ينسى أو يتناسى بعض الذين أسندت لهم مهمة مخاطبة جموع المؤمنين يوم الجمعة أن وظيفة المنبر ليست للتحريض وزرع الفتنة وتكفير المخالفين في الرأي وترهيب المجتهدين في النص وتخوين المفكرين والمثقفين وتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين، الخ؛ وإنما وظيفته تربوية وتثقيفية وتوعوية، تتناسب وقدسية المكان والزمان. وبالتالي، فمن المفروض أن تتوخى خطبة الجمعة التيسير والتنوير والتبسيط وأن تبتعد عن السجال والخوض في المسائل الخلافية وفي الأمور السياسية وأن تراعي قيم مجتمعنا المجبول على الانفتاح والتعايش والتسامح والمتسم بالتعددية العرقية واللغوية والثقافية والسياسية. ومن المؤسف أن يعتلي المنبر أناس ليسوا أهلا للثقة، فيستغلونه لتصفية الحسابات مع مخالفيهم، سواء كان الخلاف فكريا أو عقديا أو سياسيا. ومن خطورة الموقف أن هذا الصنف من الخطباء لا يقيمون اعتبارا لشعور هؤلاء المخالفين الذين يرتادون المساجد للتعبد والتقرب إلى الله وليس لسماع كلام جارح أو نقد لاذع لا يسمح لهم المقام بالرد عليه وتفنيده. إن أمثال هؤلاء الخطباء يرتكبون جرما في حق المؤمنين الذين لا يشاطرونهم آراءهم (سواء كانت سياسية أو عقدية) ولا يؤمنون بأفكارهم ولا يتقاسمون معهم فهمهم أو تأويلاتهم للنص المقدس. كما أنهم يدوسون، بهذا الموقف، على قدسية المكان وحرمته. ونسجل أن القاسم المشترك بين هذا الصنف من الخطباء، هو محدودية العلم والمعرفة وضيق الأفق والجهل بقواعد الحوار، حتى وإن كان البعض منهم يتوفر على شهادات عليا. ويتجلى ذلك في رد الفعل العنيف (الذي وصل إلى حد إهدار الدم) على مقترح، بل مطلب، تقدم به الأستاذ "إدريس لشكر"، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بمناسبة (والمناسبة شرط، كما يقال) افتتاح المؤتمر السابع للنساء الاتحاديات، من أجل فتح نقاش (وحوار) حول بعض القضايا، ومنها مسألة الإرث، انسجاما مع ما النص الدستوري (الذي صوت عليه المغاربة بشبه إجماع يوم فاتح يوليوز 2011، بمن فيهم الذين يتنكرون لبنوده اليوم) الذي يقر المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق . وهو مطلب موجه، على كل حال، لأهل الاختصاص من علماء متنورين وفقهاء قانون متضلعين وخبراء اقتصاديين واجتماعيين متمرسين، الخ، وليس موجها لعامة الناس ولا لأنصاف العلماء والمتعلمين. وبما أن كلمة نقاش ترعب الذين ألفوا الاستحواذ على الكلمة من فوق منابر يمررون من خلالها كثيرا من التفاهات وكثيرا من الكلام الذي لا علاقة له بالعصر الذي نعيشه، فقد ثارت حفيظتهم، فأرغدوا وأزبدوا، وزندقوا وكفروا… وكأن المطالبة بالنقاش كفر بواح. فلو كان للناعقين والناهقين (من على منابر المساجد أو من خلال منابر إعلامية) اطلاع وعلم ومعرفة بالتراث الإسلامي الأصيل، لما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من تكفير وشيطنة وزندقة وغيرها لمجرد طرح بعض القضايا للنقاش. ففي نقطة الإرث، بالذات، التي اعتبرها البعض دعوة لتعطيل نص قرآني واعتبرها البعض الآخر هجوما على القرآن وتجنيا عليه، الخ، يقدم لنا السلف الصالح (الصالح حقا وفعلا، والذي لا نجد من حِلمه وعلمه وصلاحه شيئا عند من يعتبرون أنفسهم، اليوم، سلفيين ) أحسن مثال لتعليل هذا المطلب وتبيان شرعيته ومشروعيته: لقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في فهمهم وفي تطبيقهم للنصوص المتعلقة بالإرث؛ وقد كانت لهم فتاوى اختلفت من صحابي جليل لآخر. لكنهم لم يتلاوموا ولم يبدِّعوا بعضهم بعضا. أما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد حكم ل"حبيبة بنت زريق"، زوجة "عامر بن الحارث" بالنصف في ثروة زوجها بعد وفاته (عملا بمبدأ الكد والسعاية)، بالإضافة إلى الربع (لكونهما لم يكن لهما ولد). وإذا كان الأمر كذلك، في عهد الصحابة، الضالعين في اللغة العربية بالسليقة والمتلقين للنص القرآني من صاحب الرسالة مباشرة والمعايشين له والمطلعين على أسباب النزول، فما بالك اليوم، وقد أصبحت الحياة العصرية بالغة التعقيد وأصبحت الأوضاع الاجتماعية مختلفة كليا، ليس فقط عن تلك الفترة، بل وحتى عن عصر النهضة وما بعده! فهل سيكون "أبو النعيم"(عفوا! "أبو النعيق" أو"أبو الجحيم") وأمثاله أعلم وأحرص على النص من أصحاب رسول الله(ص)؟ "حاشا معاذ الله!". ودفاعا عن قدسية المساجد وحرمتها، ننبه الجهات المعنية إلى خطورة استعمال خطبة الجمعة لتمرير الخطابات الإيديولوجية التي تستفز المصلين المنتمين لتيارات إيديولوجية أخرى، خصوصا وأن بلدنا، والحمد لله، يتميز بالتعددية الثقافية واللغوية والسياسة وغيرها. فلا يحق لأحد أن يستغل منبر المسجد لتمجيد توجهه أو تحقير توجه غيره؛ فمنابر المساجد، يجب أن تبقى بعيدة عن الحسابات السياسية والخلافات الإيديولوجية. وقد سبق لي، في هذا الإطار، أن وجهت بتاريخ 6 يناير 2014، بصفتي كاتبا إقليميا للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، شكاية بخطيب مسجد "الفاضلية" بمكناس، إلى المندوبية الجهوية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وشكاية أخرى إلى السيد وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية، إيمانا منا بالمؤسسات وبدولة الحق والقانون. ويوم الجمعة 10 يناير 2014 سيكون لخطيب مسجد "بلبشير"، الواقع في قلب المدينةالجديدة (حمرية) بمكناس ، صولة وجولة في الهجوم والتهجم (بأغلظ التهم وأقذع النعوت) على الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعلى قيادته في شخص كاتبه الأول، الأستاذ "إدريس لشكر"، وكأن الرجل في تجمع انتخابي أو في مهرجان تعبوي لحشد الأتباع، وليس فوق منبر مسجد يؤمه المصلون من كل المشارب الفكرية والسياسية ومن كل الفئات الاجتماعية. وقد صادف أن وُجد في ذلك اليوم وبنفس المسجد الحاج "محمد محب"، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي وضعه هذا الخطيب أمام وضع محرج، يصعب معه السكوت لخطورة الأمر ويصعب معه رد الفعل احتراما للمقام؛ مما جعله ينسحب (من حسن الحظ أنه كان من بين المصلين الموجودين في ساحة المسجد وليس بالداخل)، بعدما عبر عن امتعاضه من هذا السلوك الهجين وشجبه لهذا الخطاب المشين، بحثا عن مسجد آخر يؤدي فيه صلاته في سكينة واطمئنان. ونتمنى أن يكون رجل الاستعلامات (الذي كان بعين المكان وسمع الخطبة وعاين احتجاج وانصراف "محمد محب") قد قام بالواجب في هذه النازلة. وبما أن جريدة "الاتحاد الاشتراكي" قد تعرضت يوم الاثنين 13 يناير 2014، في عمودها "من يوم لآخر"، إلى دعوات التكفير التي سجلها الاتحاديون والاتحاديات هنا وهناك، وتعرضت، كذلك، لخلفياتها وأهدافها، فإني سأحجم عن تقديم شكوى أخرى في الموضوع للأوقاف والقضاء (خصوصا وأنا المكتب السياسي لحزبنا قد قرر مراسلة وزارة الأوقاف في هذا الشأن)، ما دامت المسألة تكتسي طابعا وطنيا، ولم يعد الأمر مقتصرا على هذه المدينة أو تلك، مما يهدد التماسك المجتمعي والأمن العام ولأمن الشخصي والروحي للمواطنين بسبب خطاب التحريض على الكراهية والعنف، فإني أكتفي بالتوجه، من خلال هذا "الخطاب"، إلى من يهمهم الأمر (محليا، أولا، ووطنيا، ثانيا) وعلى كل المستويات، لتحميلهم المسئولية في تدارك الأمر قبل فوات الأوان. أما نحن في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فصراعنا ضد التخلف الفكري والتعصب الديني والاستغلال السياسي لديننا الحنيف وتهديد قيم مجتمعنا المتعدد عرقيا ولغويا وثقافيا وسياسيا والمتسم بالتسامح والتعايش والانفتاح، فمتواصل بعزم وإصرار. وهذا قدرنا. حتى لا ننسى: على كل من يقف وراء هذه الحملة التكفيرية ويذكي نيرانها ويوفر لها الوقود بتغذية الفكر الظلامي وتشجيع أئمته (الذين يشكلون مشتلا حقيقيا للإرهاب) بهدف خلق احتقان سياسي بغطاء ديني لإلهاء الناس عن الأزمة الحقيقية التي تتخبط فيها البلاد؛ وعلى كل الذين يعملون على تبرير الحملة التكفيرية ويبحثون لها على مسوغات بحجج واهية؛ على كل هؤلاء أن يتذكروا الأجواء التي سبقت أحداث 16 ماي المشؤومة، والتي لا تختلف عما نعيشه اليوم مع الحملات التكفيرية والاتهام بالزندقة والفسوق، بل وإهدار الدم.