما تبين في الشريط) حتى بالمستوى الذي يعرفُها به عادةً تلاميذُ الثانويات. ليس من المعيب في شيء ألاَّ يُتقن المرءُ لغةً بعينها، أو أن يعرفها بدرجة أقلَّ من غيره، حتى وإن تعلق الأمرُ بلغة تفرض اليوم نفسها عالمياً مثل الانجليزية. فبإمكان رئيس الحكومة، أو أي متحدث آخر، أن يستعين بمترجم مهني يُعفيه من مشقة البحث عن المفردات، أو بالأحرى من حَرَج تسوُّلها من شفاه الحاضرين، كما فعل العثماني بنفسه وبالحكومة والدولة اللتين يمثلهما. ربما، لو كان رئيس الحكومة قد دَرَسَ الانجليزية، لَعَرَف أن لدى الإنجليز قولاً مأثورا: "المعرفة القليلة شيء خطير". ومعنى ذلك أن الإنسان الذي لا يتوفر إلا على معرفة قليلة يبقى عُرضةً لخطر الوهم، فتصوِّرُ له نفسُه أنه يمتلك، بالفعل، معرفةً كافية بموضوع معين، مع كل المخاطر التي ينطوي عليها الوهمُ إياه، من خطر التحوُّل إلى مسخرة أمام الناس إلى خطر اتخاذ قرارات خاطئة ومتسرعة. والحال أن رئيس الحكومة لا يمتلك حتى تلك "المعرفة القليلة" باللغة الانجليزية. فالرجل لا يعرف ما هي "حقوق الإنسان" بلغة شكسبير!! ثمة مفهومٌ صاغه سنة 1949عالمُ الاقتصاد الأمريكي، جيمس ستيمبل دويزنبوري، واستعاره لاحقاً عالمُ النفس اللبناني الشهير، مصطفى حجازي، هو مفهوم "أَثَر الاستعراض" (Effet de démonstration). وفي معناه الاقتصادي الصرف يُحيل هذا المفهوم على السلوك الشرائي للطبقات الأدنى من المجتمع، والتي تسعى إلى التشبُّه دائماً بالعادات الشرائية للطبقات الأعلى. أما في دلالته النفسية عند الدكتور مصطفى حجازي فهو يُحيل على سلوك المثقف "العربي" الذي يتظاهر بامتلاك معارف لا يمتلكها أصلاً. فهل كان هذا هو الدافع النفسي الذي جعل رئيس الحكومة، وهو طبيبٌ نفسي، يَضَعُ نفسَه في ذلك الموقف؟ لا أستطيع أن أجزم بالمُطلق. لكنَّ أعراض "أثر الاستعراض" كانت ظاهرة على رئيس الحكومة وهو يؤدي ما يوشك أن يكون شكلاً من أشكال الكوميديا السوداء أمام كاميرات الإعلام الوطني والأجنبي. في أحد لقاءاته مع الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الإبن، لم ينطق الملك محمد السادس إلا بضعة جُمل باللغة الانجليزية، ثم أعلن أنه سيتحدث الفرنسية قائلا للرئيس الأمريكي: "It's easier for me and safer for you"، أي أن الحديث بالفرنسية "أسهل بالنسبة لي وأَسْلَمُ بالنسبة لكم". وأفسح المجال أمام المترجم ليقوم بعمله رغم أنه يتحدث الانجليزية والإسبانية بطلاقة. لكنَّ العادة طبيعةٌ ثانية كما يقال. وحتى إذا كان المرء يعرف لغة ما لكنه لا يستعملها بشكل يومي فإن الحديث بها، بعد سنوات من الغياب عنها، يصبح مهمة غير مريحة. وحينما يكون المرْءُ ملكاً فإنه يمثل دولة وشعباً وكلُّ ظهور علني له يُحْمَل، بالضرورة، على صفته تلك ويجعله بالتالي مُلْزَماً بصيانة صورته العمومية لأنها جزء لا يتجزأ من صورة شعبه وبلاده. ولذلك آثر الملكُ الحديث باللغة التي يتيسَّرُ له الحديثُ بها أكثر. نفسُ الشيء فَعَلَه الملك الراحل، الحسن الثاني، أثناء إحدى زياراته للولايات المتحدةالأمريكية، إذ أصَرَّ على تنبيه الحاضرين إلى أن إنجليزيته "سيئة جدا"، رغم أنه تحدث بها بعد ذلك بشكل سليم. وفي زيارة لاحقة، بعد ذلك بسنوات، تحدث بالفرنسية. وحينما أخطأ المترجم في نقل جملة إلى الإنجليزية بادر الملك فوراً إلى تصحيح الخطأ، بما يفيد أنه كان يتقن النحو الإنجليزي بدرجة لا يستهان بها. هذا التواضُعُ من طرف الملكين يقابله الآن، مع الأسف الشديد، ذلك العنادُ المَرَضي من طرف رئيس الحكومة، وحرصُهُ الغريب على إعطاء صورة سيئة جدا عن تكوينه، وعن النظام التعليمي في بلده، وعن الناخبين الذين يُفترض أنهم هم الذين حملوا حزبه إلى المرتبة الأولى انتخابياً، وحملوه بالتالي إلى كرسي رئاسة الحكومة. فكأن هذا المغرب من أدناه إلى أقصاه يخلو من كفاءات حقيقية، تمتلك معرفة وتكوينا سياسيا يؤهلانها معاً للجلوس على ذلك الكرسي بدل "طبيب نفساني" يعاني عُقدة "أثر الاستعراض". والغريب فعلاً أن العثماني، الذي يهيم باللغة الانجليزية إلى هذا الحد، كان قد صرَّح بعد مدة قصيرة على تعيينه رئيساً للحكومة، بأنه كان يتقاضى تسعة ملايين سنتيم شهريا في العيادة التي كان يشتغل بها طبيباً نفسياً. فكم من درهم أنفق العثماني فعلاً على تعلُّم هذه اللغة التي يعشقها حدَّ نَحْرِ صورته، وصورة البلاد ومؤسساتها، على مذبحها؟ المنطق يقول إنه لم يبذُل في ذلك سنتيما واحدا وإلا لكان قد تعلم على الأقل كيف يركب جملة مفيدة واحدة حتى وإن كانت يتيمة. ولأن تعلُّمَ الانجليزية اليوم مُتاحٌ للجميع بالمجان عبر مختلف الوسائط المتوفرة على الشبكة العنكبوتية، فالأجدر بنا أن نترك سؤال الدراهم والسنتيمات إلى سؤال الوقت والجُهد: كم من الوقت أنفق العثماني في توخي أسباب لغة شكسبير؟ وما هو الجُهْدُ الفعلي الذي بذله في ذلك؟ لعل المنطق يقول، مرة أخرى، بأنه لو كلف نفسه عناء تعلُّم كلمتين يوميا خلال كل هذا العمر لكان يتحدث بها الآن أحسن من الانجليز أنفسهم. ولعلَّ ظناًّ خبيثا يجعلنا نتوقع أن يكون العثماني قد راهن على "الكشوف الربانية" لكي يتخرق الحجابُ، فجأة، بينه وبين اللغة الانجليزية وهو يقف أمام وسائل الإعلام. لكن "المعجزة" لم تحدث. لرُبَّما يذكر العثماني، أنه كان (إلى جانب عمله كطبيب نفسي) يعمل أستاذاً بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حيث كان يدرس الفقه وأصوله بشعبة الدراسات الإسلامية وشعب أخرى. ولعلَّه لم ينس زميلاً له، في نفس الشعبة، كان هو الآخر أستاذاً لأصول الفقه. فهذا الرجل، الذي لم يكن يتقاضى تسعة ملايين سنتيم، كان يُدرس في شعبة الدراسات الإسلامية ويتابع، في الآن نفسه، دراسته بشعبة اللغة الانجليزية وآدابها، واستطاع أن يحصل فيها على درجة علمية عالية. وبالتالي علينا أن نتساءل: ما الذي مَنَع العثماني من أن يحذو حذو زميله ما دام يعشق اللغة الإنجليزية كلَّ هذا العشق؟ ألم يكن تخصصه في الطب النفسي أدعى إلى ذلك من التخصص المشترك بينه وبين زميله ذاك، علماً أن المعرفة الطبية اليوم تُنتَج أساساً باللغة الانجليزية؟ يبدو أن العثماني كطبيب نفسي يكتفي بما تتم ترجمتُه إلى الفرنسية في أحسن الأحوال. والأمر نفسُه ينسحب على معرفته السياسية وعلى ثقافته العامة بأكملها. فالرجل لا يستطيع القراءة ولا التواصل إلا باللغة العربية أو باللغة الفرنسية إن كان فعلاً يتقنها هي الأخرى بدرجة عالية. وهذا يجعله دائما عُرضة لتلك "المعرفة القليلة" التي تشكل "شيئا خطيراً" كما جاء في القول الإنجليزي المأثور. فعالم اليوم لا تكفي فيه لُغتان حتى وإن كانت الإنجليزية إحداهما. والمشتغلون اليوم بالسياسة، والمعرفة، والإعلام، والفن، والاقتصاد...إلخ، لا غنى لهم بتاتاً عن تعلُّم أكثر ما يمكن من اللغات. وقد شاهدنا وشاهد العالم أجمع عددا من الدبلوماسيين الأمريكيين، والروس، وغيرهم يتحدثون العربية أحسن من كثير من العرب. يبدو العثماني في وضع شبيه بتلك القصة التي راجت عبر وسائط التواصل الاجتماعي، قبل ثلاث سنوات تقريبا: قصة ذلك "العاشق البريطاني البخيل" الذي صاحبته فتاة ذات مرة فاقتنى لها مشروباً. لكنها رفضت أن تلتقي به بعد ذلك فأمطرها بسلسلة من الرسائل النصية التي طالبها فيها بإعادة ثمن المشروب رغم أنه زهيد جدا، وربما كان ثمنه أقل من كُلفة الرسائل النصية التي ظل يبعثها إليها. كذلك يريد العثماني أن يتحدث الإنجليزية دون أن ينفق في تعلُّمها سنتيماً واحداً أو دقيقة واحدة. وهو في ذلك وَفِيٌ تماما لمنطق "الفقيه" الشعبي الذي يعرف فقط كيف يأخذ ويجهل تماماً كيف يُعطي، إذ تروي الحكاية الشعبية أن رجلاً ظل يصيح بفقيه بجانبه: "هات أيها الفقيه!" لكن الفقيه لم يلتفت إليه. وعندما لاحظ ذلك أحد الحاضرين سأله عما يريده من الفقيه فقال إنه كان يريد يده فقط كي يصافحه. وعندها صاح الرجل الثاني: "هاكَ أيها الفقيه!" فمد الفقيه يده على الفور وشفتاه تنطقان البسملة.